500- تفصيل الكلام عن اختلاف المقومين وعن تعارض البينات في ملكية امر لشخصين ، ودلالة ذلك على المدعى
الاحد 25 ربيع الثاني 1436 هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(24)
لو تعارض المقوّمون فالأقوال ستة
وقال الشيخ الانصاري في المكاسب (مسألة: لو تعارض المقومون، فيحتمل: تقديم بينة الأقل للأصل([1]). وبينة الأكثر، لأنها مثبتة([2]). والقرعة لأنها لكل أمر مشتبه. والرجوع إلى الصلح لتشبث كل من المتبايعين بحجة شرعية ظاهرية، والمورد غير قابل للحلف، لجهل كل منهما بالواقع. وتخيير الحاكم، لامتناع الجمع وفقد المرجح. لكن الأقوى من الكل ما عليه المعظم: من وجوب الجمع بينهما بقدر الإمكان، لأن كلا منهما حجة شرعية، فإذا تعذر العمل به في تمام مضمونه وجب العمل به في بعضه)([3]).
مبنى كافة الأقوال إلغاء مدارية الاقربية
أقول: ومن الواضح ان كافة الأقوال (المشهور منها وهو السادس وغير المشهور وهو الأقوال الخمسة الأولى) مبنية على خلاف مسلك الاقربية للواقع وإلا لكان الواجب القول فيها جميعاً: (إذا تعارض المقوّمون وجب الأخذ بقول من له البينة الأقوى عدالة فإن تساوتا فالبينة الأكثر عدداً([4]) فإن تساوتا في العدد والعدالة فيؤخذ بقول الأكثر خبروية منهما – أو يقدم هذا على قسيميه السابقين – فإن تساوتا من كل الجهات فالبراءة أو الأكثر أو القرعة أو الصلح أو الرجوع للحاكم أو الجمع بين القولين). مع انه لم يفصل أحد منهم بذلك بل اطلقوا القول بما صاروا إليه من الأقوال الستة، نعم ذهب نادر من المتأخرين إلى ان مقتضى القواعد لزوم الأخذ بالأقوى خبرة ومع ذلك لم يلتزم بذلك ظاهراً في حواشيه على المكاسب([5]).
لو تعارضت البينتان
هذا كله في بعض الحدسيات واما في الحسيات فقد قال في (بيان الفقه):
(وفي البيّنتين هكذا، معظم المتأخرين ـ حتى القائلين بعدم حجّية فتوى غير الاعلم في عرض الاعلم ـ لا يرجّحون بالاقربية إلى الواقع مطلقاً، مع وجود روايات خاصّة بالترجيح كالخبر: «قضى ـ أي: علي ( عليه السلام ) ـ بها لاكثرهم بيّنة » والخبر: « كان علي (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلُهم سواء وعددُهم سواء، أقرع بينهم ».
ففي تكملة المنهاج، في تداعي رجلين زوجية امرأة وعدم إقرارها بذلك لواحد منهما ـ « وأقام كل منهما البيّنة على مدّعاه حلف أكثرهما عدداً في الشهود... وإذا لم يحلف أكثرهما عدداً... لم تثبت الزوجية، لسقوط البيّنتين بالتعارض »
ثم قال في الشرح ـ المباني ـ: « تدلّ عليه عدة روايات، منها: معتبرة عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال: « كان علي إذا أتاه رجلان.... »
مع أنّ في المعتبرة كما ذكر العدد ذكر العدل، والاعدل أقرب إلى الواقع، مع ذلك لم يرجّحوا به وهذا يكشف عن أنّ الاقربية إلى الواقع ـ بما هي ـ ليست ملاك حصر الحجّية في الاقرب)([6]).
صور تعارض البينتين في دعوى الملكية:
أقول: ويتضح كلامه دام ظله أكثر بالتطرق إلى صورة أخرى من صور تعارض البينتين وهي فيما لو تعارضت البينتان على ملكية شيء – كالدار أو الفرس أو المتجر – فان الصور ثلاثة:
1- لو كانت يدهما على الشيء فالتنصيف
الأولى: لو كانت يدهما عليه، وهنا فإن المشهور الذي كاد ان يكون إجماعياً هو التنصيف بينهما وعدم الترجيح بالعدد أو العدالة أو سائر المرجحات الموجبة للاقربية، والسرّ في ذلك على المشهور هو ان الملك مشاع بينهما فتكون يد كل منهما على نصفه المشاع فتقبل بينته على ما في يد الآخر وبالعكس لأنه الخارج واما الداخل فلا تقبل بينته إذ المنكر ليس له إلا الحلف([7]).
ولذا قال في الجواهر([8]): (يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد، مثل أن يشهد شاهدان بحقٍ لزيد ويشهد آخران أن ذلك الحقّ بعينه لعمرو، أو يشهدان أنه باع ثوباً مخصوصاً لعمرو غدوةً، ويشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت ونحو ذلك...)
( "فان" لم يمكن بأن "تحقق التعارض" بينهما على وجهٍ يقتضي صدق كلّ منهما تكذيب الأُخرى، كما لو شهدت إحداهما أنّ هذه العين ملك زيد الآن والأُخرى تشهد أنها ملك عمرو الآن "فـ" ـلا يخلو الحال عن أحد أمور ثلاثة أو أربعة؛ لأنه "إما أن تكون العين في يدهما، أو" في "يد أحدهما، أو في يد ثالث" أو لا يد لأحد عليها:
"ففي الأول يقضي بها بينهما نصفين" من دون إقراع ولا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية، بلا خلاف أجده بين من تأخر عن القديمين الحسن وأبي علي، بل صرّح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجحات الآتية في غير هذه الصورة...)
(وقيل([9]): "لأن يد كل واحد على النصف، وقد أقام الآخر بيّنة" عليه "فيقضى له بما في يد غريمه" بناء على تقديم بيّنة الخارج، فكل منهما قد اعتبرت فيما لا تعتبر فيه الأخرى؛ ولذا لم يلحظ ترجيح بالعدد والعدالة، وهذا هو الأشهر").
وقال (ويدل عليه: - مضافا إلى ما أسلفناه في كتاب الصلح من خبر الدرهمين وقاعدة توارد السببين الممكن إعمالهما معا على مسبب واحد نحو المتسابقين على حيازة مباح -:
(إطلاق خبر تميم بن طرفة: "إن رجلين ادّعيا بعيراً، فأقام كل واحد منهما بيّنة، فجعله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بينهما"([10]). لكن في بعض النسخ: "عرفا بعيراً"([11])، وحينئذٍ يكون ظاهراً في غير المقام، بل قد يقال بظهور "ادعيا" في ذلك، لا تداعيا فيما بينهما.
وإطلاق قوله ( عليه السلام ) في الخبر الآتي: "لو لم تكن في يد أحدهما جعلتها بينهما نصفين" مضافا إلى إطلاق النبوي السابق وغيره.
بل هو كاد يكون صريح المرسل عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أيضا (في البينتين تختلفان في الشئ الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بينة كل واحد منهما وليس في أيديهما، فأما إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يد أحدهما فالبينة فيه على المدعي واليمين على المدعى عليه)([12]).
2- لو كانت يد احدهما عليه فبينة الخارج مقدمة
الثانية: لو كانت يد أحدهما عليه دون الآخر فالمشهور شهرة عظيمة ان بيّنة الخارج تتقدم فيما إذا شهد ثالهما بالملك المطلق. والسر ما سبق من ان محل البينة وموردها هو الخارج أي غير ذي اليد إذ (البيّنة على المدعي) والخارج مدّعي، ومحل الحلف هو الداخل أي ذو اليد لأنه المنكر إذ (واليمين على من أنكر) فإقامة المنكر البينة لا موضع لها ولا وجه بل هي لغو.
ولذا قال في الجواهر([13]): ("و" أما الكلام "في الثاني" الذي هو أن تكون العين في يد أحدهما: فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنه "يقضى بها للخارج دون المتشبّث إن شهدتا لهما بالملك المطلق" مع التساوي في العدد والعدالة وعدمه، بل عن الخلاف والغنية والسرائر وظاهر المبسوط: الإجماع عليه، بل عن الأول والأخير نسبته إلى أخبار الفرقة.
وهو الحجة، بعد: المرسل السابق عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المنجبر بما سمعت...)
نعم يوجد قولان نادران مقابل ذلك – يؤكدان ان الملاك لدى المشهور هو غير الاقربية – وهما ما ذكره الجواهر([14]):
(نعم، في كشف اللثام نسبة الخلاف في المقام إلى المبسوط والوسيلة: فقدّما بيّنة الداخل؛ لتأيّد البيّنة باليد، ولما سيأتي من أدلة التقديم مع شهادتهما بالسبب بناءً على مساواة الإطلاق له أو أولويته منه...)
(وإلى الصدوقين والمفيد: لحكمهم بترجيح بيّنة الخارج بعد التساوي عدالةً، وزاد المفيد: "وعدداً"؛ لخبر أبي بصير سأل الصادق ( عليه السلام )...)
3- لو كانت في يد ثالث فالترجيح بالعدد والعدالة
الصورة الثالثة: لو كانت في يد ثالث، فهنا قيل بان المشهور هو الترجيح بالعدالة ثم بأكثرية الشهود ثم مع التساوي يقرع، ومع ذلك شكك الجواهر في انعقاد الشهرة، قال في الجواهر([15]):
("و" أما "لو كانت في يد ثالث" وهي الصورة الثالثة: ففي المتن وغيره: "قضي بأرجح البيّنتين عدالةً، فإن تساويا قضي لأكثرهما شهوداً، ومع التساوي عدداً وعدالةً يقرع بينهما، فمن خرج اسمه أُحلف وقضي له ولو امتنع أُحلف الآخر وقضي له وإن نكلا قضي به بينهما بالسوية".
بل في المسالك وغيرها: نسبته إلى الشهرة، بل في الغنية الإجماع عليه.
بل في الرياض نسبته إلى "الأشهر، بل عامة متأخري أصحابنا والنهاية وكتابي الحديث وموضع من الخلاف والحلّي والقاضي والحلبي وابن حمزة ويحيى بن سعيد وابن زهرة".
مع أنّه هو بعد ذلك قد اعترف باختلاف كثير من فتاوى القدماء في الترجيح بالأعدلية والأكثرية والرجوع بعد التساوي فيهما إلى القرعة....).
(ومن الغريب الركون بعد ذلك إلى دعوى شهرة محققة فضلاً عن إجماع ابن زهرة، وأغرب من ذلك اعتماده في الرياض عليه وجعله هو الجامع بين النصوص والفتاوى المختلفة، قال: "خصوصاً بعد اعتضاده بالشهرة المحكية، وما سمعته من إجماع الشيخ صريحاً وظاهراً وإجماع السرائر في الجملة").
تلخيص واستنتاج
والحاصل: انه وإن ثبت في هذه الصورة القول بالترجيح بالمرجحات فانه حيث ثبتت الشهرة ودلت الروايات في الصورتين السابقتين على عكس ذلك فيهما، ظهر انه لا يعلم ملاك حكم الشارع بالحجية في الموارد المختلفة إذ تارة لاحظ صِرف الطريقية والاقربية وأخرى لاحظها مع المصلحة السلوكية أو سائر المزاحمات أو لاحظ وجود المانع، فلا بد من الرجوع في كل مورد إلى الأدلة الخاصة به لنستظهر من لسان الدليل الخاص ان حجية هذه الحجة أو الامارة من أي باب هي، وبالجملة: لا ضابط عام في الحجج والامارات بتعين الأخذ باقربها للواقع.
ضرورة عقد مسألة أصولية لبحث مدارية الاقربية للواقع
تنبيه: كان من الاجدر ان تعقد مسألة أصولية خاصة لبحث مدارية الاقربية للواقع وعدمها، فكما بحثوا عن حجية خبر الواحد أو خصوص الثقة أو الشهرة أو الإجماع أو قول اللغوي أو الظواهر، كان لا بد من عقد مسألة لبحث ان الحجة هل هو الأقرب مطلقاً؟ أو في الجملة؟
بل ان هذه المسألة تعد من أمهات المسائل بل هي أمّ للكثير من المسائل الأصولية إذ يدور البحث فيها عن ان ملاك الحجية في كل الحجج هل هو الاقربية للواقع أو لا؟ وان كان الأوفق بناءً على هذا الأخير ادراجها في المبادي التصديقية لعلم الأصول. فتأمل.
وعلى أي فحيث لم تعقد مسألة خاصة لها اضطر الأصوليون والفقهاء لبحثها استطراداً هنا وهناك، ومن الواضح ان البحث الاستطرادي لا يتكفل عادة ببحث المسألة بكافة جوانبها وأدلتها وردودها كما هو المشاهد بالفعل في الأصول والفقه فتدبر، والله العالم – وللبحث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ((الْعِلْمُ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ وَالْحِلْمُ وَزِيرُهُ وَالْعَقْلُ دَلِيلُهُ وَالْعَمَلُ قَيِّمُهُ وَالصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ وَالرِّفْقُ وَالِدُهُ وَالْبِرُّ أَخُوهُ وَالنَّسَبُ آدَمُ وَالْحَسَبُ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةُ إِصْلَاحُ الْمَالِ)) (تحف العقول ص55)
([1]) أصل عدم الزائد أو أصل البراءة عنه.
([2]) أي وبينة الأقل جاهلة بالأكثر ومن يعلم حجة على من لا يعلم. فتأمل
([3]) المكاسب ج5 ص405-406.
([4])كما قالوا بذلك في مسألة أخرى قادمة، وقد يقال بالعكس أو بالتفصيل.
([5]) راجع ما نقله السيد العم في بيان الفقه ج2 ص20.
([6]) بيان الفقه ج2 ص22 – 23.
([7]) أو السرّ – لدى البعض – القول بالتساقط لدى تعارض البينتين، وفي هذا دلالة وافية على المطلب أيضاً إذ لو كان الملاك الاقربية للزم سقوط الأقل عدداً والأضعف عدالة فقط. أو السر لدى البعض ان بينة كل منهما تتأيد بيده فتقدم على الأخرى – وقد نقل هذين الوجهين المسالك – وهذا أيضاً واف بالمطلب إذ لم يقيد بتساوٍ في العدد أو العدالة.
([8]) جواهر الكلام ج41 ص595-600.
([9]) ذكرنا القولين الاخرين في هامش سابق فلاحظ، وهما دالان على المطلب أيضاً.
([10]) من لا يحضره الفقيه: القضايا / باب الصلح ح3276 ص36.
([11]) الكافي ج7ص419 ح5، وسائل الشيعة: باب 12 من أبواب كيفية الحكم ح4 ج27 ص251.
([12]) دعائم الإسلام: ح1863 ج2 ص522. مستدرك الوسائل: باب 10 ح1 ج17 ص372.
([13]) جواهر الكلام ج41 ص605.
([14]) جواهر الكلام ج41 ص609.
([15]) جواهر الكلام ج41 ص617-619.
الاحد 25 ربيع الثاني 1436 هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |