257- هل الامر بمحو المزامير ، قضية خارجية ؟ - التمسك بالعمومات فيما احتملت مرجوحيتةُ الذاتية ، تمسك بالعام في الشبهة المصداقية
الاحد 3 جمادي الاول 1439هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(257)
دعوى ان الأمر بمحو المزامير و... قضية خارجية
كما انه قد يورد على التمسك بالدليل الطولي الرابع: ((وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة))([1]) باعتباره حاكماً على قاعدتي الإمضاء والإلزام أو أظهر منهما في مدلوله وانه على ذلك لا يجوز بيعها حتى للمستحل من الكفار، بان قوله: ((وَأَمَرَنِي...)) إنما هو بنحو القضية الخارجية وانه خاص به صلى الله عليه واله وسلم وفي زمانه، فلا مانع من الالتزام بقاعدة الإلزام لغيره صلى الله عليه واله وسلم وفي مثل أزمنتنا فيجوز بيعها لهم.
الجواب: الأصل انها قضايا حقيقية
والجواب واضح وهو: ان الأصل في القضايا والأوامر والنواهي الشرعية كونها قضايا حقيقية لا خارجية إلا إذا دلّ الدليل على كونها خارجية فكونها خارجية خلاف الأصل جداً.
الشواهد على كونها خارجية والجواب
إن قلت: يدل على كونها خارجية أمور:
منها: تعبيره صلى الله عليه واله وسلم بـ((وَأَمَرَنِي)) الظاهر في انه أمر له وليس عاماً لنا فهو نظير قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ))([2]) حيث لا يشملنا فانها عليه صلى الله عليه واله وسلم واجبة وعلينا مستحبة.
ومنها: ان ذلك يناسب مرحلة تأسيس الشريعة، كما يرمز إليه الخبر الآخر ((بُعِثْتُ بِكَسْرِ الْمعَازِفَ وَالْمَزَامِيرِ))([3]) فهذا من شأن البعثة لا من أحكام الشريعة عامة.
قلت: لا شيء منهما بصالح: أما الأخير فانه مشعر وليس حتى مؤيداً فهل يفيد مثلاً قوله: (بعثت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (بعثت لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) أو (بعثت لإتمام مكارم الأخلاق) على انها خاصة به صلى الله عليه واله وسلم)؟ وكونه يناسب كذا مشعر فقط.
وأما الأول: فيدفعه كما يدفع كلِّي دعوى ان أمثالها قضايا خارجية: ان من ضروريات الفقه بل من ضروريات الإسلام اشتراك الأحكام بيننا وبينه صلى الله عليه واله وسلم وان الخطابات القرآنية للنبي صلى الله عليه واله وسلم سواء أكانت بصيغة أمر كـ(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)([4]) أم بمادته كـ(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)([5]) طرف الخطاب فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم لاحتياج الخطاب إلى طرف فخُصّ به تشريفاً مع تعميم الحكم للكل فالمخاطب هو صلى الله عليه واله وسلم لا انه المحكوم خاصةً بالحكم.
ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل كما لو دلت رواية أخرى على ان هذا من مختصاته صلى الله عليه واله وسلم أو على ان هذه القضية قضية خارجية كما ورد النهي عن أكل الحمر الأهلية فجاءت رواية أخرى أوضحت انه إنما نهى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عنها لأنهم كانوا يحتاجونها في معركة خيبر فلاحظ الرواية:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُمَا سَأَلَاهُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم عَنْهَا وَعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ))([6]).
ويشهد للقاعدة العامة قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))([7]) و((يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه))([8])
النتيجة والثمرة
فتحصل من البحث كله ان أ- العام الفوقاني ب- والمخصص له ج- والحاكم عليه أو على مخصصه د- والحاكم على الحاكم أو الأظهر منه، كلها محكومة في عمومها للأفراد بأربع قواعد ومباني:
الأولى: مبنى الصحيحي أو الأعمّي من حيث الصحة والفساد لدى الشك في الجزئية والشرطية وهذا هو ما بحثه القوم تحت عنوان (هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح منها أو الأعم).
الثانية: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الجواز والحرمة.
والثالثة: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الكمال والنقص أي اللزوم وعدمه.
الرابعة: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الرجحان والمرجوحية، وهذه الثلاثة الأخيرة هي ما استظهرنا ضرورة إضافتها لبحث الصحيحي والأعمّي مع توسعته إلى الأعم من البحث عن الوضع والبحث عن الانصراف المستقر وغيره.
الشك في شمول البيع للمحتمل مرجوحيته الذاتية
وفي المقام: فان العام الفوقاني الأول هو (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)([9]) فإذا علم من الشارع كراهة وقوع أمر ما كبيع الصنم والصليب، فانه لا يشمله، وإذا شك في انه مما يكره الشارع تحققه في الخارج مطلقاً، كما فيما نحن فيه من كراهته بيع وشراء آلات اللهو إجمالاً واحتمالنا عقلائياً ان كراهته له شاملة حتى لبيعها لمن يستحلها، فمع الشك العقلائي في كون آلات اللهو كذلك فانه لا يصح التمسك بـ(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) لإثبات حليتها على الأخصي([10]) لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية([11]) ويصح التمسك بالآية لإثبات الحلية على الأعمي.
والمراد من الأخصي: القول بانصراف (البيع) في الآية وشبهها عن المرجوح ذاتاً أي ما علم من الشارع كراهة وقوعه فإذا قلنا بالانصراف المستقر ففي صورة الشك فان التمسك بالآية فيما شك في مرجوحيته الذاتية تمسك بالعام في الشبهة المصداقية بعد فرض الانصراف عن المرجوح الذاتي مستقراً.
الشك في شمول قاعدة الإمضاء للمكروه الذاتي
وفي المقام أيضاً: فان الدليل الطولي الثالث وهو قاعدة الإمضاء ((يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ))([12]) فانه على الأخصي فان (يستحلون) منصرف([13]) إلى ما لم يعلم كراهة الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً (أي من أي شخص أو دين كان) كالقتل والفساد في الأرض (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)([14])، فإذا احتمل كون بيع آلات اللهو للكفار مما يكره الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً فلا يصح التمسك برواية الإمضاء هذه بناء على الأخصي ويصح بناءً على الأعمّي.
وبعبارة أخرى: هنا قاعدتان:
الأولى: لو شككنا في شمول النهي عن بيع المزامير، لبيعها للكفار فالمرجع قاعدة الإلزام، اللهم إلا ما احتمل كراهة الشرع وقوعه في الخارج مطلقاً، فانه على الأخصي لا يتمسك بالقاعدة وعلى الأعمّي يمكن التمسك.
الثانية: لو رفضنا قاعدة الإلزام ولو برفض عمومها لما عدا الأبواب الثلاثة (النكاح والطلاق والإرث) فالمرجع (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) على الأعمّي ولا يصح على الأخصّي التمسك بها لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
المرجوح الذاتي والعرضي
تنبيه: الفرق بين المرجوح الذاتي والعرضي او الاعتباري ان ما كان فيه الفساد محضاً كان مرجوحاً ذاتياً كالزنا واللواط وقتل النفس المحترمة، والمرجوح العرضي أو الاعتباري ما كان مرجوحاً لا لذاته بل لضرب القانون مثلاً فلا تكون المفسدة فيه بشخصه لكنه حرّم كلّيّه ضرباً للقانون، ومنه العِدّة لمن علم خلوّ رحمها من الحمل، ومنه بطلان الطلاق إذا كان بشاهد واحد مع انه يكتفى به لثبوت الأحكام الكلية الإلهية التي تترتب عليها ألوف الأحكام الجزئية فكيف لا يكتفى به في موضوع خارجي جزئي، فتأمل. والحاصل: ان المرجوح الذاتي ما كان لأمر داخل والمرجوح العرضي ما كان لاعتبار خارج.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن سيف التمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ((عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّكُمْ لَا تَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَا تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَدْعُوا بِهَا إِنَّ صَاحِبَ الصِّغَارِ هُوَ صَاحِبُ الْكِبَارِ)) الكافي: ج2 ص467.
-----------------------------------------------
([1]) المحدث النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت – قم، ج13 ص219.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص117.
([3]) الرواية مروية عن طرق العامة، واما عن طرق الخاصة فبحاجة إلى بحث.
([4]) سورة الإسراء: آية 78.
([5]) سورة الشورى: آية 15.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص245.
([7]) المصدر نفسه: ج1 ص58.
([8]) المصدر نفسه: ج2 ص74.
([9]) سورة البقرة: آية 275.
([10]) المراد الأخصية لا بلحاظ الوضع بل بلحاظ الانصراف.
([11]) لا مصداق الموضوع له بل مصداق المنصرف إليه فانتبه.
([12]) الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج4 ص148.
([13]) في رتبة سابقة، فإن لم نقل بالانصراف فمخصَّص.
([14]) سورة البقرة: آية 205.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(257)
دعوى ان الأمر بمحو المزامير و... قضية خارجية
كما انه قد يورد على التمسك بالدليل الطولي الرابع: ((وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة))([1]) باعتباره حاكماً على قاعدتي الإمضاء والإلزام أو أظهر منهما في مدلوله وانه على ذلك لا يجوز بيعها حتى للمستحل من الكفار، بان قوله: ((وَأَمَرَنِي...)) إنما هو بنحو القضية الخارجية وانه خاص به صلى الله عليه واله وسلم وفي زمانه، فلا مانع من الالتزام بقاعدة الإلزام لغيره صلى الله عليه واله وسلم وفي مثل أزمنتنا فيجوز بيعها لهم.
والجواب واضح وهو: ان الأصل في القضايا والأوامر والنواهي الشرعية كونها قضايا حقيقية لا خارجية إلا إذا دلّ الدليل على كونها خارجية فكونها خارجية خلاف الأصل جداً.
إن قلت: يدل على كونها خارجية أمور:
منها: تعبيره صلى الله عليه واله وسلم بـ((وَأَمَرَنِي)) الظاهر في انه أمر له وليس عاماً لنا فهو نظير قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ))([2]) حيث لا يشملنا فانها عليه صلى الله عليه واله وسلم واجبة وعلينا مستحبة.
ومنها: ان ذلك يناسب مرحلة تأسيس الشريعة، كما يرمز إليه الخبر الآخر ((بُعِثْتُ بِكَسْرِ الْمعَازِفَ وَالْمَزَامِيرِ))([3]) فهذا من شأن البعثة لا من أحكام الشريعة عامة.
قلت: لا شيء منهما بصالح: أما الأخير فانه مشعر وليس حتى مؤيداً فهل يفيد مثلاً قوله: (بعثت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (بعثت لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) أو (بعثت لإتمام مكارم الأخلاق) على انها خاصة به صلى الله عليه واله وسلم)؟ وكونه يناسب كذا مشعر فقط.
وأما الأول: فيدفعه كما يدفع كلِّي دعوى ان أمثالها قضايا خارجية: ان من ضروريات الفقه بل من ضروريات الإسلام اشتراك الأحكام بيننا وبينه صلى الله عليه واله وسلم وان الخطابات القرآنية للنبي صلى الله عليه واله وسلم سواء أكانت بصيغة أمر كـ(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)([4]) أم بمادته كـ(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)([5]) طرف الخطاب فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم لاحتياج الخطاب إلى طرف فخُصّ به تشريفاً مع تعميم الحكم للكل فالمخاطب هو صلى الله عليه واله وسلم لا انه المحكوم خاصةً بالحكم.
ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل كما لو دلت رواية أخرى على ان هذا من مختصاته صلى الله عليه واله وسلم أو على ان هذه القضية قضية خارجية كما ورد النهي عن أكل الحمر الأهلية فجاءت رواية أخرى أوضحت انه إنما نهى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عنها لأنهم كانوا يحتاجونها في معركة خيبر فلاحظ الرواية:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُمَا سَأَلَاهُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم عَنْهَا وَعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ))([6]).
ويشهد للقاعدة العامة قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))([7]) و((يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه))([8])
فتحصل من البحث كله ان أ- العام الفوقاني ب- والمخصص له ج- والحاكم عليه أو على مخصصه د- والحاكم على الحاكم أو الأظهر منه، كلها محكومة في عمومها للأفراد بأربع قواعد ومباني:
الأولى: مبنى الصحيحي أو الأعمّي من حيث الصحة والفساد لدى الشك في الجزئية والشرطية وهذا هو ما بحثه القوم تحت عنوان (هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح منها أو الأعم).
الثانية: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الجواز والحرمة.
والثالثة: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الكمال والنقص أي اللزوم وعدمه.
الرابعة: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الرجحان والمرجوحية، وهذه الثلاثة الأخيرة هي ما استظهرنا ضرورة إضافتها لبحث الصحيحي والأعمّي مع توسعته إلى الأعم من البحث عن الوضع والبحث عن الانصراف المستقر وغيره.
وفي المقام: فان العام الفوقاني الأول هو (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)([9]) فإذا علم من الشارع كراهة وقوع أمر ما كبيع الصنم والصليب، فانه لا يشمله، وإذا شك في انه مما يكره الشارع تحققه في الخارج مطلقاً، كما فيما نحن فيه من كراهته بيع وشراء آلات اللهو إجمالاً واحتمالنا عقلائياً ان كراهته له شاملة حتى لبيعها لمن يستحلها، فمع الشك العقلائي في كون آلات اللهو كذلك فانه لا يصح التمسك بـ(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) لإثبات حليتها على الأخصي([10]) لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية([11]) ويصح التمسك بالآية لإثبات الحلية على الأعمي.
والمراد من الأخصي: القول بانصراف (البيع) في الآية وشبهها عن المرجوح ذاتاً أي ما علم من الشارع كراهة وقوعه فإذا قلنا بالانصراف المستقر ففي صورة الشك فان التمسك بالآية فيما شك في مرجوحيته الذاتية تمسك بالعام في الشبهة المصداقية بعد فرض الانصراف عن المرجوح الذاتي مستقراً.
وفي المقام أيضاً: فان الدليل الطولي الثالث وهو قاعدة الإمضاء ((يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ))([12]) فانه على الأخصي فان (يستحلون) منصرف([13]) إلى ما لم يعلم كراهة الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً (أي من أي شخص أو دين كان) كالقتل والفساد في الأرض (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)([14])، فإذا احتمل كون بيع آلات اللهو للكفار مما يكره الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً فلا يصح التمسك برواية الإمضاء هذه بناء على الأخصي ويصح بناءً على الأعمّي.
وبعبارة أخرى: هنا قاعدتان:
الأولى: لو شككنا في شمول النهي عن بيع المزامير، لبيعها للكفار فالمرجع قاعدة الإلزام، اللهم إلا ما احتمل كراهة الشرع وقوعه في الخارج مطلقاً، فانه على الأخصي لا يتمسك بالقاعدة وعلى الأعمّي يمكن التمسك.
الثانية: لو رفضنا قاعدة الإلزام ولو برفض عمومها لما عدا الأبواب الثلاثة (النكاح والطلاق والإرث) فالمرجع (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) على الأعمّي ولا يصح على الأخصّي التمسك بها لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
تنبيه: الفرق بين المرجوح الذاتي والعرضي او الاعتباري ان ما كان فيه الفساد محضاً كان مرجوحاً ذاتياً كالزنا واللواط وقتل النفس المحترمة، والمرجوح العرضي أو الاعتباري ما كان مرجوحاً لا لذاته بل لضرب القانون مثلاً فلا تكون المفسدة فيه بشخصه لكنه حرّم كلّيّه ضرباً للقانون، ومنه العِدّة لمن علم خلوّ رحمها من الحمل، ومنه بطلان الطلاق إذا كان بشاهد واحد مع انه يكتفى به لثبوت الأحكام الكلية الإلهية التي تترتب عليها ألوف الأحكام الجزئية فكيف لا يكتفى به في موضوع خارجي جزئي، فتأمل. والحاصل: ان المرجوح الذاتي ما كان لأمر داخل والمرجوح العرضي ما كان لاعتبار خارج.
عن سيف التمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ((عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّكُمْ لَا تَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَا تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَدْعُوا بِهَا إِنَّ صَاحِبَ الصِّغَارِ هُوَ صَاحِبُ الْكِبَارِ)) الكافي: ج2 ص467.
-----------------------------------------------
([1]) المحدث النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت – قم، ج13 ص219.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص117.
([3]) الرواية مروية عن طرق العامة، واما عن طرق الخاصة فبحاجة إلى بحث.
([4]) سورة الإسراء: آية 78.
([5]) سورة الشورى: آية 15.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص245.
([7]) المصدر نفسه: ج1 ص58.
([8]) المصدر نفسه: ج2 ص74.
([9]) سورة البقرة: آية 275.
([10]) المراد الأخصية لا بلحاظ الوضع بل بلحاظ الانصراف.
([11]) لا مصداق الموضوع له بل مصداق المنصرف إليه فانتبه.
([12]) الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج4 ص148.
([13]) في رتبة سابقة، فإن لم نقل بالانصراف فمخصَّص.
([14]) سورة البقرة: آية 205.