192- حدود مرجعية بناء العقلاء لنكتة ارتكازية او تعبدية او مجملة - المرجعية في كيفية الاطاعة
السبت 8 رجب 1440هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(192)
سيرة العقلاء لنكتة عقلائية أو تعبدية أو مرددة
سبق ان المرجع في (الحكم) هو الشرع ولكن هل العقل مرجع؟ وهل بناء العقلاء مرجع؟ وإجمال الكلام في كلي المبحث في إيجاز هو: ان سيرة العقلاء وبناءهم قد يقال بكونها حجة مطلقاً وقد يقال بالتفصيل بين الصور الثلاث الآتية:
الأولى: كون سيرتهم لنكتة عقلائية مع العلم بها.
الثانية: كون سيرتهم لنكتة تعبدية.
الثالثة: تردد وجهها بين نكات تعبدية وتعقلية.
ولنمثل ذلك بمثالين:
وجهان لبناء العقلاء على كون الإحياء مملِّكاً والحيازة محقّقة
الأول: بناء العقلاء على كون الحيازة مملِّكة أو محقِّقة([1]) (أي موجبة للحق) وعلى ان الإحياء مملِّك، فقد ذهب بعض الأعلام إلى ان النكتة في ذلك هي انتظام أمور المعاش، وهي نكتة عقلائية غير تعبدية، ويمكن توضيح كلامه بانه لو لم تكن محقِّقة أو مملِّكة لما استقر حجر على حجر ولكان لكل أحد الحق في التصرف في الأراضي التي أحياها أو حجّرها الغير وفي مصادرة ما صاده من طير أو حيوان أو حازه من معدن وغيره وذلك موجب للفساد الكثير والنزاع الطويل إضافة إلى زهد الناس في إحياء الأراضي واستخراج المعادن وفي السعي للحيازة بمختلف أنواعها، وفي ذلك بوار الأسواق ودمار الاقتصاد والحرث والنسل.
ولكن الظاهر عدم تمامية هذه النكتة بمعنى ان هناك نكتة سابقة على ذلك هي التي أوجبت – بالدرجة الأولى – بناء العقلاء على مملكية الإحياء والحيازة أو موجبية الأخيرة لحق الاختصاص على الأقل، وهي ان العقلاء يرون في ارتكازهم ان الحيازة والإحياء موجبان لحصول عُلقة ذاتية بين المحيي والمحيى والحائز والمحوز.
وبعبارة أخرى: يرون التملك بالإحياء نوعاً من الاستحقاق الذاتي أو الأولوية الطبعية، ويدل على ذلك انهم يرون التملك بالإحياء حتى لمن نشأ في جزيرة منعزلة.. بعبارة أخرى: كل إنسان يرى من نفسه ووجدانه انه يصير بإحياء الأرض أو حيازة الصيد مالكاً له أو ذا حق فيه وإن لم يعش في مجتمع أصلاً أو وإن لم يلاحظ كونه فيه وانتظام معاشهم ومعاشه بذلك، بعبارة أخرى: ان ذلك في رتبة سابقة ارتكازاً على ملاحظة حال المجتمع وملاحظة قضية انتظام معاشهم وعدمه، كما يدل عليه ان العقلاء يرون الحق أو الملك بالإحياء والحيازة ولو فرض ان المجتمع كان متجانساً متآخياً متوادّاً مبنياً على المواساة والإيثار بحيث يسمح الكل للكل بالتصرف فيما يحوزه أو يحييه، نظير ما قاله الإمام عليه السلام ((قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: أَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ فَيُدْخِلَ يَدَهُ فِي كِيسِهِ فَيَأْخُذَ حَاجَتَهُ فَلَا يَدْفَعَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا أَعْرِفُ ذَلِكَ فِينَا! فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: فَلَا شَيْءَ إِذاً. قُلْتُ: فَالْهَلَاكُ إِذاً! فَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُعْطَوْا أَحْلَامَهُمْ([2]) بَعْدُ))([3]) بل ان المجتمع لو فرض رضا بعض أفراده بان يأخذ بعضهم الآخر منهم ما حازوه أو ملكوه (كونهم جميعاً ممن (يأخذ حاجته من الآخر فلا يدفعه)، فانه مؤكد لما قلناه إذ انهم يرون أنفسهم ذوي حق أو مالكين ولذا لهم الحق في هبته أو إباحته للغير كما يراهم الآخرون كذلك (ملّاكاً وهبوا أو أباحوا) لا انه يراهم أجانب عن الـمُحيى والـمَحوز وقد وهبوا ما لا يملكون أو أباحوا ما هو مباح للكل تحصيلاً للحاصل!
بل يدل عليه قبل ذلك: ان ذلك هو مقتضى الفطرة المغروسة لا في الإنسان فحسب بل في الحيوان أيضاً؛ ألا ترى ان الحيوان لو حاز شيئاً لاعتبره حقاً له أو ملكاً ولذلك يرى الإنسان أو الحيوان الآخر الساعي لأخذ طعمه منه دون رضاه، معتدياً؟
وجوه لبناء الناس على إطاعة حكوماتهم
الثاني: سيرة العقلاء وبناءهم من كل الأمم والنحل على إطاعة حكوماتهم مطلقاً([4]) أو في الجملة، ولكن هل هذه السيرة هي من جهة خوفهم من الحكومة أو من جهة طمعهم فيها؟ أو من جهة انهم يرون لها عليهم ولاية؟ أو من جهة المصلحة والأهم والمهم وانهم يرون في المخالفة مفسدةً أعظم وفي الموافقة نفعاً أكبر ومفسدة أقل؟ أو المركب من ذلك كله؟
فعلى الأول والثاني: فلا حجية لهذه السيرة إذ لم تنبع من حكم العقل نفسه، وإنما تكون حجة لو ثبت إمضاء الشارع ولو بعدم الردع.
وعلى الثالث: فقد يقال بكونها حجة وقد لا يقال: نظراً للجهل بجهة حكمهم، لو لم يعلم رجوعها للأول والثاني أو الرابع.
وعلى الرابع: فان الأمر تابع للمصلحة الغالبة والمفسدة الغالبة، وأصل رجحان العمل بالمصلحة الغالبة عقلي لكن تشخيص مصداقه أمر آخر، وعليه: فليس من الولاية في شيء؛ إذ الولاية منصب ولزوم إطاعة شخص في أمر لطروّ عنوانٍ ثانوي من المفسدة في مخالفته أعم من ثبوت منصب الولاية له. فتأمل([5])
وعلى الخامس: فكل موردٍ له حكمه.
كما سبق: (خامساً: مفهوم الحكم: وقد بحث الأصوليون مثلاً ان الوجوب هل هو الطلب الأكيد والمرتبة الشديدة من الطلب؟ أو هو الأمر بالشيء مع النهي عن ضده؟ فهو أمر بسيط على الأول ومركب على الثاني أي انه حقيقة تشكيكية أعلاها أعلا درجات الوجوب وأدناها أدنى درجات الاستحباب أو انه هو والاستحباب حقيقتان متفصلتان بفصلين؟ وهل المرجع في مفهوم الحكم الشرع أو العرف العام أو الأصوليون أو الفلاسفة؟)([6]).
المرجعية في مفاهيم الأحكام الوضعية
ونضيف: ان الأحكام الوضعية كلها من هذا الباب وذلك كالملكية التي نقلنا في أول كتاب البيع الأقوال والمباني المتكاثرة فيها: ومنها: انها أمر اعتباري. ومنها: انها أمر انتزاعي. ومنها: انها أمر حقيقي وغير ذلك، فراجع.
وكالحق والأقوال فيه متعددة كما فصّلناه هناك، وكالطهارة والنجاسة حيث وقع الخلاف في انهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع؟ أو أمران اعتباريان محضاً؟ أو هما أمر بينهما؟ وعلى أي فمحل البحث هو المرجعية في تشخيص مفاهيمها وحقائقها فهل المرجع الشرع أو العرف العام أو العرف الخاص؟ وهل المراد بالعرف الخاص اللغويون أو الفلاسفة أو الأصوليون؟
مصداق الإطاعة
سادساً: مصداق الإطاعة، وتقع في دائرته مسائل أصولية وفقهية:
فمنها: انه هل تصدق الإطاعة بعد الإطاعة؟ والامتثال بعد الامتثال؟ فمثلاً لو أمره المولى بان يأتي له بكوب ما، فجاءه بكأس ثم جاءه بكأس آخر (ومفروض الكلام قبل ان يشربه وإلا فانه يسقط الأمر بحصول الغرض كما يسقط بالامتثال) فهل الإتيان بالكأس الثاني امتثال وإطاعة أو انهما تمصدقا في الكأس الأول؟ أو ان الأمر مراعى بما يشرب منه المولى؟
ومن أمثلته الفقهية: الإتيان بغسل الجنابة ثانياً، فهل هو صحيح؟ أو هل هو مستحب؟ أي هل انه إطاعة لأمر غسل الجنابة أو انه لغو بالمرة؟ فمن الحاكم في ذلك كله؟ وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ فِي أَرْبَعٍ: أَوَّلُهَا أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِك)) (كشف الغمة: ج2 ص255).
------------------------------------------
([3]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص174.
([5]) إذ قد يناقش في انعقاد بناء العقلاء على إطاعة حكوماتهم.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |