بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيَّما خليفة الله في الأرضين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
تنبيهٌ : تمامية قاعدة اللطف
حيث سبق في البحث الماضي طرح شبهة حول قاعدة اللطف وانها لولا تماميتها لما امكن القول بحجية الظواهر، فلابد من الاشارة باقتضاب الي ادلتها وتماميتها اولا ثم الاستدلال على حجية الظواهر بغيرها ايضا .فنقول :
من الادلة علىٰ قاعدة اللطف:
انه لا ريب في وجوب اللطف، وهو المقرِّب ([1]) الىٰ الطاعة والمبعِّد عن المعصية ، علىٰ الله تعالىٰ ويظهر ذلك عبر ملاحظة الدليل عليه فانه احد امرين: اما اقتضاء (الحكمة) له او اقتضاء (رحمة الله ) له.
أ- برهان (الحكمة)
اما الحكمة فانه لا ريب في ان مقتضىٰ الحكمة – وهي : وضع الاشياء مواضعها - ان يقرِّب الله عبيده لطاعته التي بها قوام سعادتهم في الدنيا والآخرة ، اذ بذلك يتحقق الغرض من الخلقة ويخرج الخلق عن العبثية وقد قال تعالىٰ ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ([2]) و ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ([3]) ولا ريب ان عمدة المقرِّب لطاعته والمبّعد عن معصيته هي: الظواهر (من امر و نهي و عام و مطلق و…) ولو لا حجيتها لما امكن الا في النادر([4]) معرفة اوامر الشارع ونواهيه و مراداته التي يتقرب بها العباد اليه فيلزم من عدم حجيتها نقض الغرض من (الخلقة) و (من البعثة) و من (التكليف) ([5])
ولا ريب ان العمل علىٰ خلاف الحكمة قبيحٌ([6]) فعدم اللطف قبيح يستحيل صدوره منه تعاليٰ استحالة وقوعية وان لم يكن محالاً ذاتاً.
ب – برهان الرحمة
واما ( الرحمة) فانها و ان كانت تفضلاً غير واجب ، الا انها وجبت عليه تعالىٰ لالزامه نفسه بها اذ قال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)([7])
مناقشة (مصباح الاصول) و (آراؤنا)
واذا ظهر ذلك ظهر عدم تمامية ما ذكره في مصباح الاصول:(وفيه اولا : عدم تمامية القاعدة في نفسها ،إذ لا يجب اللطف عليه تعالى بحيث يكون تركه قبيحا يستحيل صدوره منه سبحانه، بل كل ما يصدر منه تعالى مجرد فضل ورحمة علي عباده)([8])
فانه غير تام سواء أكان منشأ اللطف (الحكمة) اذ يستحيل وقوعا عليه تعالىٰ خلاف الحكمة ، ام كان منشؤها (الرحمة) اذ انه وإن لم يستحل عدم الرحمة عليه بذاته الا انه حيث الزم نفسه بصريح الآية بها قَبُح خلافه فاستحال وقوعاً عدمُ اللطف منه.
كما ظهر عدم صحة : (ان عقولنا لا تكون قابلة لدرك هذه الامور وما يكون لازماً لساحة قدسه )([9])
لوضوح كون قبح خلاف الحكمة([10])، من المستقلات العقلية ،وكذلك قبح مخالفة ما كتبه على نفسه جل اسمه ، كوضوح قبح الظلم عليه تعالىٰ، فكما لا يصح القول في مسألة صدور الظلم منه: انّ عقولنا لا تكون قابلة لدرك قبحه في حقه وعدمه، كذلك قبح مخالفته الحكمة او مخالفته ما كتبه علىٰ نفسه.
الجواب عن شبهة نقض (اللطف) بالفِتَن والإضلال و …
لا يقال: لكن (اللطف) منقوض بالمتشابهات والفِتَن والإضلال والبداء وغيرها من المبعِّدات عن الطاعة؟
اذ يقال: ان اللطف في ضمن معادلة الامتحان ، واجب، اذ ذلك هو مقتضىٰ الحكمة فان الحكمة هي في ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )([11]) فبالمقرّب للطاعة جعل امامه طريق الفلاح وبالمضلات والمتشابهات و غيرها جعل امامه طريق الضلال ثم له الاختيار
ويوضِّحه قوله تعالىٰ: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )([12]) فإلهام التقوىٰ مقرب والهام الفجور مبعِّد والمجموع لازم كي يتم الامتحان، وذالك هو فلسفة خلق الانسان والا لما خلق الله تعالىٰ الا ماهو ممحض في الشوق الى العبادة والطاعة وهم الملائكة ، وذلك خلاف الفرض، كما انه خلاف اقتضاء وجود الله وكرمه افاضة الوجود علىٰ كل قابلٍ له مما هو خير محض او خيره اكثر من شرِّه ، من الاقسام الخمسة ، علي ما فصله علماء الكلام وأوضحناه في بعض المباحث .
وعلي اي فانه (لو فرض خفاء بعض المصاديق واحتمال المزاحم فانه لا يضر بحكم العقل الكلي…)([13])
واما الصغرىٰ فلوضوح انه لو لا جعل الظواهر حجة علىٰ مرادات الشارع ، لما تحقق المقرب لطاعة الله تعالىٰ فانهار احد ركني قاعدة الامتحان ولكان الخلق سفهائياً لاعلى وفق الحكمة . فتدبر جيداً.
مرجعية (النقل)كدليل علي حجية الظواهر حتي علي فرض عدم تمامية القاعدة
ثم انه لو تنزلنا، فلنا الاستناد الي غير قاعدة اللطف لاثبات حجية الظواهر وهو الادلة النقلية كقوله تعالىٰ: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)([14]) فانها نص([15]) في ان لسان الرسول هو:لسان القوم ولا شك ان لسان القوم هو الاستناد الىٰ الظواهر في شتىٰ شؤونهم
لا يقال: الاستناد الىٰ النقل لاثبات قاعدة اللطف دوري؟
اذ يقال: انما يكون دورياً لو استندنا الي النقل لاثبات قاعدة اللطف في إثبات اصل بعثه الانبياء، لكن المستند في المقام هو النقل ، بعد فرض الفراغ عن اصل بعثه الانبياء وارسال الرسول( صلى الله عليه وآله ) وكون القرآن معجزة ، فيستند اليه – اي الىٰ القرآن – لاثبات المراتب اللاحقة من اللطف كحجية ظواهر الكتاب .
والحاصل : ان مصاديق اللطف متعددة فبعضها لابد من ثبوته بالعقل – وهي ما يثبت به اصل النبوة والامامة ومصداقهما – وبعضها يكفي في ثبوته النقل – وهو ما كان بعد الفراغ منهما وثبوت كونه نبياً فبقوله يثبت ان هذا المصداق اللاحق – كالزلزلة مثلاً – لطف. فتدبر جيداً
تتمة مناقشة دعوىٰ وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب
الفرق بين مقام الفتوىٰ و(حكمه) وبين مقام التعليم و (الحكم)
سبق : ان القدر المتيقن في مقام التخاطب انما يخل بالاطلاق اذا كان في مقام بيان الفتوىٰ لا فيما اذا كان في مقام التعليم وبعبارة اُخرىٰ: انمايخل بالاطلاق اذا كان في مقام بيان (حكمه) بلحاظ ما احاط به من مكتنفات وخصوصيات ، دون ما لو كان في مقام بيان (الحكم) بما هو كلي طبيعي محمول علىٰ الموضوع بما هو جنس.
ونضيف: ان السر في ذلك: ان مقام الفتوىٰ ومقام (حكمه) ليس مقام بيان الضوابط الكلية وملاكات احكامه، واما مقام التعليم ومقام (الحكم) فهو مقام بيان ضوابط احكامه العامة ومداراتها (اي ما عليه مدارها) فلا جَرَمَ كان عدمُ ذكرِ قيدٍ في المقام الثاني دليلاً علي عدم اخذه في الحكم لكونه في مقام بيان كل ما له مدخلية في حكمه كقاعده عامه مطرده.
واما عدم ذكر القيد في المقام الاول فلايصح دليلاً علي عدم اخذه في الحكم، بل حيث انه كان في مقام الفتوىٰ وبيان النتيجة النهائية بعد لحاظ كل العوامل والمكتنفات العامة والخاصة الدخيلة في ثبوت هذا الحكم (الشخصي) علىٰ هذا الشخص الخاص فانه من المحتمل جدا ان تكون خصوصية المورد مما لاحظها المولىٰ اذ (افتىٰ) و معه لا ينعقد الاطلاق كما لا يخفىٰ.
