بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(279)
سبق: (والحاصل: ان (لا ضرر) يراد به لا حكم ضررياً صادراً من الشارع و(لا ضِرار) يراد لا ضِرار صادراً من أحدكم على الآخر، أو فقل: ان لا ضرر يفيد أنّ الحكم الضرري منفي في الشريعة، ولا ضِرار يفيد أنّ الإضرار بالغير منفي في الشريعة، ولكن حيث ان الإضرار بالغير تكويناً، موجود بل وكثير التحقق بين المسلمين فالمراد به، بدلالة الاقتضاء، ان الإضرار بالغير منتفٍ في عالم التشريع، وانتفاؤه لا يكون إلا تنزيلياً وذلك بان يعوّض عنه تشريعاً ويُتدارك في عالم التشريع، فمعنى (لا ضِرار) (لا ضِرار غير متدارك).)([1])
ب- (لا ضِرار) كناية عن تحريمه
ونضيف: انه يحتمل في (لا ضِرار) معنى آخر لا يحوجنا إلى تقدير (غير متدارك)([2]) وهو ان (لا ضِرار) كناية عن حرمته، نظير قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)([3]) فانه كناية عن تحريمها، وكقول المشرِّع في مقام التشريع (لا رشوة ولا غش ولا... في بلدنا) فانه كناية عن تحريمها عكس الصحفي إذ قال مثل ذلك فان ظاهره انه مخبر لا منشئ، فإن طابق كان صادقاً وإلا كان كاذباً.
ويفيد الحكم الوضعي بأحد وجهين
ولكن قد يعترض: بانه لو كان كناية عن التحريم لما أفاد الحكم الحكم الوضعي وهو الضمان في حابس الحر أو سقوط سلطنة الزوج المضار على عدم الطلاق فيجبر عليه، أو ثبوت سلطنة الطلاق للحاكم الشرعي، مع ان ذلك كان هو المدعى (أي ان المستفاد من (لا ضِرار) هو الحكم الوضعي حسب المختار وإن لم يفده (لا ضرر).
والجواب: انه يُتمَّم بأحد وجهين فيفيد الحكم الوضعي:
1- تعليله صلى الله عليه واله وسلم الأمر بالقلع بـ(لا ضِرار)
الأول: قرينة تطبيقه صلى الله عليه واله وسلم على سمرة وتعليله الحكم بالقلع بلا ضِرار فانه قال: ((إِنْ أَرَدْتَ الدُّخُولَ فَاسْتَأْذِنْ فَأَبَى فَلَمَّا أَبَى سَاوَمَهُ حَتَّى بَلَغَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَ فَقَالَ لَكَ بِهَا عَذْقٌ يُمَدُّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم لِلْأَنْصَارِيِّ اذْهَبْ فَاقْلَعْهَا وَارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار))([4]) فيستفاد منه ان (لا ضِرار) تفيد الحكم التكليفي بحرمة الإضرار أولاً وبسقوط سلطنة سمرة على نخلته أو بثبوت سلطنة الانصاري على قلعها ثانياً، فبقرينة تعليله صلى الله عليه واله وسلم (اقْلَعْهَا) بـ(لا ضِرار) يكتشف انه ينتج الحكم الوضعي أو التكليفي الآخر أيضاً، وإلا لما كان ترابط بين (فَاقْلَعْهَا) وبين (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار) مع انه ظاهر عرفاً إن لم يكن نصاً في العلّية، ولاحتيج إلى توجيهه بوجوه بعيدة غير متفاهمة عرفاً من كلامه صلى الله عليه واله وسلم ككون الأمر بـ(اقْلَعْهَا) أمراً ولائياً وليس (فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار) علّة بل هو حكمة الجعل لا علة المجعول. وهو إن كان ممكناً لكنه خلاف الظاهر إذ كان ينبغي ان يقول صلى الله عليه واله وسلم حينئذٍ (اذهب فأقلعها فإني الحاكم وولي الأمر) مثلاً وهو أبعد مما احتملناه في هذا الوجه([5])، فتأمل.
2- قرينة نفي الطبيعة بدل النهي
الثاني: انه وإن كان كناية عن التحريم، ولكن عدوله صلى الله عليه واله وسلم عن النهي بـ(لا تضاروا) مثلاً أو النفي للحكم كـ(لا جواز للإضرار)([6]) إلى نفي الموضوع لا بد ان يكون لنكتةٍ، وليست النكتة، ظاهراً، إلا لتنزيله (الضرار) منزلة العدم تشريعاً ولا يمكن تنزيله منزلة العدم إلا بتشريع الحكم الوضعي وهو سلطنة الانصاري على قلع الشجرة أو سلطنة الحاكم الشرعي على طلاق الزوجة التي كان زوجها مضارّاً.
والحاصل: ان صبّ النفي على الطبيعة إن لم يمكن ان يراد به نفيها حقيقة (لوجود الإضرار خارجاً قطعاً) فلا بد ان يراد نفيها تنزيلاً. فتأمل.
(ضِرار) قد يراد به الإضرار مع قصد الإيذاء
ثم ان عدداً من الأعلام ذكروا، وكما سبق، ان (الضِرار) يراد به الإضرار المتكرر أو الشديد بمعنى ان كلاً منهما يصدق عليه الضِرار وفاعله مضارّ، وذلك بعد فراغهم عن عدم إرادة المفاعلة منه في رواية سمرة، ونضيف: ان هنا صورة ثالثة ينطبق عليها (الضِرار) كان ينبغي ان يذكروها خاصة وان شمول (ضِرار) لها يفيد فرعاً جديداً، وهي: (الإضرار مع قصد الإيذاء) وعليه: فيشمل الضِرار:
أ- الضِرار المتكرر كما لو أضّر به مرة إثر أخرى، كما فعل سمرة بتكراره الدخول إلى منزل الانصاري.
ب- والضِرار الشديد كما لو رمى وجهه بالتيزاب فأحرقه فانه وإن كان مرة واحدة لكنه يصدق عليه حينئذٍ انه مضار.
ج- ويشمل ما لو لم يكرر ولا أضر إضراراً شديداً به بل اضر به مرة واحدة لكن كان ذلك بقصد الإيذاء فانه ضِرار ويصدق عليه انه مضار.
الفرق بين مُضرّ ومُضارّ ومِضرار
ويتضح ذلك أكثر بالتدبر في الصيغ الثلاثة: مُضرّ ومُضارّ ومِضرار، والأول: اسم فاعل من المجرد، والثاني: من المفاعلة، والثالث: صيغة مبالغة.
و(مُضرّ) ينطبق على من أضر آخر وإن لم يقصد إيذاءه (بعد الفراغ عن قصده للفعل نفسه لظهور الأفعال والمشتقات في القصدية) اما (مُضارّ) فلا يصدق إلا مع التكرر أو الشدة كما قالوا أو مع قصد الإيذاء زائداً قصد الفعل، ويوضحه المثال: فانه لو لم ينفق على زوجته رغم قدرته فانه يصدق عليه انه مضرّ بها وإن لم يقصد إيذائها كما لو لم ينفق عليها كسلاً أو اشتغالاً بالأهم بزعمه لكنه لا يصدق عليه مضار إلا لو قصد إيذاءها بذلك. فتأمل هذا.
البحث عن حكم صورة الشك في معنى ضِرار
ثم انه يبقى بعد هذا البحث كله البحث عن صورة الشك، والصّوَر، بشكل عام هي أربع كما سبق:
(والجامع: أ- انه إن علم انه بنحو المشترك المعنوي شمل المعاني العشرة كلها([7]).
ب- وإن علم أيها الحقيقة وأيها المجاز كانت هي المرادة.
ج- وإن علم الاشتراك اللفظي فان قيل باستحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى فلا يعقل إرادتها جميعاً وحيث لم يتحدد المراد كان مجملاً فان كان لها قدر متيقن خصه الحكم، وإن قيل بإمكانه فانه لا ينفع لدعوى ان كل المعاني مرادة لأن الإمكان أعم من الوقوع.)([8]).
إن قلنا بتباين المعاني فيكون اللفظ مجملاً
وبعبارة أخرى: انه قد يقال بانه إذا لم يأت بقرينة معينة لاحدى المعاني المتباينة كان اللفظ مجملاً، كما انه لا يوجد قدر متيقن بين المتباينات.
إشارة للحكمة في الإجمال ووجه متشابهات القرآن الكريم
لا يقال: ان الإجمال نقض غرض وخلاف الحكمة.
إذ يقال: يكفي في تحقق الغرض القدر المتيقن وهو مما يمكن تصويره على بعض الوجوه([9])، بل يكفي ان ذلك يبعثه على الفحص، بل يكفي ان الإجمال جمال وقد تقتضيه الحكمة ولذا قال تعالى: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)([10]) بل ان عظمة القرآن الكريم هو بوجود المتشابهات فيه، بل ان المبينّات هي مبينّات من وجه ومتشابهات من وجه بل من وجوه، بل إن من أسرار خلوده وكونه غضاً أبد الدهر ما فيه من روعة الإبهام والإجمال فان المجمل لو كان ذا عمق بل أعماق فانه يمكن ان يكتشف بالتدبر فيه كل يوم امر جديد عكس المبين غير المتشابه أو المجمل بوجهٍ.
بل يدل على ذلك ما ورد في الحديث من ان القرآن الكريم بحاجة إلى مفسر ومبين، ليحتاج الخلق إلى أهل البيت عليهم السلام حيث نزل القرآن في بيوتهم عليهم السلام ولو أنزله الله تعالى واضحاً بيناً غير محتاج إلى التفسير والشرح والتأويل لاستغنى الناس عن الرسول وأهل بيته عليهم السلام.
عن الصادق عليه السلام قال: ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً فَخَتَمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَاباً فَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ قَالَ فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه واله وسلم عَلَماً بَاقِياً فِي أَوْصِيَائِهِ فَتَرَكَهُمُ النَّاسُ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ حَتَّى عَانَدُوا مَنْ أَظْهَرَ وِلَايَةَ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَطَلَبَ عُلُومَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَاحْتَجُّوا بِالْمَنْسُوخِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ النَّاسِخُ وَاحْتَجُّوا بِالْخَاصِّ وَهُمْ يُقَدِّرُونَ أَنَّهُ الْعَامُّ وَاحْتَجُّوا بِأَوَّلِ الْآيَةِ وَتَرَكُوا السُّنَّةَ فِي تَأْوِيلِهَا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى مَا يَفْتَحُ الْكَلَامَ وَإِلَى مَا يَخْتِمُهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَوَارِدَهُ وَمَصَادِرَهُ إِذْ لَمْ يَأْخُذُوهُ عَنْ أَهْلِهِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ثُمَّ ذَكَرَ عليه السلام كَلَاماً طَوِيلًا فِي تَقْسِيمِ الْقُرْآنِ إِلَى أَقْسَامٍ وَفُنُونٍ وَوُجُوهٍ تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ إِلَى أَنْ قَالَ عليه السلام وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْخَلْقِ كَمَا لَا تُشْبِهُ أَفْعَالُهُ أَفْعَالَهُمْ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَأَشْبَاهِهَا لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ كُنْهَ مَعْنَى حَقِيقَةِ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا نَبِيُّهُ وَأَوْصِيَاؤُهُ عليهم السلام إِلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ سَأَلُوهُ عليه السلام عَنْ تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا الْمُحْكَمُ الَّذِي لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الْآيَةَ وَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ فِي الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقِفُوا عَلَى مَعْنَاهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ فَوَضَعُوا لَهُ تَأْوِيلًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ بِآرَائِهِمْ وَاسْتَغْنَوْا بِذَلِكَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْأَوْصِيَاءِ وَنَبَذُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ الْحَدِيثَ))([11]).
لا يقال: لكن الأصل الإفصاح لا الإجمال؟
إذ يقال: لا يعلم كون الإفصاح هو الأصل في القرآن الكريم لقوله تعالى: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فما ظهر انه محكم أو متشابه فهو وما لم يعلم فهو مجمل أو متشابه.
وفيه: انه إن سلم فان الرواية ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ))([12]) من كلام الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولئن كان الأصل في القرآن الإجمال (بالمعنى الأعم) أو كان الإجمال والإفصاح كلاهما أصلاً فلا يصح التمسك في المصداق المشكوك باحدهما فانه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لكن كلام الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمة عليهم السلام الأصل فيه الإفصاح لا الإجمال ولا الإبهام. فتأمل وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن أبي جعفر عليه السلام قال: ((ثَلَاثٌ قَاصِمَاتُ الظَّهْرِ: رَجُلٌ اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ وَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ))
(الخصال: ج1 ص111)
-------------------------------------------
([1]) الدرس (278).
([2]) أو يكون ولكن بواسطة، على الوجه الثاني الآتي.
([3]) سورة البقرة: آية 197.
([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص292.
([5]) الكناية فالاستلزام بقرينة التطبيق.
([6]) أو لا يجوز الإضرار.
([7]) باستثناء البعض – كرأي الأصفهاني التصدي للضرر وكرأي من قال ان الإضرار السعي إلى الضرر، إن لم يعد إليه – فتدبر.
([8]) الدرس (275).
([9]) وسيأتي.
([10]) سورة آل عمران: آية 7.
([11]) وسائل الشيعة: ج27 ص200.
([12]) عوالي اللآلئ: ج1 ص220.