014-بعض الآيات ناهية عن الظن المعارَض بالمستقل العقلي-خروج الظنون الخاصة موضوعاً-فرق رأينا عن الانسداد
الاربعاء 27 ربيع الأول 1443هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(14)
كبروية ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني...)) أعم من العهد والجنس
وبعبارة أخرى: قد يقال: انه لا يبعد ان يكون ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ...))([1]) بمثابة الصغرى وقوله تعالى بعدها مباشرة ((وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) بمنزلة الكبرى فتفيد عدم حجية الظن بقول مطلق وانه بطبعه ليس فيه اقتضاء الحجية (إن لم يُفِد اقتضاءه عدمها)، وهو قول المشهور.
والجواب: إنّ الكبروية تنسجم مع كل من لام الجنس ومع لام العهد المراد بها مطلق الشؤون العَقَدية؛ إذ العهد قد يكون عهداً شخصياً كقولك مررت برجلٍ فأكرمت الرجل، وقد يكون عهداً نوعياً أي مرجعه إلى النوع، وقد تكون اللام للجنس لا للعهد، ولا فرق بين الثاني والثالث في كون كل منهما كبرى كلية تفيد قاعدة عامة، وإن اختلفت دائرتهما سِعَةً وضيقاً، وقد سبق إيضاح وجه كون اللام للعهد (النوعي) فلا نعيد، إنما الجواب معقود لدفع توهم ان كون ((وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) كبرى كلية دليل على إرادة الجنس من لام الظن؛ إذ اتضح انه أعم منه ومن قسيمه.
ما وقع فيها الظن في قبال المستقل العقلي
الطائفة الثانية: بعض الآيات التي ذمّت إتباع الظن، ولكن مفادها لا يعدو ذمّ إتباعه لوقوعه في مقابل الفطرة والمستقل العقلي لا لأنه في نفسه مذموم، ومن البديهي عدم حجية حتى الظن المعتبر بالدليل الخاص، كخبر الثقة والظواهر وغيرها، لو وقع في مقابل حكم العقل القطعي، ولكن ذلك، كما هو ظاهر، لا لكونه في نفسه مذموماً بل لإبتلائه بالمعارض القطعي، ألا ترى ان الظواهر حجة لكن ظاهر قوله تعالى ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ))([2]) و((الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى))([3]) ليس بحجة لكونه معارضاً لحكم العقل القطعي والفطرة بانه تعالى ليس جسماً، فليس الظن الناشئ منه حجة أبداً؟ ولكنّ ذلك لا يخدش في حجية الظواهر بنفسها، بل ذلك خاص بما إذا ابتليت بالمعارض، وكذلك الاستصحاب فانه حجة بلا شك ولكن بشرط ان لا تكون على خلافه امارة فانه مذموم وليس حجة حينئذٍ بلا شك ولا يغني حينئذٍ من الحق شيئاً، فكذلك المقام أي الآية الذامة لإتباعهم الظن، والواردة في سورة الأنعام ((إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)) وذلك لكونه ظناً في مقابل حكم العقل القطعي بعدم جبر الله تعالى العباد على الاعتقاد أو الفعل، فلنقرأ الآيات الكريمة أولاً ثم لنرى وضوح ما ذكرناه ((سَيَقُولُ الَّذينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعينَ))([4]).
وتوضيح الآيات الكريمات: ان الكفار ادعوا الجبر، أي جبر الله تعالى إياهم على اعتقادهم بالشريك له وعلى تحريمهم بعض الأشياء (التي أُعترض عليهم فيها بان الله تعالى كان قد أحلها فكيف تحرمونها؟) واستدلوا على ذلك بالبرهان الإنّي أي بانهم معتقدون بالشركاء وبتحريم بعض الأشياء، وحيث ان الله تعالى عالم بهم وقادر على منعهم تكويناً من ذلك، ولكنه لم يفعل، فيدل ذلك على ان هذا الاعتقاد وذلك التحريم مرضي لديه تعالى وصحيح عنده؛ وإلا لوجب ان يشاء الله منعهم من ذلك الاعتقاد تكويناً، فأجابهم تعالى بقوله: ((قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا)) وهو كالمسفّه لهم بهذا الجواب أي إذا كان هذا حقاً فأين الدليل العلمي عليه؟، مع بداهة الاختيار وفطريته ووجدانية بطلان الجبر، أي كونهم مجبورين على الاعتقاد بما اعتقدوا، ثم أضاف تعالى ((إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)) ومن البديهي ان هذا الظن (بالجبر) الذي اتبعوه كان في مقابل حكم العقل المستقل وحكم الوجدان والفطرة بان الإنسان ليس مجبراً في اعتقاده ما اعتقد أو فعله ما فعل، ومن الواضح ان مثل هذا الظن ليس بحجة.
وأضاف جل اسمه ((وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ)) والمراد اما أ- تكذبون في ادعاء العلم بالجبر أو الظن به إذ هم واقعاً وفي قرارة أنفسهم شاكّون وقد بنوا على مجرد الوهم أو الاحتمال. ب- أو تحدسون من غير منشأ عقلاني.
ثم استدل الله تعالى عليهم بالنقض والحل معاً، في قوله تعالى ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعينَ)):
أما النقض فهو انه لو صح برهانكم الإنّي لجرى فينا أيضاً بان نقول ان اعتقادنا بالوحدانية، مع علمه وقدرته على الردع التكويني عن ذلك، دليل على رضاه بمعتقدنا وصحته لديه، فكيف تجر باؤكم ولا تجر باؤنا؟
وأما الحل، فهو ان اختلاف البشر بين قائل بالشرك وقائل بالتوحيد، وبين محلِّل ومحرِّم للشيء الواحد، دليل على ان الاعتقاد والتحليل والتحريم ليس بالجبر بل بالاختيار، إذ لو أراد تعالى الجبر لوجب ان يوحِّد البشر على رأي واحد (بان يوحدهم على الهدى، الذي نرى انه عندنا، أو يوحدهم على ما ترون انه الحق) لكنه لم يفعل، إذ لم يوحّد البشر فدل ذلك على انه حرّم الشرك تشريعاً فقط ولم يتدخل في منع الناس عنه تكويناً، وكذلك أوجب الإيمان بوحدانيته تشريعاً ولم يجبرهم عليها تكويناً، وإلا لكان الكل مهتدياً من غير خلاف ((فَلَوْ شاءَ)) أي مشيئةً تكوينية، إذ لا شك في مشيئته التشريعية ((لَهَداكُمْ أَجْمَعينَ)).
خروج الظن الخاص من ((الظَّنَّ لا يُغْني)) موضوعاً
استدراك: اعترض بعض الحضور الأفاضل على قولنا ان لسان ((وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) آب عن التخصيص، بانه ليس آبياً وإلا لما أمكن إخراج خبر الثقة والظواهر و... منه واستثناؤها كما فعل جمهور العلماء.
والجواب: انه لا شك في ان هذا اللسان آب عن التخصيص إذ يفيد ان الظن بطبعه لا يغني، وإنما خرج خبر الثقة وغيره بالخروج الموضوعي أي تخصّصاً لما سبق من ان (الظن) في الآية يراد به الظن غير العقلائي، بالقرينة المقامية القطعية فيخرج خبر الثقة وما أشبهه موضوعاً لأنه ظن عقلائي، نعم إن قلنا ان المراد (الظن في الشؤون الاعتقادية) لكان خروج خبر الثقة، في غيرها، لو صح خروجاً تخصيصياً فلزم التخلص منه، لمن يرى حجيته، بان اللسان مثلاً ليس بآب عن التخصيص، أو بان إباء اللسان اقتضائي لا عِلّي فيمكن الخروج عنه بالدليل الأقوى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الكاظم عليه السلام : ((يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَاقِلَ رَضِيَ بِالدُّونِ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)) (الكافي: ج1 ص17).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([4]) سورة الأنعام: الآية 148-149.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |