159- مناقشات مع الميرزا النائيني: التخيير التشريعي موضوعه الشاك والتكويني موضوعه القادر، و...
الاثنين 7 جمادى الاولى 1440هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(159)
النائيني: جعل التخيير الشرعي محال لدى الدوران بين المحذورين([1])
سبق ان المحقق النائيني ذهب إلى (إذا عرفت ذلك فاعلم: أن في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن جعل التخيير الشرعي الواقعي ولا جعل التخيير الظاهري – كالتخيير في باب تعارض الطرق والأمارات – فان التخيير بين فعل الشيء وتركه حاصل بنفسه تكويناً، فلا يمكن جعل ما هو الحاصل بنفسه، سواء كان جعلاً واقعياً أو جعلا ظاهرياً؛ فما قيل: من أن الأصل في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير، ليس على ما ينبغي إن كان المراد منه الأصل العملي المجعول وظيفةً في حال الشك؛ لما عرفت: من أنه لا يمكن جعل الوظيفة في باب دوران الأمر بين المحذورين؛ من غير فرق بين الوظيفة الشرعية والعقلية)([2]).
المناقشة
ولكن قد يورد عليه بوجوه:
1- موضوع التخيير الشرعي الشاك وموضوع التخيير التكويني القادر
الوجه الأول: ان موضوع التخيير التشريعي (الواقعي والظاهري) مختلف عن موضوع التخيير التكويني، بل ان موضوع التخيير التشريعي الظاهري متأخر بمراتب عن موضوع التخيير التكويني، والتخيير الواقعي متأخر عنه ببعضها. توضيحه: أ- ان موضوع التخيير التكويني هو القادر([3]) اما موضوع التخيير التشريعي الظاهري فهو الشاك([4]).
ب- وهو متأخر بمراتب عنه.
ج- والنسبة بين القادر والشاك هي من وجه:
اما الأخير: فان القادر على شيء قد يكون شاكاً في حكمه أو بعض كيفياته أو كنهه أو بعض أجزائه أو صحته وبطلانه وقد لا يكون، والشاك في حكم شيء قد يكون قادراً على فعله وقد لا يكون.
واما ان موضوعهما ما ذكر فلأن القادر على الفعل والترك هو المخيّر تكويناً بين ان يفعل وأن لا يفعل فانه إذا لم يكن قادراً بل كان عاجزاً عن أحد الطرفين أو مجبراً على أحدهما لم يكن مخيراً تكويناً أي انه لم يحصل له التخيير التكويني بين الفعل والترك، واما التخيير الظاهري فان موضوعه الشاك إذ الكلام في ان الشاك في وجوب هذا تعييناً عليه أو حرمته تعييناً عليه، مخيّر بينهما (أو الشاك في حجية هذا أو ذاك أو في لزوم إتباع هذا الطريق وهذه الحجة تعييناً أو تلك).
واما ان التخيير الظاهري متأخر عن التكويني بمراتب فلأن طبع الأمر هو كذلك: إذ انه إذا كان قادراً على الطرفين كان مخيراً تكويناً بينهما، ثم تأتي مرتبة جعل الشارع للحكم فإن جَعَلَه ثَبَتَ في مرتبة الإنشاء فإذا وصل بحجةٍ فانه يبلغ مرحلة الفعلية فالتنجّز، فإذا تعارضت الحجتان حصل الشك في ما يجب الالتزام به منهما تعييناً([5]) فإذا شك قال له الشارع (تخيّر أحدهما) فالتخيير الظاهري هو حكم الشارع، وهو متأخر بمراتب عن التخيير التكويني.
واما التخيير الواقعي فان المراتب الأولى متحققة فيه سابقة عليه دون الأخيرة فقط، نعم الأخيرتان متحققتان بوجه آخر وهو: فإذا تزاحم الأمران حصل الشك فيما يجب العمل به مع ضيق القدرة عن امتثالهما، وإذا شك في الأهم منهما تخيّر واقعاً، بحكم الشارع.
التخيير من الأصول الأربعة وهي متأخرة رتبةً عن الواقع
وبوجه آخر: ان التخيير الظاهري هو من الأصول الأربعة بلا شك، ولذا ألحقه الميرزا النائيني نفسه بمبحث البراءة([6]).
ولا شك ان الأصول الأربعة لا يستلزم جعلها تحصيل الحاصل أو اللغو رغم مطابقتها كثيراً ما لما عليه التكوين، كما لا يلزم من رفع أحكامها تصرف الشارع بما هو شارع في التكوين. توضيحه: ان الاستصحاب التشريعي – مثلاً – مطابق للاستصحاب التكويني بمعنى ان من طبع الأشياء انها إذا ثبتت دامت، ومن ذلك ما يعبّر عنه في الفيزياء بالقصور الذاتي فلو انك أطلقت حجراً في الفضاء فانه – حسب الفيزياويين – سيستمر بالحركة ملايين السنين بل إلى ما لا نهاية مادام لا يوجد صادّ ومانع عن حركته (من هواء أو أثير أو أمواج أو غيرها) والحاصل: ان القصور الذاتي خاصية في كل المواد تجعل الجسم الساكن مستمراً في سكونه مادام لم تدفعه قوة للحركة، كما تجعل الجسم المتحرك مستمراً في حركته بسرعة ثابتة وفي الاتجاه ذاته مادام لم تتدخل قوة خارجية لإيقاف حركته أو إبطائها أو تغيير اتجاهها.
وكذلك: لو أن زيداً كان جالساً فان مقتضي الاستصحاب التكويني هو بقاؤه جالساً أبداً إلا إذا جاء رافع وعامل خارجي كالإرادة المحركة للعضلات نحو القيام.. فهذا هو مقتضى الاستصحاب التكويني، لكنه، كما ترى، لا يمنع حكم الشارع بإبقاء ما كان على ما كان، ولا يصح التذّرع بان جعل الشارع للاستصحاب التشريعي هو تحصيل حاصل لأنه حاصل بذاته أو هو لغو؛ لأنه جعل لما هو متحقق بالفعل وانه كيف يبعث نحو الالتزام بفعل ما هو حاصل بذاته؟
فكذلك وِزان التخيير تماماً، فكما ان عالم الاستصحاب التكويني سابق رتبة وهو مقتضٍ لجعل التشريع (تشريع الاستصحاب) على طبقه كذلك عالم التخيير التكويني سابق رتبةً وهو مقتضٍ لجعل التشريع (تشريع التخيير) على طبقه.
واما الرافع فان البراءة (العقلية والنقلية) ترفع الحكم الواقعي، في مرحلة التنجز أو الفعلية، ولا يشكل بانه كيف يمكن للمشرع بما هو مشرع ان يزيل أمراً تكوينياً؟ إذ يجاب بانه لا يزيل التكويني بل يزيل في مرحلة الشك أمراً اعتبارياً هو حكمه.
2- التكويني يعني الإمكان والشرعي يعني الجواز
الوجه الثاني: ان التخيير التكويني يعني إمكان هذا الطرف وإمكان ذاك الطرف، اما التخيير التشريعي فيعني جواز هذا الطرف وجواز ذاك الطرف، وقد حصل خلط – في ذهنه الشريف – بين الإمكان والجواز لذا توهم ان جعل هذا يعني جعل ما هو الحاصل بنفسه إذ قال: (فان التخيير بين فعل الشيء وتركه حاصل بنفسه تكويناً) إذ الجواب ان المجعول هو الجواز غير الحاصل بنفسه لا الإمكان الحاصل بنفسه – وسيأتي تعميق هذا أكثر فانتظر.
3- التخيير تخفيف وليس تكليفاً
الوجه الثالث: ان التخيير تخفيف وليس تكليفاً، وإشكال الميرزا إنما يلزم لو كان تكليفاً. وتوضيحه: انه ليس المدّعى، بل لعله لم يدّعِهِ أحد، ان التخيير هو الباعث والمحرك، بل الباعث والمحرك هو دليل الأمر بالمعروف مثلاً والزاجر هو دليل حرمة الولاية، ففي مورد الاجتماع الباعث هو دليل الأمر بالمعروف والزاجر هو دليل النهي عن التولي من الجائر (وهكذا مطلق صور دوران الأمر بين المحذورين) واما التخيير فانه تخفيف ورفع للحكم التعييني أي رفع تعيين كل منهما فلا يلزم محذور قصور التخيير عن ان يكون محركاً وداعياً على هذا النحو كما قاله في عبارته السابقة على هذه العبارة.. وسيأتي مجدداً بيان ذلك وتفصيله.
البحث الأصولي في فقه قوله عليه السلام (إِذَنْ فَتَخَيَّرْ)
تنبيه: هذا المبحث كله والأخذ والرد فيه أصولياً وفقهياً يمكن إرجاعه إلى البحث عن فقه الحديث في روايات التخيير فقد ورد مثلاً ((إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذَ بِهِ وَتَدَعَ الْأَخِيرَ))([7]) فحسب المختار فان (تخيّر) في الرواية تشمل صور الدوران بين المحذورين (النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما) سواءاً في المتباينين أم في العامين من وجه في مادة الاجتماع كما تشمل المتباينين اللذين يمكن الجمع بينهما كما لو دار بين وجوب هذا أو ذاك (لتعارض الروايتين).
واما حسب الميرزا النائيني فان القرينة العقلية القطعية لديه (وهو ما ذكره من لزوم تحصيل الحاصل وشبهه) تقيد روايات التخيير بغير صور دوران الأمر بين المحذورين؛ نظراً لعدم إمكان جعل الشارع للتخيير في مواردها فيكون قوله (تخيّر) ببركة القرينة العقلية المتصلة الحافة قد انعقد ضيقاً، إلا ان يقال بالإرشادية حينئذٍ فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إضافةً إلى انه خلاف الأصل فتأمل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَشَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ)) (نهج البلاغة: 477).
------------------------------------------------
([2]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج3 ص444.
([5]) أو في المنجِّز منهما أو في الكاشف عن الحكم الواقعي، على الأقوال في معنى الحجية.
([7]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، 1405هـ، ج4 ص133.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |