171- المستظهر من الايات الناهية عن اتباع الظن ، ومن الايات الآمره بالعلم ـ الاستدلال برواية الكافي عن تعذيب الميت لقوله (سمعت الناس يقولون) على حرمة التقليد
الاثنين 28 ذي القعدة 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد ، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الآيات الناهية عن إتباع الظن، قسمان:كان البحث حول المستظهر من طوائف الآيات الأربعة التي أُستدل بها على حرمة التقليد ووجوب النظر والاستدلال في أصول الدين ، ووصلنا إلى الطائفة الثالثة وهي محور بحثنا الآن ، وهي الآيات الناهية عن اتباع الظن أو الناهية عن اتباع غير العلم بقول مطلق.
وهذه الطائفة من الآيات على قسمين :الاول: ما كان الخطاب فيها موجها للكفار والمشركين ، مثل الآية (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) و الآية (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) فهذه الآيات ظاهرها أن الخطاب فيها موجه للكفار والمشركين ، ولا تشمل تخصّصاً وبنحو الخروج الموضوعي، المقلد الظان من المسلمين ، أي لا تشمل مقلدة المسلمين.
فإن الذي يلاحظ هذه الآيات من المسلمين إما أن يكون فقيها أو مقلدا . فإن كان فقيها فإنه، بلحاظ تكليفه بالنسبة لمقلديه وأن عليه أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لا يجد في هذا القسم من الآيات تكليفا موجها للعوام لكي يكون مكلفاً بأن يأمرهم أو خصوص مقلديه بأن يجتهدوا في أصول الدين، لنفس العلة السابقة ، وهو أنه رأى الأمر في هذه الآيات موجهاً للكفار والمشركين، دون أن يكون موجهاً للمسلمين . وإن كان مقلداً مسلماً، فإنه لا يرى الآيات تخاطبه بعد أن رأى الخطاب فيها موجهاً للكفار والمشركين فلا يستفيد منها نهياً يعمّه ويشمله. من هنا كان الأمر في هذا القسم الأول من الآيات واضحا، فلا بد من الكلام في القسم الثاني من الآيات.
الثاني: وهي الآيات التي لا يوجه الخطاب فيها للكفار خاصة، مثل الآية ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) والآية (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) و الآية (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً) ولهذا السبب فإن هذه الآيات سوف تحول مسار البحث.
وسنتوقف عند الآية الأولى فقط وهي:( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) فإن هذه الآية عامة لكل الناس والخطاب فيها ليس خاصا بالمشركين والكفار، بل ولا توجد قرينة سياق تشهد بأنها خاصة بهم. فقوله تعالى: ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) خطاب يشمل المقلد الظان في أصول الدين ، لأنه اقتفى ما ليس له بعلم ، كما يشمل المجتهد الظان في أصول الدين ، لأنه قد اقتفى ما ليس له به علم. فلو أن مجتهدا توصل بالظن إلى أن الله جسم مثلا ، أو توصل بضرب من الاجتهاد فرضاً إلى أن الله تعالى بعث رسلا وأنبياء من النساء ، فإنه سيكون مشمولا لهذا النهي. إذن هذه الآية عامة لكلِّ ظانِّ من الناس فتشمل المقلد الظان والمجتهد الظان، وكلامنا الآن في دلالة هذه الآيات بما هي، ثم بعد ذلك فإن الاستثناء هو الذي يحتاج إلى دليل، بمعنى أنه كتأسيس للأصل الأولي نقول إن المستفاد من هذه الآيات الشريفة هو كونها عامة ، بغض النظر عما سيخرج بعد ذلك بالدليل – على فرضه - وكذلك الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فإنها عامة، تفيد أن الشيطان يأمر بني آدم أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ، فكل ما لا تعلمه (تقليدا كان ذلك العلم أو اجتهادا) فالآية تنهى عنه، خرجت الفروع بالدليل وبقيت الأصول تحت النهي ولا تخرج عنه إلا بالدليل على ما سنبحثه لاحقاً من أنه قام دليل في الأصول أيضاً على حجية ظنون وكونها نوعية أولا.
