بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حولة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لا زال الكلام في التمهيد الذي ذكرناه ليكون توطئة للدخول في قاعدة الالزام ,وقد وبينّا انها من القواعد المهمة جدا , وتناولنا في بداية بحثنا ضابط التفريق بين المسألة الاصولية والقاعدة الفقهية فبعد تحرير وبيان المناط في كل منهما سيتبين ان قاعدة الالزام المراد بحثها هل هي مسألة اصولية او فقهية اوهي قاعدة فقهية ؟وقد ذكرنا ضابطين للتمييز بين المسألة الاصولية والقاعدة الفقهية ونذكر الان مقياس وضابطا ثالثا لذلك ولعله الضابط الاوضح والاسهل بينها .
*المقياس والضابط الثالث : ان القاعدة الفقهية هي برزخ ووسط بين المسألة الاصولية والمسألة الفقهية . توضيحه : المسائل الفقهية هي عبارة عن محمولات تكليفية (كالوجوب وغيره) او وضعية ( كالملكية والسببية وغيرها ) لمواضيع خاصة , مثل( الصلاة واجبة) , (غسل الجمعة مستحب مؤكد ), فالاستحباب والوجوب ونظائرها محمولات تكليفية على موضوعات خاصة ومحددة وهي ( الصلاة والغسل ) وهذه المسائل (أي الفقهية ) ضيقة من حيث الموضوع ؛لانها ذات موضوع خاص, واما المسائل الاصولية فهي التي تكون محمولاتها ( وضعية) فقط , ونقصد من الوضعية (الحجية)او يلحق بها كما في الاصول العملية فتأمل , وهذه المحمولات تنطبق على موضوعات عامة تطوف بكل ابواب الفقه او اغلب ابوابه ومثاله ( خبر الواحد حجة ) و( الظواهر حجة ) , فكل من خبر الواحد او الظاهر هما موضوعان عامان ينطبقان على ابواب كثيرة في الفقه – ان لم تكن مستوعبة لها - فلذا هي موضوعات وسيعة وعامة . واما القاعدة الفقهية فهي برزخ ووسط بين الاولى والثانية , فمثلا قاعدة ( ما بضمن بصحيحه يضمن بفاسدة ) وعكسها ( ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ) هذه قواعد سيّالة ولكنها ليست شاملة لكل ابواب الفقه بل لبعضها فقط فهي تجري في باب المعاملات من الاجارة والصلح والهبة وغيرها , ولا تجري في ابواب اخرى كالصلاة والحج ولذا صارت القاعدة الفقهية دائرة وسطية بين المسألة الاصولية والمسألة الفقهية .
والحاصل: ان المحمولات اما ان تحمل على موضوع خاص كما في المسألة الفقهية او على بعض العناوين كما في القاعدة الفقهية او على كل المواضيع كما في المسألة الاصولية , ولزيادة التوضيح نضرب مثالا آخر وهو قاعدة ( لا تعاد الصلاة إلا من خمس ) فهي تنطبق على عدة مواضيع فمثلا من ترك الطهارة تجب عليه الاعادة وان كان غافلا او ناسيا او جاهلا , قاصرا كان او مقصرا, وكذا من ترك الركوع او السجدتين, واما من ترك التشهد او القراءة فلا وجوب عليه بالاعادة إلا لو كان عامدا او جاهلا مقصرا –على رأي - وهذا الضابط سهل وواضح ويمكن تطبيقه بصورة ميسرة .
*الضابط الرابع : وهو ما ذكره السيد الخوئي (قد) للتفريق بين المسألة الاصولية والقاعدة الفقهية حيث يقول ان القاعدة الفقهية يستفاد منها في مقام ( التطبيق) بينما المسألة الاصولية يستفاد منها في مقام (التوسيط ), فلدينا هنا تطبيق وتوسيط ,ولعل للميرزا النائيني (قد ) كلمات قريبة من هذا المضمون في فوائد اصوله .
والفرق بين التطبيق والتوسيط هو ان المسألة الاصولية تقع واسطة لاثبات الحكم الكلي الالهي فلدينا توسيط وواسطة ,بينما القاعدة الفقهية هي بنفسها حكم إلهي كلي فقهي يطبق على جزئياتها فهنا تطبيق لا غير , ومثاله من القواعد الفقهية : ( الزعيم غارم ) فالزعيم هو الكفيل وعليه يقع الغرم عند عدم إيفاء من تكفله ويمكن تطبيق هذه القاعدة على هذا الجزئي او ذاك او ذلك وبالتالي فلا يوجد التطبيق على مصاديق وجزئيات لحكم كلي إلهي فقهي , واما مثاله في المسألة الاصولية فـ (الغناء حرام ) او ( الكهانة محرمة ) او ( بيع الكالئ بالكالئ باطل ) فعندما يريد الفقيه استنباط حرمة الغناء ونظائره فلابد ان يستعين بمسألة اصولية حيوية وهي ان ( خبر الواحد حجة ) فلو ثبتت الحجية لأخذنا بذلك الخبر الذي نقل هذا الحكم أي ثبوت الحرمة للغناء وهنا نجد ان في مسألتنا الاصولية ( خبر الواحد حجة ) توسيط لاستنباط حرمة الغناء ف لدينا استنباط وتوسيط ,ومن هنا يظهر ان هذا الضابط أي الرابع للتفريق بينهما متفرع على الالية والاستقلالية اللتين ذكرناهما فيما سبق فالمسألة الاصولية الة ووسط لتحصيل الحكم الشرعي الالهي وغرضها الوصول له ,بينما القاعدة الفقهية هي قاعدة استقلالية تطلب لنفسها وتطبق على مصاديقها وجزيئاتها كما اوضحنا, والكلام نفس الكلام في بقية القواعد , ومن خلال كل ذلك نجد ان بعض الضوابطقد يكون مرآة للاخر او دليلا عليه او لازوما له .
*الضابط الخامس : وهذا الضابط فيه دقة وكلام طويل ولكننا نشير اليه على سبيل الاختصار فنقول قد ذكره الميرزا النائيني (قد) 1 في فوائده بحثا عن الجامع المشترك بين القاعدة الفقهية والمسألة الاصولية ؟ ثم عن المائز بينهما , فاما الجامع بينهما فان كليهما يقع كبرى في عملية استنباط الحكم الشرعي . توضيحه : مثال (1)
- ان السواك مما اخبر باستحبابه الثقة .... صغرى
- وكل ما اخبر باستحبابه الثقة فهو مستحب .. كبرى
اذن السواك مستحب... النتيجة
فنجد المقدمة الثانية ( الكبرى ) هي كبرى تقع في طريق الاستنباط وهذه مسألة اصولية .
مثال (2)
- هذا زعيم ... صغرى
- وكل زعيم غارم... كبرى , وهذه قاعدة فقهية
اذن هذا غارم .. النتيجة
فالمقدمة الثانية هي كبرى كذلك وتقع في طريق الاستنباط وهي قاعدة فقهية
مثال (3)
- فاطمة (ع) ذات يد على فدك .. صغرى
- وكل ذي يد هو مالك .. كبرى , وهذه قاعدة فقهية
اذن فاطمة (ع) مالكة لفدك نتيجة , وهذه قاعدة فقهية ايضاًومن خلال هذه الامثلة اتضح ان الجامع بين المسألة الاصولية والقاعدة الفقهية ان كلا منهما يقع كبرى في عملية الاستنباط ولكن ما هو الفارق والمائز بينهما ؟
ويجيب الميرزا : ان نتيجة المسألة الاصولية لا تكون إلا حكما كليا دائما ,واما القاعدة الفقهية فنتيجتها قد تكون حكما جزئيا (وهو الاغلب ) وقد تكون حكما كليا ( وهو الاقل ) -ونحن نقول الاقل جدا - والامر في القاعدة الاصولية واضح لا يحتاج الى مزيد بيان , واما في القاعدة الفقهية فيحتاج الامر الى توضيح . إذ فيها :تكون النتيجة اما حكما جزئيا واما حكما كليا , والقسم الاول كذلك لا يحتاج الى مزيد بيان واماالقسم الثاني فهو الذي يحتاج الى ذلك , ومثاله ( قاعدة الطهارة) وهي قاعدة فقهية معروفة وعند تطبيقها تنتج احكاما جزئية ولكنها في بعض الاحيان تنتج كذلك احكاما كلية , كما في صورة الشك في ان معدن الحديد هل هو طاهر او لا ؟ فنقول بناءا على هذه القاعدة (الحديد طاهر) وهو حكم كلي ناتج عن تطبيق قاعدة الطهارة الفقهية , وفي مثال آخر ( عرق الجنب من الحرام طاهر ) هذا حكم كلي اخر وهو ناتج من قاعدة الطهارة وكذا الامر فيمن انكر ضروريا من ضروريات الدين وهو غير ملتفت له فهل هو نجس او لا ؟ والجواب هو طاهراستنادا لقاعدة الطهارة لدى الشك وهذا حكم كلي كذلك .
ثم ان الميرزا استشكل على نفسه وقال ان هذا الضابط غر مطرد لانه ينقض بالاستصحاب , فانه هو مسألة من مسائل علم الاصول , لكن لو جئنا الى ضابط القاعدة الفقهية المذكور لوجدناه ينطبق على الاستصحاب كذلك لان الاستصحاب في بعض الاحيان ينتج احكاما جزئية كما انه ينتج احكاما كلية فهو يجري في الكليات والجزئيات على حد سواء وهذا ما اشكل به الميرزا على نفسه وللحديث صلة .وصلى الله على محمد واله الطاهرين
1) في المجلد الاول والرابع من كتاب فوائد الاصول