بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(307)
تتمة: فرق المفاعلة عن التفاعل أو ترادفهما
فسّر بعض الفقهاء المعاطاة بالتعاطي، وأشكل عليه السيد الوالد في (البيع) بقوله: (هي من باب المفاعلة لعطاء كل طرف إلى الآخر في قبال أخذه منه، بخلاف التعاطي الظاهر في مداولة أفرادٍ لشيء، سواء بالكلام وهو مجاز أو بالعمل، قال سبحانه: (فَتَعَاطَى فَعَقَرَ)([1]) أي إعطاء كل الكلام للآخر في أمر الناقة، وهو مجاز من قبيل (وانطلق الملأ منهم ان امشوا) أو إعطاء بعضهم الحرية لبعض حتى يصل إلى العاقر لاعتياد كبار القوم تسليح الصغار للتنفيذ، فتفسير بعض الفقهاء المعاطاة بالتعاطي أقرب إلى المجاز)([2]).
وإجماله ان المفاعلة يشترط فيها المقابلة عكس التفاعل فانه يكفي فيه مطلق التعاطي وتداول الأمر.
ولكن الرضي الاسترابادي في شرح الشافية استظهر ان باب المفاعلة وباب التفاعل من حيث المعنى واحد والاختلاف من حيث الشكل أو اللفظ، قال: (وكان أيضاً من حق اللفظ أن يقول: تفاعَلَ لاشتراك أمرين، لأن المشاركة تضاف إلى الفاعل أو إلى المفعول تقول: اعجبتني مشاركة القوم عَمْرَاً، أو مشاركة عمرِو القومُ، وأما إذا قصدت بيان كون المضاف إليه فاعلاً ومفعولاً معاً فالحق أن تجيء بباب التفاعل أو الافتعال، نحو أعجبني تشاركنا، واشتراكنا، هذا والأولى ما قال المالكي وهو أن فَاعَلَ لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً، والاشتراك فيهما معنى، وتفاعل للاشتراك في الفاعلية لفظاً، وفيها([3]) وفي المفعولية معنى)([4]) فتأمل
ولكن الأظهر ما سبق من اختلافهما معنى أيضاً فراجع([5]) أو ما ذكره الوالد إن لم يَعُد إليه فتأمل.
وعلى أي فان المعاطاة إذا كانت غير التعاطي معنى، كما هو المنصور، فان نفس الإشكال السابق وارد على الشيخ أيضاً.
مناقشة النائيني للشيخ
وقال الميرزا النائيني في تقريرات الآملي (قوله قدس سره اعلم أن المعاطاة على ما فسره جماعة الخ يقع الكلام هنا في مقامين (الأول) أنه لا شبهة في أنه يقع البيع بالقول في الجملة، وأما تفصيل القول فيه بأنه هل يعتبر اللفظ الحقيقي أو يقع بالمجاز والكناية فسيأتي تحريره (الثاني) في أنه بعد وقوعه بالقول هل يقع بالفعل المعاطاتى أم لا، ولا يخفى أن هذا هو المناسب للعنوان كما عليه عناوين الاصحاب لا ما عنونه في الكتاب كما لا يخفى، ولكن غرضه قدس سره من عقد عنوان البحث كما عنونه هو تعيين محل النزاع بين القائلين بالملك والاباحة وبيان أن القول بافادة المعاطاة للاباحة هل هو في صورة قصد المتعاطين للملك أو الاباحة؟)([6])
أقول: الأولى ما اخترناه من أفضلية التعبير بـ(المعاملة المعاطاتية) على ما اختاره الشيخ من (المعاطاة) وعلى ما اختاره المحقق النائيني من (هل يقع البيع بالفعل المعاطاتي أم لا) لأن الفعل المعاطاتي أعم من المعاملة المعاطاتية فلو كان الفعل معاطاتياً بدون قصد التقابل ولا قصد الإنشاء لما وقع البيع ولا غيره من العقود قطعاً، فتدبر.
استحالة قصد جنس المعاملة دون نوعها، لدى الشيخ
وسبق ان الشيخ قال: (و ربما يذكر وجهان آخران:
أحدهما: أن يقع النقل من غير قصد البيع و لا تصريحٍ بالإباحة المزبورة، بل يعطي شيئاً ليتناول شيئاً فدفعه الآخر إليه. الثاني: أن يقصد الملك المطلق دون خصوص البيع)([7]).
وأشكل على الأول منهما بقوله: (ويُردّ الأوّل: بامتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوان من عناوين البيع، أو الإباحة، أو العارية، أو الوديعة، أو القرض، أو غير ذلك من العنوانات الخاصّة)([8]).
ولا بد من التوقف عند كلامه بتقويته أولاً ثم المناقشة فيه، فنقول:
توضيح الاستحالة وتقويتها: استحالة وجود الجنس دون فصل
يوضّح كلامَه ويبرهنه: ان الجنس لا يمكن ان يوجَد بدون الفصل، كالحيوان المجرد عن فصل الناطق أو الضاحك أو الزائر أو شبه ذلك؛ فانه كلما وجد حيوان كان في ضمن أحد الفصول ويستحيل انفكاكه عن أحدها، وعلى ذلك فلا يمكن إيجاد الجامع (الذي هو بمنزلة الجنس) بين الإباحة والملك، فكيف يقصد الاعطاء من دون ان يقصد كونه إباحة أو بيعاً أو عارية أو غير ذلك مما يتفصل الإعطاء بها؟
وبعبارة أخرى لا يمكن ان يوجد القدر المشترك دون كونه مع احد الفصول، بل والخصوصيات، على سبيل البدل.
إذ الإيجاد الإنشائي كالإيجاد الخارجي
وبوجه آخر: ان الإيجاد الإنشائي هو كالإيجاد الخارجي فكما يمتنع ان يوجِد في الخارج الجنس المجرد كذلك يمتنع ان يوجِد في عالم الاعتبار الجامع المشترك المجرد عن ما به الامتياز أي عن الفصل أي ما هو بمنزلته.
وبعبارة أخرى: ان البيع ونظائره من الأفعال الاختيارية القصدية، فانه إذا وقع بلا اختيار([9]) أو بلا قصد كما لو صدر البيع اللفظي أو المعاطاتي من النائم أو المغمى عليه فرضاً، فانه ليس ببيع قطعاً، فإذا كانت المعاملات قصدية فلا يمكنه إلا ان يقصد هذا النوع منها أو ذاك كالبيع أو الهبة المعوضة أو الصلح... الخ أو ان يقصد الإباحة فقط.
استحالة الإهمال الثبوتي تجاه التقسيمات اللاحقة
وبعبارة أخرى: الإهمال الثبوتي بالنسبة للتقسيمات والتفاصيل غير ممكن عقلاً، فان المولى إذا قال مثلاً (أكرم العالم) وكان ملتفتاً إلى ان العالم اما عادل أو فاسق فلا يمكن إلا ان يكون مطلِقاً أو مقيِّداً بان يعتبر موضوع حكمه خصوص العالم العادل لما يرى في إكرام الفاسق من العلماء من المفسدة مثلاً، أو ان يعتبر موضوعه الأعم لغلبه جهة العالمية لديه على سائر الجهات وكونها تمام الملاك، ولكنه لا يعقل ان يكون مهملاً ثبوتاً بان لا يجعل موضوع حكمه مطلق العالم ولا خصوص بعض أنواعه وذلك لأن مطلوبه وحامل غرضه اما الأعم أو الأخص ولا يعقل كون مطلوبه مهمَلاً؛ إذ كيف يتعلق الطلب الفعلي بالمهمل الواقعي مع ان المهمل الواقعي لا وجود له؟
نعم له ان يُجمِل أو يُهمِل في عالم الإثبات، لكن الكلام إنما هو عن إمكان الإهمال في عالم الثبوت.
ويتفرع على قبول هذا المبنى وعدمه، البحث في عامة المطلقات والعمومات فانه لو قلنا بامتناع الإهمال الثبوتي لكان المولى اما مطلقِاً أو مقيِّداً، وحينئذٍ يعدّ عدم ذكره للقيد دليلاً على إطلاقه إذ لو كان له دخل في مطلوبه لذكره وإلا لكان مغرياً بالجهل، أما لو قلنا بان الإهمال الثبوتي ممكن فان سكوته عن ذكر القيد أعم من كونه لأنه لا يراه دخيلاً في المطلوب وان مطلوبه هو المطلق مطلقاً، ومن كون سكوته لحيرته وتحقق الإهمال ثبوتاً لديه إذ لا يدري مثلاً مدخلية القيد في مطلوبه وعدمه فيهمله حين طلبه وفي صقع نفسه، فكيف يكون سكوته دليلاً على اعتباره المطلق موضوعاً لحكمة وعدم مدخلية القيد لديه؟ وستأتي مناقشة ذلك كله غداً بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
من وصية الإمام الباقر عليه السلام لجابر ((يَا جَابِرُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْكَنَ وَيَطْمَئِنَّ إِلَى زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ غَفْلَةٍ وَغُرُورٍ وَجَهَالَةٍ وَأَنَّ أَبْنَاءَ الْآخِرَةِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ الزَّاهِدُونَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَأَهْلُ فِكْرَةٍ وَاعْتِبَارٍ وَاخْتِبَارٍ لَا يَمَلُّونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ))
تحف العقول: ص287.
-----------------------------
([1]) سورة القمر: آية 29.
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه/ البيع، الناشر: خوشنواز – اصفهان، ط 3، ج1 ص49.
([3]) أي الاشتراك في الفاعلية.
([4]) الشيخ رضي الدين الاسترابادي، شرح الرضي، دار المجتبى – مكتبة بارسا – قم، 2010م، ص73.
([5]) مضى في الدرس (306) (ومن المعنوية: ان الظاهر ان التفاعل إنما يكون لو أراد التسوية بينهما في صدور الفعل منهما أو لاحظ أصل نسبة الفعل إليهما، اما المفاعلة فتكون لو كان مصبّ كلامه واهتمامه سَبْق أحدهما وابتداءه بالفعل ومطاوعة الآخر له ويكون التشارك في الفعل مآلاً) كما مضى: (واما تعريف الشيخ فهو تفسير للمعاطاة بالأخص المقصود في هذا الباب، فان المعاطاة تصدق مع مجرد إعطاء هذا لذاك كتاباً مثلاً مقابل إعطاء ذاك لهذا ساعة أو مالاً وإن لم يقصد التقابل، مع ان المعاملة المعاطاتية يشترط فيها قصد التقابل، وتصدق مع الاعطائين وإن لم يكونا بقصد الإنشاء عكس المعاملة المعاطاتية التي لا تكون إلا بقصد إنشاء النقل. وعليه: فالأولى، لو أردنا الدقة، أن يقال: الكلام في (المعاملة المعاطاتية) لا (الكلام في المعاطاة) والأمر سهل).
([6]) الشيخ محمد تقي الآملي، تقريرات الميرزا النائيني، المكاسب والبيع، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين – قم، ج1 ص119.
([7]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص23.
([8]) المصدر نفسه: ص24.
([9]) أي بجبر سالب لقدرته وإرادته.