والحاصل أن آيات هذا القسم الثاني من الطائفة الثالثة واضحة الدلالة في شمولها للنهي عن اتباع مطلق الظن ، سواء من كان ظانا عن اجتهاد أو عن تقليد. ونضيف - وكما هو ملاحظ - فإن المقلد العالم غير مشمول بقوله تعالى: ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لأن المقلد العالم له به علم، والصدق حقيقي وبالحمل الشائع الصناعي. وهناك آية أخرى، كان الخطاب فيها خاصا بالمشركين ومع ذلك نعتبرها ضمن هذا القسم الثاني في الطائفة الثالثة ، وهي الآية التي يستفاد منها عموم النهي بسبب ما تتضمنه من تعليل، إذ ببركته يُعمّم الحكم لغير المشرك أيضا، وهي الآية ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ) فالحديث فيها عن المشركين فقط ، ولكن ببركة التعليل( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً) فإنها تلحق بالقسم الثاني فتشمل الظان المشرك كما تشمل المسلم بقسميه: الظان المقلد والظان المجتهد في أصول الدين ، كمن يجتهد بأن الله تعالى متصف بكذا وكذا، ظنا بلا علم ويقين ، فالآية تفيد أن ظنه هذا لا يغني من الحق شيئا.
الآيات الامرة بالعلم:وأما الطائفة الرابعة فيستظهر منها أيضا عموم الأمر بوجوب تحصيل العلم في أصول الدين ، فلا يُكتفى بالظن الاجتهادي أو الظن الناشئ عن تقليد مثل قوله تعالى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وكذلك قوله تعالى: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) وسائر الآيات الشريفة التي أشرنا إليها سابقا. ولقد أجبنا سابقاً عن إشكال صاحب القوانين الذي ارتأى أن (اعلموا) يراد بها – أي بنفسها - إيجاد العلم وليست في الحقيقة أمراً بالعلم، وقلنا كلا، بل هذه الآيات تأمر بتحصيل العلم ، وكما أن المولى لو قال لعبده اكتب) فإنه يعني أوجد الكتابة ، إذ المادة تعلق بها الأمر ، فإن (اعلم) يعني أوجد العلم في نفسك بسلوك السبيل الموصل إليه، فإنه اختياري باختيارية مقدماته.
والحاصل: إن المجتهد الظان ليس بعالم ، وكذلك المقلد الظان ليس بعالم ، فلم يمتثلا أمر وجوب تحصيل العلم واليقين في قوله تعالى: ( اعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ). اذن هذه الطائفة الرابعة هي أيضا دالة على وجوب تحصيل العلم ، أما أن يكون العلم عن اجتهاد أو عن تقليد فلا دلالة لها على ذلك، بل يخرج منها تخصصاً المقلد العالم لأن طلب العلم منه تحصيل للحاصل. والحاصل أننا حتى الآن انتهينا من هذه الطوائف الأربع من الآيات ومن مجمل الاستظهار منها، وقد تبين أن الطائفة الثالثة والرابعة تدلان على وجوب تحصيل العلم، وأنه لا يجوز أن يُكتفى بالظن في أصول الدين.وسوف نتحدث عن طائفة (قل انظروا) وهل المستفاد منها الطريقية الصرفة أو أن هنالك موضوعية للنظر أيضا ، هذا سنتركه لوقت آخر إن شاء الله.
الاستدلال بالروايات: الآن ننتقل للروايات لنرى هل أنها تعضد هذا العموم في الآيات أم أن فيها ما يدل على استثناء المقلد الظان أو المجتهد الظان.والروايات التي استدل بها أو التي يمكنه أن يستدل بها على نفس المسار أي على حرمة التقليد في أصول الدين ووجوب النظر كثيرة وربما هي 20 أو 30 رواية وسوف نقتصر على بعضها . ونبدأ بالرواية التي ذكرها صاحب القوانين وهي مارواه في الكافي الشريف عن أبي الحسن موسى بن جعفر ع قال: يقال للمؤمن في قبره : من ربك ؟ فيقول: الله . فيقال له : ما دينك ؟ فيقول : الإسلام. فيقال له : من نبيك ؟ فيقول : محمد ص فيقال له : من إمامك؟ فيقول فلان . فيقال كيف علمت ذلك ؟) ـ وهنا بيت القصيد في الاستدلال بالرواية وسيأتي معناه ـ (فيقول أمرٌ هداني الله له وثبتني الله عليه ، فيقال له: نم نومة لا حُلُم فيها نومة العروس ـ أي نومة ليس فيها أحلام مزعجة ـ ثم يُفتح له باب إلى الجنة ، فيدخل عليه من روحها وريحانها . فيقول يارب عجِّل قيام الساعة لعلي ارجع إلى أهلي) ـ لأنه في القبر هو وحده من دون أهله (وما لي) والظاهر أن المراد: لما اُعدّ لي في الجنة ـ (ويقال للكافر : من ربك ؟ فيقول : الله. فيقال : من نبيك ؟ فيقول : محمد .فيقال ما دينك ؟ فيقول الإسلام . فيقال : من أين علمت ذلك ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون فقلته) ـ وهنا موطن الاستشهاد إذ ادعي دلالة هذا المقطع على أن التقليد في أصول الدين محرم إذ مع أنه أقرّ بالحق إلا أنه سيُعذب (فيضربانه بمرزبة) مقمع من حديد (لو اجتمع عليه الثقلان لا يطيقونها . قال : فيذوب كما يذوب الرصاص)
فقه رواية (سمعت الناس يقولون فقلته) والشاهد في هذه الرواية هو (سمعت الناس يقولون فقلته)) وأيضا ( (أمرٌ هداني الله له وثبتني الله عليه) ونبدأ بمقطع (سمعت الناس يقولون فقلته) ودعوى أنه حيث كان مقلداً استحق العقاب، فلا يجوز التقليد في أصول الدين.
فإن التحقيق هو أن الاحتمالات في هذا المقطع أربعة : الأول ـ وهو المستظهر والحق ، وهو أن العقاب ليس على قوله: (سمعت الناس يقولون) وما يعني ذلك من تقليد ، وانما العقاب على ما كشف عنه قوله هذا من عدم إيمانه الواقعي، وعدم عقد قلبه عليه. فالعقاب على المنكشِف بهذا الكلام لا على كلماته الكاشفة، والحاصل: إن هذا القول كشف عن حقيقته وأنه كافر واقعا ، وانه اعترف بالله قهرا في ذلك الموقف العصيب ولا قيمة لاعتراف في لحظات الاحضار، وفيما بعد الموت أبداً، إذن الإشكال والعقاب ليس على التقليد وانما على ما كشفه ذلك من عدم عقد قلبه وعدم إيمانه.
ثم إن في كلمة (فقلت) احتمالان احتمال هو ظاهر القوانين، وآخر نحتمله نحن ، وهما : أ ـ (فقلته) أي فقلته حال حياتي ، أي أن هذا الشخص كان منافقا حال حياته فلم يعقد قلبه على الإيمان بل سمع الناس يقولون فقال مثلهم نفاقا. ب ـ إنه كان كافرا حال حياته ، ولم يكن منافقا ، وقوله (سمعت الناس يقولون فقلته) أي مع أني كنت كافرا في الدنيا إلا أنني كنت قد سمعتهم أثناء حياتي يقولون الله ربي ومحمد نبيي فقلته الآن، (إذ لا حيلة له الآن).
ولعل الرواية أعم من القسمين. أي من كان في الحياة كافرا صرفا ثم في القبر اعترف اضطرارا ، وإن كان هذا الاعتراف لا يفيده طبعاً ومن كان في حياته أيضاً منافقاً.وعلى أية حال فالعقوبة هي على عدم إبطانه الإيمان وعدم عقد قلبه عليه، لا على صِرف تقليده. وتبقى هناك ثلاثة احتمالات علينا أن ننفيها ليثبت ويستقر هذا الاحتمال الأول.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين...
الاثنين 28 ذي القعدة 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |