بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(49)
الفرق بين العامي وذي الملكة، والجواب
لا يقال: هناك فرق بين العامي الجاهل وبين المجتهد بالملكة غير المستنبط بالفعل لهذه المسألة، وهو ان هذا مجتهد ذو ملكة وذاك فاقد لها لذا يصح تقليد الفاقد لها دون الواجد، وبعبارة أخرى: يمكن للمجتهد ان يستنبط الحكم، بالإمكان القريب لأنه واجد للملكة وغاية ما عليه ان يستفرغ الوسع في تحصيل الحجة على هذا الحكم الفرعي وقد يستغرق ذلك ساعة أو ساعات أو أياماً، أما العامي فان الإمكان في شأنه إمكان بعيد فانه وإن أمكنه ان يسعى لتحصيل الملكة ثم يستنبط إلا ان ذلك قد يستغرق سنوات أو أكثر، فلذا جاز له التقليد دون المجتهد بالملكة.
إذ يقال: ذلك غير فارق في جهة البحث وبالنظر إلى أدلة التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم، إذ الفرض ان كليهما (العامي، والمجتهد غير المستنبط بالفعل) جاهل بالفعل فيصح رجوعه لغيره كما سبق تفصيله بالنظر لبناء العقلاء والآيات أيضاً، ولا يوجد دليل واحد على ان صِرف تحصيل ملكة الاجتهاد قاطع للتخيير بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، والتخيير بينها حكم عقلي وعقلائي مسلّم، فإذا حصل على الملكة جاز له أيضاً ان يجتهد بالفعل في هذه المسألة كما يجوز له الاحتياط ويجوز له أيضاً التقليد فيها.
كيف يصح تقليد المقلِّد في مبادئ الاستنباط؟
لا يقال: فيكون إذاً مقلِّداً فلا يجوز تقليده؟ بمعنى انه لو قلّد في مبدأ من مبادئ الاستنباط، كما فيما نحن فيه مما وجد في السند مجاهيل لديه فقلّد غيره ممن يرى كونهم ثقات (من غير ان يكون قد أحرز ضعفهم بل مجرد ان لا يعلم حالهم) فان استنباطه للحكم الشرعي إذا ابتنى في سلسلته الطولية على هذه الرواية، لا يصح تقليده فيها؛ إذ ان النتيجة تتبع أخس المقدمتين، فمادام مقلداً في احدى مبادئ الاستنباط فهو مقلد؟
إذ يقال: يمكن الجواب بوجهين:
الجواب: 1- ليس مقلِّداً بل هو متمسِّك
أولهما: انه ليس مقلداً، بل هو متمسك بدليل وحجة وهي قول خبير آخر، والفرق بين التقليد والتمسك كبير.
توضيحه: ان الفرق بين المقلد والمجتهد هو: ان المقلد لا يتدخل في عالم الأدلة، بل يأخذ الفتوى من المجتهد كنتيجة نهائية نظير المعنى الاسم مصدري، أما المتمسك فانه مجتهد لكنه علم بوثاقة هذا السند بالواسطة، فهو مجتهد، رغم أخذه من الغير، وذلك لأنه دخل في عالم الأدلة وقام بدراستها ثم ارجع ما لم تثبت حجيته لديه إلى غيره، مع اجتهاده في هذه المسألة الأصولية وهي حجية اجتهاد أحد المجتهدين على الآخر في مبادئ الاستنباط مادام لم تقم لديه حجة على الخلاف، فهو اجتهاد وتفقه بالحمل الشائع الصناعي ولذا يشمله عرفاً، ودون تأمل، قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا).
بعبارة أخرى: انه يعمل بقول الخبير الآخر لا عن تقليد وهو مغمض العينين، بل عن اجتهاد بان رأي الآخر حجة، فرأي الآخر حجة لديه كسائر الحجج التي تكون معتمدة عنده.
ويوضحه أكثر: ان الضعيف السند المعتضد بعمل الفقهاء، حجة على رأي المشهور، بل ادعى الوحيد البهبهاني الإجماع عليه، وان خالفه الشهيد الثاني ثم الشيخ الانصاري، قال الوحيد (قدس سره): (اتّفق المتقدّمون والمتأخّرون من القائلين بحجّية خبر الواحد على أنّ الخبر الضّعيف المنجبر بالشّهرة وأمثالها حجّة، بل استنادهم إلى الضّعاف أضعاف استنادهم إلى الصّحاح، بل الضّعيف المنجبر صحيح عند القدماء من دون تفاوت بينه وبين الصحيح، ولا مشاحّة في الاصطلاح، إلاّ أنّ اصطلاح المتأخّرين أزيد فائدة)([1]).
وقال الشيخ (قدس سره): (بقي الكلام في مستند المشهور، في كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر)([2]).
والحاصل: انهم إذا عملوا بالمنجبر لا يرون أنفسهم مقلدين للمشهور بل يرون الخبر المعتضد بالشهرة حجة كاشفة، فكذلك نقول: الخبر المعتضد بفتوى خبير كالنجاشي حجة كاشفة.
بل وكذلك الإجماع المنقول بل والمحصل؛ فانهم اعتبروه احدى الحجج الأربع، ولم يعتبروا المتمسك بالإجماع مقلداً لهم بل اعتبروا مجتهداً في هذه المسألة إذ تمسك بالإجماع، ووجهه انهم يرون الإجماع دليلاً كاشفاً عن الواقع، فنقول: فكذلك رأي الخبير دليل كاشف عن الواقع.
2- فليكن مقلداً، لكن ذلك غير مانع من تقليده
ثانيهما: سلّمنا، لكن كونه مقلداً في بعض مبادئ الاستنباط لا يمنع تقليد الغير له فيما اجتهد فيه من المسائل الفقهية مع كونه مجتهداً في المسألة الأصولية التي تبتني عليها، وبعبارة أخرى: يكفي اجتهاده في الفقه والأصول من غير حاجة إلى اجتهاده في كافة مبادئ الاستنباط.
ولا يعترض على ذلك بان النتيجة تنبع أخس المقدمتين؛ لما فصّلناه في كتاب (التقليد في مبادئ الاستنباط من عدم كلية هذه القاعدة، وان النتيجة قد تتبع مجموع المقدمتين بعد الكسر والانكسار بينهما دون أضعفهما، وقد تتبع أشرف المقدمتين، وعلى ذلك عالم التكوين وعالم الاعتباريات، ولكل منهما شواهد ناهضة، ويكفي من عالم الاعتبار قاعدة (ان الولد يتبع أشرف الأبوين) مع ان قاعدة (الأخس) لو كانت عقلية لما أمكن تخصيصها، وأما في عالم التكوين فان النتيجة تتبع تارة الأخس وأخرى مجموع المقدمتين بعد الكسر والانكسار بينهما ويكفي ان الماء الحار جداً والبارد جداً لو امتزجا ينتجان أمراً متوسطاً بينهما ولو كان لهما معلول كتبريد اليد أو تدفئته كان الأمر تابعاً للمحصّل من للمجموع بعد الكسر والانكسار لا للأخس.
وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في كتاب (التقليد في مبادئ الاستنباط) ومما جاء فيه:
أولاً: هذه القاعدة غير جارية في الاعتباريات
أنّ هذه القاعدة غير جارية في الاعتباريات، إذ الاعتبار أمره بيد المعتبر، ويدل عليه الكثير من القواعد والمسائل الفقهية، مثل إن الولد يتبع أشرف الأبوين في الإسلام والكفر، وفي كونه ولد شبهة لا زنا([3])، وكذلك تبعية الولد للأب في السيادة وعدمها دون الأم وإن كانت علوية وأشرف.
ثانياً: أنّها غير مطّردة في التكوينيات
أنّه لا إطلاق لها حتى في التكوينيات، إذ قد تنتج المقدمتان القوّيتان أمراً أضعف، بينهما تنتج مقدمة قوية وأخرى ضعيفة، أمراً قوياً كما فصلنا ذلك في كتاب (نقد الهرمنيوطيقا) وكتاب (نسبية النصوص والمعرفة .. الممكن والممتنع)([4])، فراجع ومما قد يمثل له: أن اجتماع رأسين قويين يوجب الفوضى والفساد عكس ما لو كان أحدهما رأساً والآخر تابعاً، وذلك هو من حِكَم جعل السلطة والولاية([5]) بيد الزوج وحده، إذ أن قوام الحياة السعيدة بوجود طرفين، حاكم أقوى ومحكوم أضعف([6]) فينتج الأفضل والأشرف، ولو كان كلاهما حاكماً قوياً لأنتج الأردأَ الأسوأَ الأخسَّ والفسادَ.
والسرّ في ذلك: أن التكوينيات هي إما علل معدّة، أو هي مقتضيات وليست عللاً والأمر بيد مسبب الأسباب وعلة العلل، وعليه: فلا توجد صغرى لقاعدة النتيجة تتبع أخس المقدمتين، في التكوينيات، إذا لوحظت جهة العلية والتأثير الحقيقي، أبداً! فتدبر جيداً.
ثالثاً: هي خاصة بالأشكال الأربعة
أنّ هذه القاعدة خاصة بالأشكال الأربعة، وهي مورد كلام المنطقيين، ولا إطلاق لها في غيرها، والمقام من غيرها، وذلك لما ذكره بعض المنطقيين من أن (النتيجة تتبع أخس المقدمتين) إنما هو في الكم والكيف، أي الإيجاب والسلب ولا عموم له لـ (الجهة)، فإنها قد تتبع أقوى المقدمتين في موارد.
منها: ما لو تركبت القضية من موجبة ضرورية ومن مطلقة عرفية عامة، فإن النتيجة هي ضرورية ـ أي تتبع الصغرى الأقوى، لا الكبرى الأخس ـ وإلى ذلك أشار في (الإشارات والتنبيهات) قال: ((أن تكون الصغرى موجبة ضرورية والكبرى مطلقة عرفية، فإنها إن كانت عامة أنتجت كالصغرى موجبة ضرورية وإن كانت خاصة لم يكن الاقتران قياساً لتناقض المقدمتين))([7]))([8]).
كما أضفنا هناك جواباً آخر وهو:
رابعاً: (سلّمنا، لكن (التقليد) ليس أخس المقدمتين على إطلاقه، بل قد يكون أشرف وأفضل وأقرب للإصابة من الاجتهاد.
وبعبارة أخرى: أنّ التقليد وإن فرض أنه أخس المقدمتين من حيث عنوانه، لكنه قد يكون أشرفهما من حيث مادته ومحتواه ومعنونه ومدلوله ومؤداه، فلا إطلاق لكون (التقليد أخس المقدمتين).
ويدل على ذلك:
أولاً: إن تقليد الأعلم في البلاغة أو الرجال أو الصرف، لا شك أنه أقرب للإصابة وأوثق لدى العقلاء([9]) من اجتهاد المفضول الواجد لدرجة دانية من الاجتهاد في أحدى تلك العلوم ونظائرها، خاصة إذا كان ذلك (الأعلم) أعلم بكل مقاييسه وعلى كل المباني، بأن كان الأكثر تدقيقاً وتحقيقاً والأقرب للذوق العرفي والأعرف بالأشباه و النظائر.. إلخ، فتقليده هو الأرجح إن لم يكن المتعين. بل نقول:...)([10]).
والظاهر ان ذلك هو منشأ ما نقل من تقليد بعض الفطاحل لآخر من الأعاظم في المسائل الفقهية التي لم يجتهد فيها بالفعل.
صحة تقليد المجتهد المستنبِط بالفعل، لغيره
بل نقول: ان المستظهَر صحة تقليد المجتهد ذي الملكة المستنبط بالفعل، لغيره ولكن بشرطين: الأول: ان يكون مساوياً له في العلمية، فكيف إذا كان أعلم، الثاني: ان لا يكون مطمئناً بالخلاف وذلك لأن الاطمئنان علم عرفي فكأن حجيته ذاتية.
والوجه في ذلك هو: ان أدلة الحجية تشمل الفقيهين بوِزان واحد، لأنها واردة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية أو الشخصية، ولو كانت بنحو القضية الشخصية بان قال الشارع لزيد رأيك حجة، فانه لا يصح له حينئذٍ ان يقلد غيره إذ حجية رأيه معلومة بالدليل وحجية غيره لا، لكن الأدلة على حجية رأي هذا الفقيه والخبير وغيره واحدة فكما شملتني شملته، فتكون النتيجة، على ذلك، تخيير الفقيه بين العمل برأيه، والعمل برأي غيره.
لا يقال: انه يرى نفسه عالماً والآخر جاهلاً؟
إذ يقال: مادامت الأدلة على حجية رأيه هي نفس الأدلة على حجية رأي الآخر، وماداما متساويين في العلمية، ومادام مستنبطاً استناداً إلى الأدلة العامة، غير مطمئن بالمؤدى وببطلان رأي الآخر، ومادام الآخر مستنبطاً استناداً إلى الأدلة العامة، فوِزان رأيه كوِزان رأي غيره، وهما في العلمية في ميزان القضية الحقيقية بوِزان واحد، فمن أين دعوى كونه عالماً والآخر جاهلاً وتعيّن إتباعه لرأيه؟ وقد فصّلنا ذلك في بحث آخر فراجع([11]).
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((لَا يَسَعُ النَّاسَ حَتَّى يَسْأَلُوا وَيَتَفَقَّهُوا وَيَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ، وَيَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا يَقُولُ وَإِنْ كَانَ تَقِيَّةً)) (الكافي: ج1 ص40)
-------------
([1]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص487.
([2]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص587.
([4]) نقد الهرمنيوطيقيا: ص162 ـ فصاعداً /نسبية النصوص والمعرفة: ص96، ص105.
([5]) كولاية الطلاق والحاكمية في الدخول والخروج والاستفراش.
([6]) ولو كانت الأضعفية من حيث السلطان والتشريع والقوانين، من غير أن تكون تكوينية.
([7]) الإشارات والتنبيهات: ج2 ص151.
([11]) يراجع (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) و(التقليد في مبادئ الاستنباط).
-------------
([1]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص487.