بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(563)
الامتنان درجات وكذا مُزاحِمُهُ
السادس: إنّ الامتنان مراتب ودرجات؛ لبداهة ان التسهيل والتخفيف درجات قال تعالى: (يُريدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)([1]) وقال (صلى الله عليه وآله): ((بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ))([2]) فان التخفيف برفع الوجوب عن مثل الحج عن الصبي أقوى وأجدى من التخفيف برفع الكراهة أو الاستحباب عنه فإن ثقل الأخير، لو فرض ثَمّتَ ثقلٌ، أقل، بل هو كذلك([3])([4]) ألا ترى ان الآداب حسنة وان مدّ الرجل رجله مثلاً أمام صديقه خلاف الأدب وإن لم يكن محرماً لكن صديقه قد يسقط عنه حقه (إن كان حقاً عرفاً([5])) أو قد يخفّف عنه لما يرى به من تعب فيدعوه لمدّ رجله فإنه تخفيف وإن لم يكن رفع واجبٍ، وكما ان الامتنان درجات فكذلك المصالح والمفاسد الثبوتية في متعلقات الواجبات والمحرمات فانها درجات لبداهة أشدية مفسدة الزنا من مفسدة اللمس فقط وأشدية مفسدتهما من مفسدة النظر فقط.
وحينئذٍ: فمقتضى قاعدة التزاحم الموازنة بين درجة مصلحة ومفسدة كل منهما (الامتنان من جهة والمصالح والمفاسد في المتعلقات من جهة أخرى) فإن تساوتا تخيّر وإن رجح أحدهما على الآخر لا إلى حد المنع من النقيض رجح واستحب وصار قسيمه مكروهاً([6])، وإلا (بان بلغ حد المنع من النقيض) وجب وحرم نقيضه([7]) (أي وجب الامتنان وحرم ترجيح مصلحة الواقع، أو العكس).
وفرق هذا عن الوجه الثالث (الامتنان مصلحة تزاحمها مصالح ومفاسد الإلزاميات) ان الثالث كان عن أصل التزاحم وهذا عن درجات كل منهما، وان السادس تفصيل في الثالث، وان الثالث ينسجم مع بساطة الامتنان والمصلحة والمفسدة وكونها متواطية غير مشككة عكس السادس فانه مبني على التشكيكية.
مقياسُ الامتنان ظاهرُ النص من إطلاق وتقييد
ويتفرع على عدد من الوجوه السابقة والآتية (كالوجه الثالث والخامس والسادس والسابع الآتي)، ان المقياس في تحقق الامتنان وعدمه وثبوت الحكم وعدمه، يجب ان يكون ظاهر النص من إطلاقٍ وتقييدٍ، لا العكس المتوهم من دعوى كون الامتنان عِلّة، فانه إذا كان الامتنان مصلحة تزاحمها مصالح وكان، كمزاحماته، على درجات، وكان تارة عِلّة للجعل وأخرى عِلّة للمجعول وكانت الأحكام الفقهية، حسب الاستقراء، غير دائرة مدار الامتنان بل قد تكون على خلافه، كان الامتنان حِكمة لم نُؤتَ علمها ولا علم حدود مصالح ومفاسد متعلقات الواجبات والمحرمات المزاحمة لها، فيجب ان ندور مدار النص بإطلاقه وتقييده، إذ حيث اننا لم نُؤتَ ملاكات الأحكام كاملة وكان المشرِّع الحكيم هو الذي يحيط بها بعلمه العميم، كان هو الذي يمكنه ان يشرِّع ثم يصوغ تشريعاته في عبارات تكون كالمرآة للمحصلة النهائية والمعنى الاسم مصدري بعد الكسر والانكسار بين المتزاحمات والمتقدم منها لدى بالنتيجة، عكس المكلف الذي لا طريق له إلى معرفة الملاكات بكامل تزاحماتها إلا مرآة ظواهر ألفاظ الشارع ولذا سبق (إذ يقال: ذلك ثبوتاً، وأما إثباتاً فمما لم نُؤتَ علمه، فعلينا التمسك بظواهر الأدلة ومنها، أي من عمومها وخصوصها، نستكشف وجود الامتنان الواقعي وعدمه، لا العكس، فتدبر فانه دقيق لطيف)([8]).
أنواع الامتنان متزاحمة
السابع: ان الامتنان بنفسه تتزاحم فيه شعبه وفروعه وأنواعه؛ أ- إذ قد يكون الامتنان على الفرد، برفع الحرج والضرر والحكم الإلزامي، عنه شخصياً.
ب- وقد يكون الامتنان على أسرته بإيجاب النفقة عليه لزوجته مع انه قد يكون مُعسِراً فتكون ديناً بذمته، فهو امتنان عليها لا عليه بل الامتنان عليه يقتضي عدم إيجاب النفقة عليه، أو كونها عليهما نصفين أو على الأقل عدم اعتبارها ديناً عليه مع إعساره حقاً، ج- كما قد يكون الامتنان بلحاظ النوع والأكثر، د- وقد يكون الامتنان بلحاظ مصالح الآخرة، ولعله منه قوله تعالى: (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)([9])، وهذه كلها مما لم نؤت علمها غاية الأمر ان نعرف الامتنان على الشخص بلحاظ مصلحة التسهيل الدنيوية، لذلك فانه لا يمكن تقييد النص المطلق كحديث الرفع وحديث رفع القلم، بمجرد إحراز الامتنان الشخصي الدنيوي في التوسعة أو عكسه، على اننا لا نحيط حتى بمتزاحمات الامتنان الشخصية الدنيوية، ومؤدى ذلك كله كون الامتنان في الحد الذي نعرفه منه، حِكمة لا غير.
شهادة بطلان عقد المكره وصحة عقد المضطر مطلقاً
ويدل على بعض الوجوه السابقة، إن لم نعدّه وجهاً جديداً، انّ الفقهاء التزموا بكون الإكراه رافعاً للحكم الوضعي للمعاملات والصحة فلو أكره على المعاملة بطلت، كما التزموا بان الاضطرار غير رافع للحكم الوضعي، فلو اضطر إلى بيع داره، صح البيع، وذلك على إطلاقه في كلتا الحالتين (الإكراه والاضطرار) مع ان الالتزام بعلّية الامتنان يقتضي التفصيل في الحالتين بحسب الامتنان: بان يقال في الإكراه: انه لو أكره على ما كان لضرره واقعاً، بطلت المعاملة، ولو أكره على ما كان لصالحه واقعاً (ثم انكشف له، أو لا بهذا القيد لأنه من عالم الإثبات والكلام الآن عن الصحة الثبوتية)، صحّت المعاملة فان صحتها حينئذٍ مقتضى الامتنان والبطلان ضد الامتنان ويوضحه أكثر المثال التالي: كما لو أكرهه على بيع داره وكان غير راضٍ لأنه توهم ان سعرها منخفض الآن وان سعرها سيرتفع لاحقاً إلى خمسة أضعاف مثلاً، فباع مُكرَهاً ثم ظهر ان سعره الحالي كان أفضل الأسعار وانه انخفض لاحقاً إلى النصف أو الأقل، فان الحكم ببطلان بيعه ذلك خلاف الامتنان جدا لأنه يشكل ضرراً كبيراً عليه، مما لو كان الأمر بيده لرأى كمال الامتنان واللطف في حقه ان يحكم الشارع بصحته ولكنهم مع ذلك حكموا ببطلانه نظراً لكونه مكرهاً.
وبالعكس في المضطر فلو باع داره التي يحتاجها لسكنه لينقذ ابنه من الموت لاحتياجه إلى عملية جراحية لولاها لمات بحسب كلام الأطباء، فالبيع صحيح لأن الشارع لا يزيده اضطراراً على اضطرار بإبطال بيعه، لكنه لو ظهر فيما بعد ان ابنه قد شفي بدعاء أو بدواء وانه لم يكن محتاجاً للعملية أو انه استغنى عنها بسبب ما، فان بطلان البيع هو مقتضى الامتنان، ومع ذلك حكموا بصحة البيع رغم ضرره عليه وكونه خلاف الامتنان.
وعلى أية حال فانه لئن نوقش في بعض الأمثلة السابقة فلا مناقشة في بعضها الآخر فتدبر.
وكذلك لو تزوجت مُكرَهةً، فانه باطل وإن ظهر لها انه كان لصالحها مما لو علمت به في وقته لوافقت نعم، رضاها اللاحق مصحح، والكلام عن مقتضى الإكراه والامتنان بما هما هما لا مع لحوق أمر آخر، على انها لو لم ترض لاحقاً، لكان باطلاً حتى وإن كان لصالحها جزماً.
وكذلك لم يفصّلوا بين ما لو تزوجت البكر الرشيدة غير البالغة([10]) بدون إذن أبيها، بين ما كان لمصلحتها ثبوتاً وإثباتاً (أي لدى العرف) كما لو تزوجت ممن يرفع من شأنها، فقالوا ببطلانه (أو حرمته من دون بطلان([11])، على الرأيين) بناء على كون الولاية للأب مستقلاً أو القول بالتشريك بينهما، وبين ما لو تزوجت بدون إذنه وكان مفسدة لها.
والحاصل: انهم قالوا بالبطلان (أو الحرمة) في الصورتين من غير تفصيل بين كون الزواج لها أو عليها.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الْعِلْمُ عِلْمَانِ: مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، وَلَا يَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَطْبُوعُ)) (نهج البلاغة: الحكمة 338)
------------------------
([1]) سورة النساء: الآية 28.
([2]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) ـ قم: ج1 ص381.
([4]) أي في المستحب ثقل ما وفي المكروه ثقل ما.
([5]) مع فرض ان الحقوق العرفية تتفرع بين لازم وغيره.
([11]) كما ذهب إليه السيد العم (دام ظله).
------------------------
([1]) سورة النساء: الآية 28.