بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(239)
مناقشات مع الجواهر وغيره
وبما ذكرناه من ان سلطنة المالك على ملكه مقيّدة ثبوتاً بعدم الإضرار بالغير إضراراً اعتدائياً، ومن ان تصرف المالك في ملكه، جائز وإن كان مضراً بالغير ولكن فيما إذا كان من الإضرار غير الإعتدائي أو إذا كان من مصاديق الحقوق المتقابلة([1])، وإلا لم تجز، يظهر وجه النظر في كثير من أنظار الجواهر والمشهور:
قال في الجواهر: (نعم في التذكرة ((هذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده، فان فعل ما يغلب على الظن فيه أنه يؤدي إلى خلل في حيطان جاره فأظهر الوجهين عند الشافعية الجواز، وذلك كما إذا يدق الشيء في داره دقا عنيفا ينزعج منه الحيطان، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر منه النداوة إلى حيطان الجار، ولو اتخذ داره مدبغةً أو حانوته مخبزةً حيث لا يُعتاد فان قلنا لا يمنع في الصورة السابقة فهنا أولى، وإن قلنا بالمنع فهنا يحتمل عدمه، لأن الضرر من حيث التأذي بالدخان والرائحة الكريهة، وأنه أهون، وكذا البحث في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر.
والأقوى أن لأرباب الأملاك التصرف في أملاكهم كيف شاؤوا، إذ لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر الجار لم يمنع منه، ولا ضمان، ولكنه قد يكون فعل مكروها، وبه قال الشافعي، وقال مالك: يمنع، فان فعل وتلف شيء ضمنه))([2]))([3]).
ونظيره ما التزم به السيد الاصفهاني في الوسيلة قال: (وكذا لا مانع من إطالة البناء وإن كان مانعاً من الشمس والقمر والهواء، أو جعل داره مدبغة أو مخبزة مثلًا وإن تأذّى الجار من الريح والدخان إذا لم يكن بقصد الإيذاء؛ وكذا إحداث ثقبة في جداره إلى دار جاره موجبة للإشراف أو لانجذاب الهواء؛ فإنّ المحرّم هو التطلّع على دار الجار لا مجرّد ثقب الجدار)([4]).
لا ضرر رافع لجواز تصرفات المالك الإعتدائية ولسلطنته
أقول: الظاهر ان (لا ضرر) رافع لسلطنة المالك وجواز تصرفاته إذا كانت إضرارية إعتدائية، أي انه لا سلطنة له على التصرف في ماله بما يضر بالآخرين إذا صدق عليه انه إضرار إعتدائي؛ نظراً لحكومة أدلة (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ)([5]) على أدلة السلطنة على المال، إضافة إلى ان (لا ضرر) مطلق يشمل إضرارات المالك الإعتدائية فانها ضرر نشأ من حكم الشارع (على فرضه) بجواز هذه التصرفات له، و(لا ضرر) بناء على ان مفاده لا حكم ضررياً([6]) ينفي ثبوت هكذا حكم (بجواز إضرار المالك إضراراً إعتدائياً بالغير) كما انه بنفيه عدم الضمان يثبت الضمان بناء على شمول لا ضرر للعدميات والوضعيات، ولكن لا ضرر منصرف عن الإضرارات المعهودة المتعارفة أي غير الإعتدائية، وعن الإضرار الذي تواضع عليه الناس أو فقل بان ذلك فرع سلطنتهم على أنفسهم وأموالهم فان لهم الإضرار بها نظراً لسلطتهم عليها إلا الإضرار البالغ جداً مما لا يرى العرف أو الشرع سلطنة لهم عليهم نظير قطع العضو وإزالة القوة.
الضمان في مطلق صور التسبيب للتلف
كما ظهر مما ذكرناه من ان لا ضرر نافٍ للأحكام العدمية أي أعدام الأحكام ومثبت للوجودية ومما سيأتي من ان التسبيب مطلقاً موجب للضمان، وجه الإشكال فيما ذكره الجواهر وغيره من: (وحينئذ فلو منع غيره من إمساك دابته المرسلة فتلفت لم يضمن. وكذا لو منعه من القعود على بساطه أو منعه من بيع متاعه فنقصت قيمته السوقية أو تلفت عينه) كما في النافع ومحكي التحرير والتبصرة وشرح الإرشاد للفخر وإن لم يذكر في بعضها تمام الأمثلة، بل في المسالك وغيرها نسبته إلى المشهور، للأصل بعد عدم تحقق الغصب بعدم إثبات اليد)([7]) ونظيره ما لو منعه من حراسة ماشيته حتى تلفت وكذلك دلالة السارق على مخزنه وأمواله وفتح الباب له مما مثلوا به والتزموا بانه غير موجب للضمان([8]).
وذلك لعدم انحصار أسباب الضمان بالغصب، بل كل ما عدّ إتلافاً أو تسبيباً للإتلاف عرفاً فانه موجب للضمان، وتلك الموارد مما يراها العرف تسبيباً للتلف وإتلافاً.
والحاصل: ان (لا ضرر) يصلح ان يكون من أدلة الضمان فان عدم ضمان أولئك (مَن منع المالك من إمساك دابته فتلفت، ومَن منعه من الجلوس على بساطه فاطارته الريح، ومَن منعه من بيع متاعه حتى نقصت قيمته السوقية، ومَن منعه من حراسة ماشيته حتى أكلها السبع، وكذا من فتح الباب للص حتى سرق أو دلّه على الخزانة وهكذا) موجب للضرر القطعي على المالك (ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام) أو يقال: عدم وجوب التعويض ضرري، فيرفع بلا ضرر، أو يقال: جواز الإتلاف في تلك الصور بلا ضمان ضرري فيرفع، فتدبر.
الضرر الإعتدائي مرفوع لا خصوص الفاحش
كما ظهر ما فيما ذكره (في الكفاية: ((يشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضررا فاحشا نظرا إلى تضمن الأخبار نفي الضرر والإضرار وهو الحديث المعمول به بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم، خصوصا ما تضمن الأخبار المذكورة من نفي الضرر الواقع في ملك المضار)))([9]) إذ يرد عليه: ان المقياس ليس الضرر الفاحش أو القليل فانه لم يرد في الرواية بل الضرر الإعتدائي وغيره فان ذلك مجمع دليلي (لا ضرر) و(لا تعتدوا) فيشمل حتى الضرر غير الفاحش إن عدّ عرفاً إعتدائياً كما سيأتي.
معارضة الجواهر بين لا ضرر ودليل السلطنة، والمناقشة
كما ظهر ما في قول الجواهر من: (وقد يناقش بأن حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لرب المال، وهو أيضا معمول به بين الفريقين، والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه، والترجيح للثاني بعمل الأصحاب كما اعترف به، ولا سيما إذا استلزم منع المالك عن التصرف ضررا عليه أشد من ضرر الجار أو مساويا أو أقل بحيث لم يتفاحش معه ضرره)([10]).
فان الملاك كما سبق ان يكون الضرر إعتدائياً وعدمه ومما تُوُضع عليه وعدمه، ولا مدخلية لأشدية الضرر أو مساواته أو أضعفيته فانه حتى إن فرض ان ضرر المالك بترك التصرف في ملكه أشد من ضرر الجار بتصرفه في ملكه، لكنه إذا كان إعتدائياً لم يجز، فمثلاً لو فرض ان تصرّفه في داره الموجودة في منطقة سكنية هادئة، بجعلها مثلاً صالة رياضية تملأ المنطقة بالضجيج وتهز جدران الجيران هزاً عنيفاً، كان يعدّ في العرف ضرراً إعتدائياً فانه لا يجوز له وإن كان تضرّره بعدم ذلك أكثر من تضرر الجيران جداً كما لو كان ممن له مجال له للرزق غيره وانه لو لم يفعل لَسُجن مثلاً لعدم قدرته على سداد دينه أو لَتَمرَّض من الجوع مرضاً شديداً.
ثم ان من نافلة القول الإشارة إلى ان العناوين الثانوية نظير لا ضرر حاكمة على العناوين الأولية كدليل السلطنة فلا تقع المعارضة بينهما فلا يصح ما ذكره قدس سره ههنا من (والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه، والترجيح للثاني بعمل الأصحاب كما اعترف به) بل انه قدس سره لم يبنِ عليه بل بنى على الحكومة في آتي كلامه حيث قال لاحقاً: (على أن المنساق من العامين المزبورين تحكيم قاعدة الضرر ، كما في جميع نظائره وإن كان بينهما تعارض العموم من وجه)([11]) وهو كما ترى صريح في اختياره مسلك الحكومة فهو بذلك سابق على الشيخ وإن كان للشيخ فضل تنقيح الحكومة وصقل القاعدة بشكل أوسع وأتقن، نعم يمكن ان يوجّه التعارض بقوة المحكوم لاعتضاده بأمر خارج بالعمل أو شبه، لكنه موجب لانصراف الحاكم عنه لا للتعارض بينهما. فتأمل. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام : ((لَوْ أَنَّ حَمَلَةَ الْعِلْمِ حَمَلُوهُ بِحَقِّهِ لَأَحَبَّهُمُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَلَكِنَّهُمْ حَمَلُوهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا فَمَقَتَهُمُ اللَّهُ وَهَانُوا عَلَى النَّاس))
(تحف العقول: ص201).
-------------------------------------------------------------------------------
([1]) وهذا من مصاديق سابقه.
([2]) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء ـ ط قديمة، منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية: ج2 ص414.
([3]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، الناشر: دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج38 ص49.
([4]) السيد أبو الحسن الموسوي الاصفهاني، وسيلة النجارة، مع تعاليق السيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني: ج3 ص106.
([5]) سورة البقرة: آية 190.
([6]) اما بناءً على انه نهي فالأمر أوضح، وبالتدبر يظهر الحال على سائر المباني.
([7]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، الناشر: دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج37 ص14.
([8]) قال في الجواهر: (والظاهر عدم كون التعدي والتفريط الموجبين للضمان في الأمين من ذلك حتى يصح التعدي منها إلى ما ماثله في غير الأمين، فيكون دلالة السارق وفتح الباب ومنع المالك حراسة ماشيته موجبا للضمان، باعتبار إيجاب مثله في الأمين الذي مدار ضمانه على التعدي والتفريط الصادق ثانيهما في المفروض إذا كان من الأمين دون غيره، فتأمل جيدا في جميع ما ذكرناه، فإنه دقيق نافع لم أجده محررا في كلامهم). (جواهر الكلام: ج37 ص52).
([9]) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، الناشر: دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج38 من ص50.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) المصدر نفسه: ص51.