بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(482)
الاستدلال بالشرط وإطلاق (ادْفَعُوا) على سلطنة الصبي الطولية
قال السيد الوالد: (ثم الغاية في الآية الظاهرة في الاستقلالية لليتامى في الدفع لهم بعد البلوغ والرشد، تفيد عدم الاستقلالية في المغيّى لا عدم جواز التعامل الاستنادي أو الإنشاء فلا يمكن الاستدلال بالإطلاق على عدم جواز التعامل وعدم جواز الإنشاء لهم قبل البلوغ والرشد كما قال به غير واحد.
وبذلك ظهر أنه لا يمكن أن يقال أن الغاية مطلقة في الاستقلالية وغيرها، فالمغيّى أيضاً كذلك أي يمنع عن استقلاله في التعامل واستناده وإنشائه)([1]).
أقول: تارة يستدل بمفهوم الغاية وأخرى يستدل بمفهوم الشرط
أما الاستدلال بمفهوم الشرط فتامّ، مع ضميمة ظهور ((ادْفَعُوا)) في الدفع الاستقلالي؛ فان قوله تعالى ((وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) فان ظاهر ((ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ)) تسليطهم عليها تسليطاً كاملاً إذا بلغوا وإذا آنستم منهم الرشد ومفهوم الشرط: فإن لم تؤنسوا منهم الرشد فلا تسلطوهم عليها تسليطاً كاملاً فالمنفي هو المثبت لكن على عكسه أي ما أثبت وهو ((ادْفَعُوا)) بخصوصياته هو نفس ما يقع عليه النفي في المفهوم، فيفيد منع تسليطهم استقلالياً فيبقى تسليطهم تبعياً ظلياً (أي تعاملهم الاستنادي) تحت عموم ((وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)) وهو الآية الثانية.
لا يقال: المرجع إطلاق ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)) وهو الآية الخامسة، لحكومتها على الآية الثانية كما سبق.
إذ يقال: كلا: إذ الكلام ليس في الصبي السفيه بالفعل، أي الذي لا يوثق به حتى بمعاملاته الاستنادية، لبداهة ان أمواله لا تدفع إليه حتى تبعياً وظلياً مادام سفيهاً بهذا الحد، بل الكلام أولاً في الصبي الراشد أي الراشد قبل البلوغ، وثانياً في الصبي الذي لم يؤنس رشده ولم تحرز سفاهته، فحيث لم تحرز سفاهته لم تشمله الآية الخامسة وحيث لم يحرز رشده فانه يقع مورد الابتلاء فيدخل في الآية السادسة فإذا كان منطوق شرطها الدفع الاستقلالي كان مفهومه صحة الدفع الآلي لمن لم يحرز رشده، ابتلاءً والذي يكون مشمولاً للآية الثانية، فتدبر.
فتحصل ان ظاهر ((ادْفَعُوا)) الدفع الاستقلالي أي التسليط التام فيكون هو المنفي فيمن لم يكن بالغاً وإن علمنا منه رشداً وفيمن لم نعلم منهم رشداً بالغاً كان أم لا فيبقى الدفع الظلي والتعامل الاستنادي تحت عموم الآية الثانية إضافة إلى كونه مشمولاً لمفهوم الآية السادسة أي لا تدفعوا لهم استقلالياً مادام لم تؤنسوا الرشد الملازم عرفاً لادفعوا لهم بغير الوجه الاستقلالي كالاستنادي مثلاً.
أجنبية الاستدلال بمفهوم الغاية عن المقام
وأما الاستدلال بمفهوم الغاية فأجنبي عن المقام إذ ما بعد حتى هو غاية للابتلاء ((وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ))أي ان الابتلاء يستمر حتى بلوغ النكاح وإيناس الرشد فمع بلوغ ذلك الحد ينتهي الابتلاء، فهو أجنبي، مع قطع النظر عن مفهوم الشرط الوارد فيما بعد حتى الغائية، عن نوع التسليط وعن أصله من عدمه.
وأما كلام السيد الوالد فالظاهر انه لا يستدل بمفهوم الغاية بل يستدل بمفهوم الشرط وظهور ((ادْفَعُوا)) الوارد فيما بعد الغاية، وهي حتى، على المراد مما قبلها، أي قبل حتى، فاستدلاله بمفهوم الشرط وظهور ((ادْفَعُوا)) ايجاباً وسلباً، وقوله (الغاية) إنما أراد بها الإشارة إلى موضع الاستدلال وهو ((ادْفَعُوا)) الواقع في سياق الشرط الواقع كله غاية للابتلاء أي ما بعده وليس الاستناد إليها (حتى، الغاية) بما هي هي فقوله: (ثم الغاية في الآية الظاهرة...) يراد به ما بعد حتى، ما وقع في الغاية أو بعدها، من الدفع لهم بعد البلوغ والرشد دفعاً استقلالياً.
ويوضحه: انه لو قال المولى سافر حتى البصرة فمع بلوغها توقف، فان الغاية بلوغها وما بعدها (الواقع في ضمن جملتها) هو توقف، والمراد به بقرينة المغيى (وهو سافر) التوقف عن السفر لا عن مطلق الحركة.
فقه قوله تعالى ((ادْفَعُوا))
ثم ان المحتملات في تسليط الصبي المميز الرشيد على أمواله، قبل البلوغ، مما يستفاد من مفهوم الشرط في الآية الكريمة، نفيُه أو لا يستفاد، هي كالآتي:
التسليط الكامل الاستقلالي
1- التسليط الكامل الاستقلالي، بان يكون له مطلق الصلاحية في إجراء العقود، ولا تكون للولي عليه أية ولاية أو نظارة، أي بأن يكون كالبالغ الراشد، وهذا هو ما ينفيه مفهوم الشرط في الآية الكريمة بالصراحة من غير فرق بين ان يباشر هو حينئذٍ أو ان يوكّل عاقلاً رشيداً، إذ منطوق الآية ((حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) وهو صريح في عدم دفع الأموال لهم إن لم يبلغوا (إضافة إلى إن لم يرشدوا) فان الدفع إليهم واستقلاليتهم وتسليطهم بالكامل مع إيناس الرشد منهم كان معلقاً على البلوغ بصريح قوله تعالى: ((حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)).
التسليط على سبيل البدل
2- التسليط على سبيل البدل، ونعني به تسليطه كاملاً لكن على ان يكون لكل منهما، الصبي والولي، سلطة تامة كاملة على سبيل البدل، ومثاله سلطنة الأب والجد على تزويج الصبي حيث ارتأى بعض بأنها على سبيل البدل فمن سبق في تزويجها، مع المصلحة أو حتى بمجرد عدم المفسدة على قولين، نفذ، وقال بعض بالتشريك بينهما، وهذا النوع من التسليط كسابقه.
التسليط على نحو الشراكة
3- التسليط على نحو الشراكة، كسلطنة البكر الرشيدة على أمرها مع والدها على رأي بعض الفقهاء إذ رأوا اشتراكهما وعدم صحة تفرد أي منهما دون رضا الآخر وإذنه، بينما ارتأى بعض الولاية للأب وحده وارتأى القليل من الفقهاء الولاية لها وحدها، ومن الظاهر ان هذا النوع من التسليط غير داخل في منطوق الآية إذ لا يصدق عليه ((ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) بقول مطلق فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على نفيه بعنوانه إذ ظاهر ((ادْفَعُوا)) تسليطه التام فينفى عمن لم يبلغ وعمن بلغ ولم يؤنس رشده، لكن هل تثبت له السلطة التشريكية؟ قد يقال بالإطلاق لكن به نوع خفاء، لكن يؤيده انه مقتضى عموم الآية الثانية فتأمل.
التسليط التام الطولي
4- التسليط التام ولكن بنحو الطولية، أي بان يجعل كالوكيل المفوّض، وهذا هو الذي اختار السيد الوالد دلالة مفهوم الآية على إثباته لكون منطوقها نفياً للتسليط الكامل الاستقلالي فيكون المفهوم نفيه عن من لم يبلغ أو لم يؤنس رشده، فيبقى الباقي وهو، أو منه، تسليطه الطولي، وذلك خلافاً للمشهور، ومثل استدلال الوالد وإن جرى في التسليط التشريكي لكن الخفاء الذي مضى، وجهُهُ بُعده عن فهم العرف من الآية ولذا لم يحتمله، حتى، أحد من الفقهاء. فتأمل. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: (مَرَارَةُ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَحَلَاوَةُ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ). (نهج البلاغة: الحكمة 251).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه كتاب البيع، الناشر: خوشنواز ـ اصفهان، ج3 ص12.