96- 4 ـ مقتضى الجمع بين ادلة الاحكام الاولية والثانوية ، هو التخيير نقاش مبنائي واقوال الفقهاء والاصوليين حول ذلك
السبت 6 جمادي الثاني 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لازال البحث حول قاعدة الالزام ,وهل ان مفادها هو الرخصة او العزيمة ؟ وهل نحن ملزمون بالعمل بمفادها ؟ ام نحن مخيرون في العمل بين الاحكام الواقعية الاولية والاحكام الواقعية الثانوية ومنها قاعدة الالزام على فرض كونها كذلك – اي حكماً واقعياً ثانوياً- ؟
وقلنا: ان هناك وجوها يمكن ان يستدل بها على كون القاعدة واردة مورد الرخصة لا العزيمة , وذكرنا من تلك الوجوه: ان ظاهر الرواية هو في الزامهم باحكامهم لا الزامنا بذلك,واما الوجه الثاني الذي ذكرناه فهو ان قاعدة الالزام واردة في مورد توهم الحظر وعليه فلا تفيد الوجوب, بل الجواز .
الوجه الثالث:واما الان فنذكر الوجه الثالث -وهو موطن الكلام -1, وهو ان يقال بان مقتضى الجمع بين ادلة الاحكام الواقعية الاولية وبين ادلة الاحكام الواقعية الثانوية هو التخيير في الجملة 2. وهذا الوجه من الناحية الظاهرية يتوجه اليه اشكال قوي وقد ذكرناه فيما سبق وهو ان ادلة الاحكام الثانوية حاكمة او واردة على ادلة الاحكام الاولية , أي : مع وجود ادلة الاحكام الثانوية فلا موضوع حقيقة – ولو بعناية التعبد – للاحكام الاولية ,ومعه فكيف يمكن الجمع بينها، بمعنى: ان مقتضى ذلك الجمع هو التخيير؟
وبتعبير اخر : ان بين الاحكام الاولية والثانوية هي الطولية وهذا امر مسلم والتخيير المدعى يقتضي العرضية فلا يعقل ذلك .
النقاش في هذا المبنى :وهذا الكلام المذكور مناقش فيه صغرى وكبرى وسنتحدث في كلا البعدين وبإيجاز ,حيث اننا تتبعنا اراء مجموعة من اعاظم الفقهاء وفتاواهم من جهة, ومبانيهم من جهة اخرى ,وايضا قمنا بتحليل ما قيل من تلك الطولية بين الاحكام ,ومن خلال مجموع كل ذلك توصلنا الى ان هذا الكلام وعلى اطلاقه ليس بتام ,وسيتضح ذلك من مطاوي البحث ان شاء الله تعالى .
الاراء والمباني :ونبدأ الان بذكر كلام مجموعة من الفقهاء مع الاشارة الى ادلتهم ومبانيهم ,ثم نذكر التحليل الذي نجيب به عن المبنى المدعى3,وسنذكر ارآء كل من السيد الوالد (قد) وكذلك رأي صاحب مصباح الفقيه وصاحب العروة والشهيد الثاني في المسالك, و رأي الميرزا النائيني في هذه المسألة ,وهذه الاراء تقع على جانبين متباينين ,وهي مستقاة من ابواب مختلفة من الحج والوضوء والتيمم والصلاة وكذلك قاعدة (لا ضرر) وغيرها .
الرأي الاول / وهو رأي السيد الوالد (قد) 4, وقد استغرب منه البعض , وتوهم انه رأي شاذ ,إلا اننا بالتتبع وجدنا ان عدداً من اعاظم الفقهاء ومنهم صاحب العروة والشهيد الثاني وغيرهم قد ذهبوا الى نفس هذا الرأي . حيث يذكر الوالد في الشرط السادس من شروط صحة الصوم- بحسب ترتيب العروة – وهو عدم وجود رمد او مرض الذي يضره الصوم, أي: ما يوجب شدة المرض او شدة الالم او طول المدة , فلو كان المكلف مبتلى بذلك وكان يوجب الصوم عليه شدة او طول مدة ,فان هكذا صوم باطل , هذا كلام صاحب العروة5. والوالد يفصل في ذلك ,ويرى تفصيله مما لا مجال لدفعه حيث يقول :
ان المرض والضرر على ثلاث اقسام 6 :(اولاً)الضرر البالغ الذي يحرم شرعا او عقلا اقتحامه, فلو صام المكلف والحال هذا فصومه باطل. (ثانياً)الضرر والمرض الخفيف واليسير, فلو صام المكلف بحيث ارتفعت درجة حرارته قليلا جدا او اصيب بصداع بسيط, فهنا الصوم واجب عليه قطعا والافطار حرام .(ثالثاًً)لو كان المرض شدةً او مدةً بدرجة متوسطة، بحيث لم يصل الى النحو الشديد المردوع عنه عقلا او شرعا , كأن يصاب الصائم بصداع شديد ولكنه لا يصل الى حد الخطورة ,فهنا السيد الوالد يرى – صناعيا وفتوائيا – ان الانسان مخير، وبحسب تعبيرنا : مخير بين الالتزام بالعناوين الاولية فيصوم , وبين الالتزام بالعناوين الثانوية – أي قاعدة لا ضرر – فلا يصوم .
الدليل على ذلك : والسيد الوالد يذكر عدة ادلة على مبناه في التخيير ,ونحن نشير الى واحد منها ,وهو قاعدة الامتنان , حيث ان قاعدة (لا ضرر) وقاعدة ( لا حرج ) لا كلام في انهما واردتان مورد الامتنان ,وهذا يقتضي رفع الوجوب – أي وجوب الصوم في موردنا – لا الجواز , فالله تعالى في مورد الصوم الضرري يمن علينا ومقتضى المنة عدم وجوب الصوم لا اكثر, ولا معنى للامتنان بتحريم الصوم على الصائم, وكذلك يستدل بروايات متعددة على ذلك ,والبعض منها دلالتها تامة في المقام ,ولكن حيث لسنا بصدد بحث هذه المسألة لا نطيل، وانما ذكرناها على نحو الاشارة لا اكثر .
الرأي الثاني / وهو رأي الفقيه الهمداني في كتابه المصباح, حيث يذكر في باب الطهارة وفي مبحث التيمم 7 كلاماً يناقض ما ذكره الميرزا النائيني (قد), وعبارته : " ان التيمم في الموارد التي ثبت جوازه بدليل نفي الحرج رخصة لا عزيمة " انتهى. وهذا يعنى انك مخير بين ان تلتزم بالحكم الاولي وهو الوضوء رغم وجود الحرج الشديد – كما لو توقف على استجداء ماء-, وبين ان تلتزم بالحكم الثانوي وهو التيمم ,
وبعبارة اخرى : ان الفقيه الهمداني يذهب الى ان تعيينية الوجوب تسقط لا تخييريته ,فهي باقية ,وعليه فله ان يستجدي الماء ويتوضأ, وله ان يتيمم وهو بالخيار في ذلك . ثم بعد ذلك يعمم المسألة من ( الحرج ) الى ( الضرر ) – حيث الاختلاف بينهما وقد فصل بينهما بعض الفقهاء –ويقول :
" كبعض موارد الضرر الذي يجوز تحمله لسائر الاغراض العقلائية فحكمه ما عرفت من موارد الحرج من كون التيمم فيه رخصة لا عزيمة "8 انتهى .
الرأي الثالث / وهو رأي الميرزا النائيني – وكلامه دقيق ولو ثبت فلا معنى للتخيير – حيث يقول :
" اننا نقطع بعدم التخيير بين الطهارة المائية والطهارة الترابية ؛لان ادلة الحرج والضرر موجبة لتقييد متعلقات الاحكام بان لا تكون حرجية او ضررية " انتهى ,هذا هو جوهر استدلاله .
توضيحه :كما هو واضح فان القيود على نوعين, فتارة يكون القيد قيدا للوجوب ,وتارة اخرى يكون قيدا للواجب ,والميرزا ( قده ) لا يقول ان القيد هو قيد للوجوب ,وانما هو قيد للواجب حيث يقول : "... موجبة لتقييد متعلقات الاحكام " والمراد من المتعلق هو الواجب وهو الوضوء في كلامنا, ومعنى ذلك ان ( لا ضرر ) في رأي الميرزا ليست قيدا للوجوب والحكم (كالزوال للصلاة او العقل للتكليف او الاستطاعة للحج ), وانما هو قيد لمتعلق الوجوب وهو الوضوء, فيكون عدم الضرر كالطهارة شرطاً في الصلاة , والحاصل: كما ان الوجوب قد تعلق بالصلاة مع الركوع و الصلاة بلا ركوع لا وجوب قد تعلق بها اصلا كما تعلقت بالصلاة مع الطهارة9.وهي ليست شرطا للوجوب وإلا للزم انه لو لم يكن المكلف متطهرا لما وجبت الصلاة وهذا واضح البطلان ؛ ولذا فان الطهارة هي شرط للواجب والمتعلَّق؛ حيث ان الوجوب قد تعلق بالصلاة عن طهارة ,
ومن كلام الميرزا: ان الضرر حاله حال الطهارة بالنسبة للصلاة فالوضوء غير الضرري قد تعلق به الوجوب ,ولو كان هناك ضرر فلا وجوب؛ولذا لو توضأت فوضوؤك باطل ؛لانه لا وجوب حيث لا امر به, ومعه فتصل النوبة الى التيمم حيث لا غير له . وبعبارة اخرى: ان الامر يدور بين ان يكون الوضوء ليس بضرري فهو الواجب لا غير ,وبين ان يكون ضرريا فالتيمم هو الواجب لا غير, فالطولية واضحة بينهما.
ونفس ما ذكره الميرزا في قاعدة ( لا ضرر ) يجري في مطلق العناوين الثانوية مع الاولية – لو قبلنا بهذا المبنى – ونحن سنناقش الميرزا بنقاشين وسيأتي الكلام عنهما ان شاء الله تعالى10. والرأي الاخر : هو للسيد العم في بيان الفقه حيث يستدل في قاعدة ( لا ضرر )11 بثلاث ادلة ووجوه لكون القاعدة رخصة لا عزيمة : الوجه الاول : وهو ان اللسان في قاعدة ( لا ضرر ) واحد في العبادات والمعاملات .
وحيث انه نه مما لا شك فيه ان قاعدة لا ضرر واردة مورد الرخصة في المعاملات حيث انك لو اقدمت على المعاملة الضررية فليست بباطلة ولك ان تفسخ العقد إلا انك لست ملزما بذلك فالامر كذلك في العبادات فلا يصح ان نقول انها عزيمة فيها . الوجه الثاني : ان نفس روايات قاعدة لا ضرر ظاهرة في الرخصة 12. الوجه الثالث : انه من لاحظ سيرة المعصومين عليهم السلام في عباداتهم13, فانه سيجد انهم قد تحملوا الاضرار المختلفة في ذلك ,ومعه فلو كانت قاعدة لا ضرر واردة بنحو العزيمة لا الرخصة لبطلت عباداتهم وهذا باطل بالضرورة . والخلاصة / ان قاعدة لا ضرر واردة مورد الرخصة لا العزيمة ,والله تعالى قد خيرنا فيها 14.
الرأي الاخير : ونذكر اخيرا كلام صاحب العروة في كتاب الحج وفي مسألة لو كان مريضا او كان الطريق ليس بآمن ومع ذلك حج المكلف 15فهل حجه باطل؟ وصاحب العروة يفتي هنا بالتخيير والعرضية حيث يقول – اجمالا - : ان الضرر و الحرج اذا لم يصلا الى حد الحرمة انما يرفعان الوجوب والالزام لا اصل الطلب, فاذا تحملهما واتى بالمأمور به كفى). انتهى
والمتحصل / ان القول بالتخيير بين العناوين الاولية وبين العناوين الثانوية توجد له تطبيقات كثيرة وفي ابواب مختلفة, ونحن نجد فتاوى مجموعة من اعاظم الفقهاء على ذلك ؛ولذا لابد من رؤية ادلتهم والبحث عن اتجاهاتها ومساقاتها ومدى تماميتها, فلو قادت هذه الادلة الى التخيير, فالامر كذلك في (الالزام), فلو ان المخالف طلق ثلاثا في مجلس واحد فلعله يمكن القول بان المورد مورد التخيير بين الزام الخصم ببينونة زوجته او الترخيص ببقاء زوجيتها16 وسيأتي تفصيل ذلك ان شاء الله تعالى . وصلى الله على محمد واله الطاهرين ...
الهوامش..................................................................................................
1) وهو بحاجة الى تحليل وتأمل وتظهر ثماره في ابواب كثيرة
2) وهذا القيد مهم لتوضيح المختار النهائي لنا في المقام
3) وهو كلام الميرزا النائيني لانه هو ممن رفع راية الطولية، وبالتالي عدم امكان التخيير بين الاحكام الاولية والثانوية
4) الفقه : كتاب الصوم / مجلد 36 / الشرط السادس
5) العروة الوثقى / كتاب الصوم / الشرط السادس
6) والمرض مصداق من مصاديق كلي الضرر
7) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 463
8) والركوع جزء والطهارة شرط، وكذا عدم الضرر فانه شرط.
9) لا شك في طولية التيمم مع الوضوء
10) واحد النقاشين هو للمحقق العراقي قده
11) وهذا البحث ليس بمطروح في قاعدة الالزام ولكنه بعينه يجري فيها فلذا كان لزاما علينا التتبع في موارد قاعدة لا ضرر لنرى ما يمكن ان نستثمرمنها في المقام
12) كما هو معروف في قصة سمرة وشجرته حيث ان الرسول قد امر صاحب الدار بقلعها حيث قال : اذهب فاقتلعها وارم بها . ولم يقل احد بوجوب فعل ذلك على صاحب الدار وانما هو مخير في ذلك
اي في موارد الضرر المتوسط غير البالغ الذي يعلم من الشرع تحريمه.
13) حيث ورد في الخبر ان النبي الاعظم صلى الله عليه واله كان يصلي على اطراف قدميه وعلى اصابعه لمدة 10 سنوات حبا لله وشدة في الطاعة والعبادة له تعالى حتى هزل جسمه واصفر لونه وهذا ضرر كبير فهل العبادة والحال هذه باطلة ؟والجواب كلا قطعا ليس كذلك
14) اي في موارد الضرر المتوسط غير البالغ الذي يعلم من الشرع تحريمه.
15) العروة الوثقى / الحج / شرائط الحج / مسألة 65
16) سياتي الكلام حول ان التخيير خاص بالقاضي لو راجعه القوم او يعم صوراً اخرى.
السبت 6 جمادي الثاني 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |