بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(243)
المدار في الضمان شمول (اضرّ) لا خصوص إسناد الفعل إليه
كما يرد على ما ذكره الجواهر من: (قلت : لا يخفى عليك ما فيه بعد التأمل فيما ذكرناه ، ضرورة أن القوة إذا كانت على وجه لا يسند الفعل إلا إلى ذيها تدفع الضمان عن السبب الذي ظاهر ما دل على التضمين به انما هو فيما إذا لم يكن معه مباشر قوي)([1]) إضافة إلى ما سبق: ان المقياس في الضمان وعدمه ليس إسناد الفعل إلى ذي القوة وعدمه كإسناد القتل إلى الدافع دون الحافر (فيمن دفع شخصاً في حفرة فقتله وكان الآخر قد حفرها) فإن (الإسناد) وعدمه مما لم يرد في رواية (على انه لو ورد لما نفى المقياس الآتي المعتمد فان اللقب لا مفهوم له) والمقياس الوارد في الروايات:
أولاً: ((مَنْ أَضَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ))([2]) في صحيحة الكناني بناء على ما اعترف به الجواهر نفسه من عدم خصوصية للطريق([3]) وانه من باب المثال ان أي إضرار بالمسلمين بأي نحوٍ كان موجب للضمان والضارّ ضامن.
ثانياً: (لا ضرر ولا ضرار) شامل للحافر كالدافع؛ فانه يصدق على كليهما انه أضرّه.
ثالثاً: ما سيأتي مما استدل به الوالد من روايات (لا يُتوى...).
الأقوال في ضمان السبب أو المباشر
وصفوة القول فيما إذا اجتمع السبب مع المباشر (كمن حفر بئراً في ملك غيره عدواناً فدفع غيره فيها إنساناً – كما في الجواهر) ان المحتملات بل الأقوال ثلاثة:
1- ضمان المباشر فقط
الأول: ما ذكره الجواهر (من تقديم المباشرة على التسبيب الذي لم أجد فيه خلافا بينهم، بل أرسلوه إرسال المسلمات في المقام وفي القصاص والديات، بل عن كشف اللثام الإجماع عليه...)([4]).
2- الضمان الطولي
الثاني: ما التزمه الرياض صناعياً، أي لولا الإجماع، من ان كليهما ضامن، وظاهره الضمان الطولي وان قرار الضمان على الدافع؛ لقوله (كترتّب الأيدي في الغصب)، وإن احتمل انه يريد الوجه الثالث الآتي، لكنه بعيد عن ظاهر كلامه.
3- التشريك
الثالث: ما التزمه السيد الوالد في (الفقه) من تشريكهما في الضمان، قال: (فتحصل: ان مقتضى القاعدة ان السبب والمباشر إذا استند إليهما الفعل عرفاً كانا شريكين في الضمان لاشتراكهما في التلف الحاصل خارجاً، فانه لولا الحَجَر لم يحصل التردي في البئر، كما انه لولا البئر لم يؤثر التعثر بالحجر تلفاً، وإليه مال الجواهر أخيراً)([5]).
أقول: ويشهد للأخير إطلاقات ((مَنْ أَضَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ)) و((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)) و(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) لصدق أضرّ والضرر والضرار والاعتداء عليهما معاً، فمقتضى القاعدة التشريك، ولا يوجد دليل لفظي على اقوائية المباشر على السبب مطلقاً ليكون حاكماً على هذه الأدلة. فتدبر.
دلالة روايات الزبية على عدم ضمان السبب
ثم ان السيد الوالد المشهورَ بروايات الزبية([6]) قال: (أقول: لا إشكال في مثل الإحراق بالشمس والإلقاء في الماء والمسبعة وما أشبه، وإنما الإشكال في فاعِلَين مختارين أحدهما مقدم على الآخر، كما في حافر البئر ودافع غيره إنساناً فيها.
ويؤيد المشهور أحاديث الزبية، فإن الإمام عليه السلام لم يجعل شيئاً من الدية على الحافر، وإنما جعل الدية على المباشر.
فعن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السلام ((أَنَّ قَوْماً احْتَفَرُوا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ بِالْيَمَنِ فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأَسَدِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ فَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ وَالْآخَرُ بِآخَرَ فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُخْرِجَ فَمَاتَ، فَتَشَاجَرُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى أَخَذُوا السُّيُوفَ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام هَلُمُّوا أَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَقَضَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ: رُبُعَ الدِّيَةِ، وَلِلثَّانِي: ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَلِلثَّالِثِ: نِصْفَ الدِّيَةِ، وَلِلرَّابِعِ: دِيَةً كَامِلَةً، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَبَائِلِ الَّذِينَ ازْدَحَمُوا، فَرَضِيَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَسَخِطَ بَعْضٌ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ o وَأُخْبِرَ بِقَضَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَأَجَازَهُ))([7])
وفي رواية محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ((قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي أَرْبَعَةِ نَفَرٍ أَطْلَعُوا فِي زُبْيَةِ الْأَسَدِ، فَخَرَّ أَحَدُهُمْ فَاسْتَمْسَكَ بِالثَّانِي وَاسْتَمْسَكَ الثَّانِي بِالثَّالِثِ وَاسْتَمْسَكَ الثَّالِثُ بِالرَّابِعِ حَتَّى أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَلَى الْأَسَدِ، فَقَتَلَهُمُ الْأَسَدُ، فَقَضَى بِالْأَوَّلِ فَرِيسَةَ الْأَسَدِ، وَغَرَّمَ أَهْلَهُ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِأَهْلِ الثَّانِي، وَغَرَّمَ أَهْلَ الثَّانِي لِأَهْلِ الثَّالِثِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَغَرَّمَ الثَّالِثَ لِأَهْلِ الرَّابِعِ دِيَةً كَامِلَةً))([8]) فان هذين الحديثين ومثلهما غيرهما تدل على عدم شيء على حافر الزبية، مع وضوح ان الزبية تحفر كما تحفر البئر.
نعم لا يبعد الحكم بما ذكره الرياض فيما إذا كان كلاهما عرفاً سبباً، كما إذا حفر أحدهما بئراً والآخر ألقى إنساناً في البئر، وقد فعلا ذلك بقصد إهلاك ذلك الإنسان، أو وضع أحدهما سكيّنة حادّة في مكان، وألقى الآخر إنساناً على تلك السكيّنة فقتلته، إلى غير ذلك من الأمثلة)([9]).
وقد رأيت انه صرح بالتشريك بالضمان فيما مضى نقله من كلامه والذي هو متأخر في كتابه عن هذا الكلام فلاحظ.
المناقشة في دلالة روايات الزبية
ولكن يرد على الاستناد لروايات الزبية:
أولاً: انها لا إطلاق لها، وتنقيح المناط ظني.
ثانياً: ان إطلاقات (لا يُتوى...) و((مَنْ أَضَرَّ بِشَيْءٍ...)) و(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ...) وتشمل السبب أيضاً وقد خرج منه مورد الرواية خاصة للدليل الخاص فبقي الباقي هذا.
ثالثاً: انه قد يقال في وجه عدم تضمين حافر الزبية ان حفره لم يكن في طريق المسلمين ولم يكن عدوانياً ولا يصدق عليه عرفاً انه اضر بمسلم ولا انه سبب ولا معتدٍ وانه كان من التصرف في المباح وما له فيه حق شرعاً وعرفاً فلا وجه للضمان.
الاستدلال بـ(يُتوى...) على الضمان مطلقاً
وقد استدل السيد الوالد على الضمان في مطلق الموارد التي ارتأى فيها المشهور عدم الضمان بقوله: (أقول: مقتضى القاعدة بالإضافة إلى ما استثناه المسالك من الضمان ما قواه الدروس من الضمان في الجميع، وذلك لأن الدليل ليس خاصاً بعلى اليد ونحوه حتى يقال: انه لا يشمل المقام، بل مثل قوله عليه السلام: ((لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ))([10]) وقوله: ((وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ مُسْلِمٍ))([11]). وقوله: ((وَلَا تَبْطُلُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ))([12]). وقوله عليه السلام: ((وَإِنْ فَوَّتَهَا الْمُغْتَصِبُ))([13]). وما أشبه يشمل المقام، فان مَن تَوى حق هذا الإنسان، هو الشخص الذي منعه من متاعه أو ما أشبه، فيفهم منه انه ضامن، وإلا فلا يتوى ليس أمراً تكوينياً، وإنما هو أمر تشريعي.
وحيث لا جهة أخرى تؤدي حق هذا الإنسان الذي توى حقه، فاللازم بالدلالة العرفية أن يكون الحق على الذي تواه، ولذا كان المحكي عن التذكرة بعد ان نفى الشك عن عدم تحقق الغصب في الدابة المتقدمة قال: وهل يضمن؟ قال بعض علمائنا: لا يضمن، وفيه إشكال.
قال في الجواهر: ومنه يعلم، انه لا يلزم من عدم كونه غاصباً عدم كونه ضامناً إن كان سبب آخر، غير الغصب. أما قوله: بعد ذلك، لا ينبغي التأمل في عدم ضمان نقصان القيمة السوقية لعدم تفويت مال عليه بمباشرة، أو تسبيب، ومن هنا لم تضمن منافع الحر إجماعاً، فيرد عليه ان عدم ضمان منافع الحر أيضاً محل نظر، فإذا كان هذا الإنسان يكتسب كل يوم ديناراً ويقوت عياله، فحبسه الظالم ظلماً عشرة أيام، فلماذا لا يضمن هذا الظالم عشرة دنانير منافعه؟ واستناد الفقهاء إلى بعض الأدلة يوجب عدم إمكان الاعتماد على الإجماع، لأنه محتمل الاستناد، ولذا اخترنا ضمان عمل الحر أيضاً)([14]).
بعض فقه حديث (لا يُتوى...)
أقول: وتوضيحه في نقاط:
الأولى: ان (لا يُتوى..) لا يمكن القول بانه تكويني أي لا يصح إرادة (لا يُتوى تكويناً) لبداهة وقوع التوي والتضييع للحقوق خارجاً كثيراً فلو حمل على التكوين لزم الكذب، فالمراد به (لا يُتوى تشريعاً) أي لم يشرع الشارع حكماً يلزم منه تضييع حقوق المسلمين أي انه لا يُضيَّع حقٌ ناشئاً من قبل الشارع.
الثانية: ان عدم تضييع الحقوق تشريعاً لا يكون إلا بالضمان، أي بضمان مَن منعه من بيع بضاعته مثلاً وقت ارتفاع قيمتها حتى رخصت، أو حَجَز كلبه فأكل الذئب غنمه، أو منعه من الجلوس على بساطه فاطارته الريح إلى البحر أو الوادي بما لم يمكن استرجاعه، فان الشارع لو حكم بعدم ضمان الجاني كان قد حكم بتضييع حقه، ولا يمكن دفع الشارع أو رفعه تضييع حق المسلم إلا بتشريعه الضمان على الجاني.
الثالثة: ان مقتضى القاعدة ضمان الجاني، لا بيت المال كما احتمله المحقق القمي أو غيره([15])، وذلك:
أولاً: لأن تضمين بيت المال خلاف الأصل فيحتاج إلى الدليل، وتضمين الجاني وفق الأصل لدى العقلاء.
ثانياً: لشمول إطلاقات ((مَنْ أَضَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ)) للجاني فانه الذي أضرّ.
ثالثاً: لأن تحميل بيت مال المسلمين، الضرر، ضرر، على المسلمين، ولم ينشأ من قبلهم، فكيف لا يحمّل من نشأ الضرر من قبله ويحمّل المسلمون الذين لم ينشأ الضرر من قبلهم الضرر؟
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِي الشِّدَّةِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ))
(الكافي: ج2 ص472).
----------------------------------------------------------------------------
([1]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، الناشر: دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج37 ص55.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص350.
([3]) قال في الجواهر: (إلى غير ذلك من النصوص التي منها المعتبرة المستفيضة الدالة على غرامة الشاهد إذا رجع عن شهادته بعد ما قضي بها للأول قدر ما أتلفه من مال الرجل وعلى أنه يقتل إذا قتل بشهادته وقال الشاهد: تعمدت الشهادة عليه زورا، وعلى غرامة دية اليد مثلا لو شهد عليه بالسرقة ورجع وقال: إني اشتبهت، وعلى غرامة المهر لو شهد بطلاق زوجة ثم تزوجت، أو بموت زوجها ثم جاء زوجها، أو رجع الشاهد عن شهادته بالطلاق، ومنها دل على رجوع المغرور، ومنها ما دل على تسبيب الإكراه وغير ذلك، المعلوم عدم خصوصية الطريق فيها ، كمعلومية عدم خصوصية لما ذكر فيها من الأفراد). (جواهر الكلام: ج37 ص47ـ48).
([4]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، الناشر: دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج37 ص54.
([5]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الغصب، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج78 ص118ـ 119.
([6]) وإن لم يبنِ على ذلك بل على عكسه بنى.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص286.
([8]) المصدر نفسه.
([9]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الغصب، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج78 ص113ـ 115.
([10]) فقه الرضا عليه السلام: ص308.
([11]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص302.
([12]) المصدر نفسه: ص198.
([13]) مستدرك الوسائل: ج12 ص105.
([14]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الغصب، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج78 ص18ـ19.
([15]) المصدر نفسه: ص21.