توضيح الفرق بالمثال
ويوضحه المثال الآتي : فلو قال الموليٰ (الكذب في الاصلاح جائز) وكان المورد مورد اقتتال بين فريقين ، كما هو مورد الآية: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ...) ([16]) فان كان الموليٰ فى مقام بيان (الحكم الواقعي الكلي) و(التعليم) واعطاء الضابطة الكلية فان المورد لا يخصص الوارد وخصوصيات مقام التخاطب لاتُخصِّصه.
وان كان في مقام بيان (حكمه) في الواقعة الخاصة بما لهامن خصوصيات مكتنفة و (الفتوىٰ) وبيان حكم هذه القضية بعد ملاحظته كل المكتنفات الخارجية فان المورد يخصص الوارد، اي خصوصياته مخصِّصة اي لا اطلاق عندئذ في هذا الكلام اذ لعل للخصوصيات – والفرض انه في مقام الحكم بلحاظ كل المكتنفات- دخلا في الحكم.
ومنه يظهر ان قاعدة المورد لا يخصص الوارد انما تجري فيما كان في مقام التعليم والقضية الحقيقية لا ما كان في مقام الفتويٰ والقضية الخارجية.
واما المقام فالظاهر ان (اصلحوا…) وردت في مقام التعليم واعطاء الضابطة الكلية العامة اذ الخطاب لكل المسلمين علىٰ مرالتاريخ فليس لخصوصيةِ الموردِ والاقتتال مدخليةٌ.
وكذلك الحال في محل البحث فان الظاهر أنَّ (ليتفقهوا…لينذروا… ليحذروا) واردة في مقام بيان الحكم الكلي كضابطة عامة، لوضوح ان الخطاب لكل الاجيال، وليست في مقام الفتوىٰ والقضية الخارجية ، فلا يُخِلُّ بها القدر المتيقن في مقام التخاطب لو فرض([17])
ومع هذا الظاهر فنحن في غنيٰ عن التمسك بالاصل ورغم صحته وكفايته لو وصلت النوبة اليه ([18])
المعنىٰ الاعم للقدر المتيقن في مقام التخاطب
ثم انه قد يراد بالقدر المتيقن في مقام التخاطب ما كان بلحاظ القرائن الحالية المكتنفة بالمتخاطبين ، لا المكتنفة بمادة الكلام، وهذا اعم من سابقه([19]).. فهل يتم ذلك؟ سيأتي بإذن الله تعالى
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) وهناك عنوانان آخران هما (الممكِّن من الطاعة ) و (المحصِّل للطاعة)
([2]) سورة الذاريات ، الآية 56
([3]) سورة النساء ، الآية 64
([4]) وهي النصوص، وهي قليلة جداً بالقياس الي الظواهر۔
([5]) فصلنا هذه الثلاثة في فقه التعاون علي البر والتقوىٰ فراجع.
(([6] فان ( الحكمة ) خير وخلافها وهو السَّفَه شر ولذا قال تعالى ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا )
([7]) سورة الأنعام : الآية 54
([8]) مصباح الاصول : ج2 - ص 138
([9]) اراؤنا في اصول الفقه: ج 2- ص 89
([10]) وخلاف الحكمة هو العمل السفهائي
([11]) سورة البلد ، الآية 10
([12]) سورة الشمس ، الآيتان 7 ، 8
([13]) راجع فقه التعاون ص233
([14]) سورة ابراهيم ، الآية 4
([15]) فلا يتوهم (الدور) بالاحتجاج بالظاهر على حجية الظواهر؛ لكونه نصاً
([16]) سورة الحجرات : الآية 9 - 10
([17]) بل لا تحقق له موضوعاً لدىٰ التدبر
([18]) اذ الاصل ان يكون المولىٰ في مقام بيان (الحكم ) والتعليم لا (حكمه) والفتوىٰ كما فصلناه سابقاً
(([19] فان كون المولىٰ في مقام بيان (حُكمه ) والفتوىٰ هي مصاديق القرائن المكتنفة بالمتخاطبين.