189- انواع السيرة: في طرق الاطاعة والمعاملات والاحكام تفصيل النائيني والمناقشة
الأربعاء 28 جمادى الآخرة 1440هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(189)
السيرة اما في طرق الإطاعة أو المعاملات أو الأحكام
ثم ان متعلق السيرة أو نطاقها ومجالاتها، هو أحد أمور ثلاثة:
الأول: سيرة العقلاء في طرق الإطاعة والمعصية، وذلك كحجية الظواهر وحجية خبر الثقة في الأحكام وحجية الإقرار والبيّنة في الموضوعات، فان أمثال الظواهر هي الطرق لمعرفة أحكام الموالي، والشارع سيدهم، وإطاعتها.
الثاني: سيرة العقلاء في المعاملات، كسيرتهم على نقل ممتلكاتهم بالبيع أو الهبة مثلاً.
الثالث: سيرتهم في الأحكام، كجريان سيرتهم على الإحسان للضيف أو رد الوديعة أو شبه ذلك.
والمختار ان سيرة العقلاء بما هم عقلاء حجة في الصور الثلاث؛ لما سبق من انها إذا كانت ناشئة من العقلاء بما هم عقلاء كان مرجعها إلى استقلال العقل بها والعقل حجة ذاتية كما سبق، وسيأتي بإذن الله تعالى مزيد بيان أيضاً.
ولكن عدداً من الأعلام فصّل بأنحاء من التفصيلات فقد فصّل الميرزا النائيني بنحو وفصّل الآخوند الخراساني بنحو آخر:
النائيني: حاجتها للإمضاء في المعاملات دون الطرق العقلائية
اما الميرزا النائيني فقد فصّل بين المعاملات التي جرت عليها سيرة العقلاء فالتزم بحاجتها إلى إمضاء الشارع، نظراً إلى حاجتها للاعتبار والجعل، والإمضاء جعل دون عدم الردع، وبين الطرق العقلائية فالتزم بعدم حاجتها إلى الإمضاء (أي الصريح) وكفاية عدم الردع عنها لأنه كاشف قطعاً عن رضا الشارع مادامت السيرة بمرأى منه ومسمع مع قدرته على الردع ولم يردع ومع توفر الدواعي على نقل الردع إلينا لو كان قد ردع.
المناشئ الثلاث للطرق العقلائية
قال: (فإنّ مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو: إمّا أن يكون لقهر قاهر وجبر سلطان جائر قهر جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة، واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم، واستمرت إلى أن صارت من مرتكزاتهم، وإمّا أن يكون مبدأها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت، وإمّا أن تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظاً للنظام. ولا يخفى بُعد الوجه الأول، بل استحالته عادة، وكذا الوجه الثاني، فالمتعيّن هو الوجه الثالث)([1]).
أقول: سبق النقاش مع الميرزا بوجوه حول ذلك ومنها: إمكان كون أحد الأنبياء مُنشأً للسيرة كنوح عليه السلام إذ لم يبق من أهل العالم إلا ثمانون في سفينته وإذا كان شيوخ العشائر بإمكانهم صنع سيرة لعشائرهم وقد يكون عددهم مائة ألف فما بالك بالنبي ومعه ثمانون فقط، وقد فصلنا ذلك مع وجوه أخرى فراجعه ولا نعيد لعدم مساسه الآن بجهة البحث.
ثم قال: (ولكن على جميع الوجوه الثلاثة يصح الاعتماد عليها والاتكال بها، فإنّها إذا كانت مستمرة إلى زمان الشارع وكانت بمنظر منه ومسمع وكان متمكناً من ردعهم، ومع هذا لم يردع فلا محالة يكشف كشفاً قطعياً عن رضا صاحب الشرع بالطريقة، وإلا لردع عنها كما ردع عن كثير من بناءات الجاهلية، ولو كان قد ردع عنها لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله)([2]).
أقول: ومن الواضح ان النبي صلى الله عليه والله وسلمكان مبسوط اليد وكان قادراً على الردع عن مثل إتباع خبر الثقة الواحد بان يشترط كونهما اثنين مثلاً، يدلّك على ذلك انه ردع عن ما هو أشد وأصعب من ذلك جداً وأقل ابتلاءً وفائدة كزواجه من زوجة ابنة بالتبني زيد حيث انه كان من أشد المحرمات في الجاهلية ولم يكتف النبي بتحليله تشريعاً بل انه تزوجها بنفسه رغم ان المشركين استغلوا ذلك للتشكيك حتى في نبوته ومع ذلك فعل ذلك وغيره كثير وأمر الطرق أسهل من شبه ذلك بكثير جداً، بل يكفي دلالة على ذلك ان الروايات ردعت عن القياس مع انه من عادة الناس وكان من الممكن ان يردعوا عن مثل الظواهر لو كان باطلاً.
ثم قال: (ومن ذلك يظهر: انه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها، فإنّ عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضا بها وإن لم يصرح بالإمضاء.
نعم، لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات؛ لأنها من الأمور الاعتبارية التي تتوقف صحتها على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع فلا بدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الإطلاق، وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان بـ"البيمة" فإنها إذا لم تندرج في عموم (أحلَّ الله) و(أوفوا بالعقود) ونحو ذلك فلا يجوز ترتيب آثار الصحة عليها).([3])
مناقشات: الثمرة في العقود المستأنفة
أقول: قد يورد على ما أفاده قدس سره وجوه:
منها: ان الثمرة التي ارتأى انها تظهر على القولين، غير تامة، بل لعل تفريقه غريب؛ إذ الأمر على المبنيين سيّان فان المعاملات المستحدثة، على المبنيين – حسبما أفاده لا حسب تخريجنا الآتي([4]) – ينبغي ان تكون باطلة: اما بناء على حاجة السيرة في المعاملات إلى الإمضاء فلما افاده إذ انها لم تكن موجودة في زمنهم كي ندعي امضائهم لها، واما على استغنائها عن الإمضاء مع حاجتها إلى عدم الردع عنها كما هو صريح نقله للمبنى الأول، فكذلك إذ الفرض ان هذه المعاملات مستحدثة وانها لم تكن زمن الأئمة b فلا ينطبق عليه طابق الكاشفية الذي ذكره لأن عدم الردع الذي اعتبره كاشفاً عن رضا الشارع إنما هو في السيرة المستمرة إلى زمن الشارع فلاحظ أيضاً قوله: (فإنّها إذا كانت مستمرة إلى زمان الشارع وكانت بمنظر منه ومسمع وكان متمكناً من ردعهم، ومع هذا لم يردع فلا محالة يكشف كشفاً قطعياً عن رضا صاحب الشرع بالطريقة، وإلا لردع عنها كما ردع عن كثير من بناءات الجاهلية، ولو كان قد ردع عنها لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله.
ومن ذلك يظهر: انه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها، فإنّ عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضا بها وإن لم يصرح بالإمضاء) والمقام – أي العقود المستأنفة قطعاً ليست منه حسب فرضه، لأنها مستأنفة حادثة مستجدة، وذلك واضح فتدبر. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم عليه السلام: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه والله وسلموَالدُّعَاءُ لِإِخْوَانِكَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ الدُّعَاءُ لِنَفْسِكَ بِمَا أَحْبَبْتَ))(فقه الرضا عليه السلام: ص345).
----------------------------------------------
([1]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج3 ص192-193.
([3]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج3 ص193.
([4]) وإجماله شمول عدم الردع للمستقبليات، بوجهٍ لطيف.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |