206- اعادة صياغة البحث: 1ـ تأخير البيان 2ـ والهداية 3ـ والانقاذ 4ـ والتصرف، عن وقت الحاجة ـ وجوه الحكمة في تأخير الامور الاربعة عن وقت الحاجة 1ـ التزاحم والاهم والمهم 2ـ العقوبة الالهية على كفران النعمة
الثلاثاء 8 جمادى الاخرة 1438هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(206)
إعادة صياغة لشبهة قبح تأخير البيان بتعميم الإشكال والجواب نقضاً
ويمكن الجواب عن أصل الشبهة (شبهة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة) بما يتكفل الإجابة عن الإشكالات السابقة واللاحقة أيضاً، بتوسيع دائرة الإشكال نقضاً ثم الجواب بوجوه عديدة حلاً فنقول:
أن ههنا أموراً أربعة تشترك جميعها في جامع تلك الإشكالات وهي:
أ- تأخير (البيان) عن وقت الحاجة.
ب- تأخير (الهداية) عن وقت الحاجة.
ولو كان تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيحاً لكان أولى بالقبح منه تأخير الهداية عن وقت الحاجة؛ إذ المراد بالهداية الهداية إلى أصول الدين وما يتعلق بها([1])، وأما المطروح أصولياً فهو تأخير البيان عن وقت الحاجة في الأحكام الشرعية الفرعية، فما يجيب به المشكل عن قبح تأخير الهداية (الآتي إثبات وقوع التأخير فيها) يجاب به عن الإشكال في المقام.
ج- تأخير (الإنقاذ) عن وقت الحاجة.
د- تأخير (التدخل والتصرف) عن وقت الحاجة.
والكل واقع في الشريعة، بل والكل مما جرت عليه سيرة العقلاء في الجملة:
1- تأخير بيان الأحكام عن وقت الحاجة
أما الأول: فهو مورد البحث، وعليه الإجماع فلا يصح أن يفردنا المستشكل بالإشكال إذ انه مذعن بأن الكثير من المخصصات وغيرها وردت في زمان الأئمة اللاحقين (عليهم السلام)، اللهم إلا أن يلتزم بالنسخ بمحاذيره.
2- تأخير الهداية عن وقت الحاجة
وأما الثاني: فمما لا شك فيه وتدل عليه الآيات والروايات:
ومنها: ما دل على وجود الفترة بين الرسل من الآيات والروايات كقوله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ)([2]) والفترة هي انقطاع ما بين الأنبياء عند كافة المفسرين كما صرح به في (التبيان) قال: " (عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ) يعني علي انقطاع من الرسل. وفيه دلالة علي أن زمان الفترة: لم يكن فيه نبي. والفترة انقطاع ما بين النبيين عند جميع المفسرين"([3]).
وقد دلت الروايات الكثيرة على أن كثيراً من الناس إن لم يكن أغلبهم بل شبه المستغرق منهم في بعض أزمنة الفترة على الأقل، كانوا جاهلين بالرسل والشريعة منقطعين عن الهداية تماماً ولم يكن لهم سبيل إليها، كما سنشير إلى بعضها، حتى جاءهم الرسول اللاحق فأرشدهم إلى الهدى من بعد الضلالة والردى، نعم كان النادر أو القليل منهم ممن توارث الهداية كابراً عن كابر.
لِمَ لمْ يرسل الله الرسل في الفترة بين الرسل؟
والإشكال نقضاً هو: أنه مع قدرته تعالى على إرسال الرسل في الفترة أيضاً و – على الأقل - تعيين أوصياء أكثر أو أقوى بحيث لا يحتجب نور الهداية عن أحد، لِمَ لمْ يفعل؟ وهذا هو ما ذكرناه من تأخير الهداية عن وقت الحاجة إذ ولد وكبُر ومات الكثيرون في الفترة ولم يعرفوا عن الدين شيئاً أو أنهم إذا سمعوا به لم يكن لهم طريق للتحقيق ومعرفة الخطأ من الصواب خاصة مع تباعد الطرق قديماً وعدم وجود طرق التواصل الحديثة بل ولا الأدنى منها بكثير.
بل إن المشاهد الوجداني أنه يوجد الكثير من (القاصرين) في هذا الزمن: في قرى الصين أو الهند أو أفريقيا من الفقراء وغيرهم ممن لا يملك أية وسيلة للتعرف على الحقيقة ولا طريق له إليها بالمرة، بل قد لا يخطر ببال أكثرهم حتى احتمال خلاف ما هم عليه من البوذية أو الوثنية كي يكون مخاطباً بلزوم الفحص والبحث، والقطع حجيته، على ما قالوا، ذاتية ويستحيل خطابه وبعثه وزجره إلا بزلزلة قطعه وإزالته، والفرض أن كثيراً منهم قاطع ولم يفعل الله تعالى ما يزيح قطعهم.
هذا كله على فرض قطعه وعدم احتماله للخلاف، على أن كثيراً منهم إن احتمل لما كان له إلى الحق طريق وذلك رغم توفر أجهزة التواصل الحديثة في هذا الزمن فكيف بتلك الأزمنة التي لم يكن يمكن لأهل العالم التواصل مع أحد من الأوصياء الموجودين في إحدى القرى أو المناطق إلا بتجشم عناءِ سفرِ أيامٍ أو أسابيعٍ أو أشهر مما لم يكن يمكن للأكثر ذلك.
ومما يدل على إطباق الجهل بالشريعة بل الشرائع بل جهلهم بالله تعالى([4])، ما رواه في الكافي الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبمضمونه روايات كثيرة، قد تبلغ مرتبة التواتر الإجمالي وربما المضموني مما يغني عن البحث عن سندها كما أن الاعتبار القطعي يؤكدها:
من الروايات الدالة على تأخير الهداية عن وقت الحاجة
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ (صلى الله عليه وآله) وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَأَنْتُمْ أُمِّيُّونَ عَنِ الْكِتَابِ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَعَنِ الرَّسُولِ وَمَنْ أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَانْبِسَاطٍ مِنَ الْجَهْلِ وَاعْتِرَاضٍ مِنَ الْفِتْنَةِ وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ وَعَمًى عَنِ الْحَقِّ وَاعْتِسَافٍ مِنَ الْجَوْرِ وَامْتِحَاقٍ مِنَ الدِّينِ وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ رِيَاضِ جَنَّاتِ الدُّنْيَا وَيُبْسٍ مِنْ أَغْصَانِهَا وَانْتِثَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَيَأْسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَاغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا.
قَدْ دَرَسَتْ أَعْلَامُ الْهُدَى فَظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى فَالدُّنْيَا مُتَهَجِّمَةٌ فِي وُجُوهِ أَهْلِهَا مُكْفَهِرَّةٌ مُدْبِرَةٌ غَيْرُ مُقْبِلَةٍ ثَمَرَتُهَا الْفِتْنَةُ وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ وَدِثَارُهَا السَّيْفُ مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ وَقَدْ أَعْمَتْ عُيُونَ أَهْلِهَا وَأَظْلَمَتْ عَلَيْهَا أَيَّامُهَا قَدْ قَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَدَفَنُوا فِي التُّرَابِ الْمَوْءُودَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ يَجْتَازُ دُونَهُمْ طِيبُ الْعَيْشِ وَرَفَاهِيَةُ خُفُوضِ الدُّنْيَا.
لَا يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ثَوَاباً وَلَا يَخَافُونَ وَاللَّهِ مِنْهُ عِقَاباً حَيُّهُمْ أَعْمَى نَجِسٌ وَمَيِّتُهُمْ فِي النَّارِ مُبْلَسٌ.
فَجَاءَهُمْ بِنُسْخَةِ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلِ الْحَلَالِ مِنْ رَيْبِ الْحَرَامِ، ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا مَضَى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَلَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ لَعَلَّمْتُكُمْ"([5])
فلاحظ قوله (عليه السلام): "وَأَنْتُمْ أُمِّيُّونَ عَنِ الْكِتَابِ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَعَنِ الرَّسُولِ وَمَنْ أَرْسَلَهُ" و"عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَانْبِسَاطٍ مِنَ الْجَهْلِ" و"وَعَمًى عَنِ الْحَقِّ" و"امْتِحَاقٍ مِنَ الدِّينِ" و"قَدْ دَرَسَتْ أَعْلَامُ الْهُدَى فَظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى" و"لَا يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ثَوَاباً وَلَا يَخَافُونَ وَاللَّهِ مِنْهُ عِقَاباً حَيُّهُمْ أَعْمَى نَجِسٌ وَمَيِّتُهُمْ فِي النَّارِ مُبْلَسٌ".
وسنتطرق لاحقاً بإذن الله تعالى لوجوه الحكمة والعلة في تأخير الهداية والإنقاذ والتصرف والبيان عن وقت الحاجة.
3- تأخير الإنقاذ عن وقت الحاجة
وأما الثالث: وهو تأخير الإنقاذ عن وقت الحاجة، فقد جرت عليه سيرة العقلاء في الحروب وغيرها؛ ألا ترى أن جيش الحق قد يؤخر الهجوم على الأعداء، من دواعش ونواصب وكفار حربيين وشبههم، أياماً أو أسابيع أو حتى أشهراً رغم علمه بانهم – أي الأعداء – سيقتلون جمعاً من الأبرياء في هذه الفترة ويهتكون الأعراض وغيرها، فلِمَ يؤخِّر الجيش الإسلامي (أو الوطني في البلاد الأخرى) إنقاذهم عن وقت الحاجة (إذ سيقتل الكثيرون في هذه الفترة وتسحق أعراض كثيرة وتصادر أموال وفيرة؟).
الوجه الأول: باب التزاحم والأهم والمهم
الوجه الأول من الوجوه هو باب التزاحم الذي أشرنا إليه سابقاً والذي يعد الجواب الكلي عن الإشكال على الأنواع الأربع من التأخير؛ إذ يعلم الجيش أنه لو بادر بالهجوم فإما أن يخسر المعركة فيقتل الأعداء، بدل الألف في فترة التأخير الضرورية لاكتمال الاستعدادات، عشرة آلاف مثلاً إضافة إلى انتصاره في المعركة، وأما أن ينتصر لكن بخسائر أكثر إذ رأى الجيش أنه لو قدم الهجوم لقُتل خمسة آلاف مثلاً فكان العقل هو الحاكم بوجوب تأخير تحرير البلاد عن وقت الحاجة بالنسبة إلى أولئك الألف نفر إذ انهم كانوا ستهتك أعراضهم في تلك الفترة ويقتلون أيضاً.
4- تأخير التصرف عن وقت الحاجة
وأما الرابع: وهو تأخير التصرف عن وقت الحاجة، فعليه الشارع والعقلاء أيضاً؛ ألا ترى أن الطلاق الولوي (الولائي) مشروط عند الفقهاء وعند القضاة في مختلف الدول بشروط تستلزم تأخيره زمناً طويلاً نسبياً رغم كون كثير من النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن (بأن فُقدوا بحيث لا تعلم حياتهم من مماتهم أو سجنوا مدى الحياة أو لمدة طويلة جداً) في أشد العسر والحرج في الفترة منذ غياب الزوج حتى الطلاق الولوي، من حيث المعيشة إذ لا يوجد لهن من ينفق عليهم (بل ومن حيث الحاجة الجنسية التي لا يراها المشهور مسوّغة للطلاق الولوي) والمشهور لدى الفقهاء أن عليها بعد أن كانت في عسر وحرج أن ترفع أمرها للحاكم الشرعي فيؤجلها أربع سنين يبعث فيها من يبحث في البلدان عن أخبار زوجها المفقود فإن يأس عنه بأن لم يعلم خبره بالمرة وكانت في عسر وحرج كان له طلاقها (بعد أربع سنين من رفع أمرها للحاكم الشرعي وليس بعد أصل فقد زوجها ولعلها كانت فقدته منذ سنين قبل رفع الأمر!) هذا عند المشهور([6])، وأما عند السيد الوالد قدس سره فانه لا يشترط الأربع سنين لكنه على أي تقدير يشترط كما يشترط فقهاء القوانين الوضعية أيضاً التريث والصبر والفحص حتى الاطمئنان بكونه ميؤوساً منه وبكونها بالفعل في عسر وحرج، ففترة الانتظار هذه هي مورد الكلام في أن تأخير الطلاق عنها تأخير للتصرف([7]) عن وقت الحاجة لفرض كونها في شدة العسر والحرج فيها.
والحكمة الباعثة للعقلاء على ذلك هي التزاحم والأهم والمهم؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك لكان ما يضيع من الحقوق (نظراً لكون بعضهن كاذبة ولكون بعض الأزواج يوصل إليه بمزيد التحقيق ولغير ذلك) أكثر مما يحرز من حقوق من يجري طلاقها باستعجال فهذه هي الجهة الأولى من جهات الحل وهي باب التزاحم.
الوجه الثاني: تأخير البيان والهداية، عقوبة لهم على كفران نِعَم الله
وأما الجهة الثانية فهي أن تأخير الهداية عن وقت الحاجة، كان عقوبة لهم على قتلهم الأنبياء وظلمهم لهم، قال تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)([8]) و(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)([9]) و(كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)([10]).
وقد ورد أن بني إسرائيل كانوا يقتلون بين الطلوعين سبعين نبياً، مع أنهم كانوا يستحقون بمجرد قتلهم نبياً واحداً أشد أنواع العذاب إذ أليسوا قد قتلوا رسول رب العالمين؟!، لكن الله تعالى للطفه وكرمه خفف عنهم العقاب وكان منه حرمانهم من الرسل فترة من الزمن طويلة أو قصيرة. فكان حرمانهم من الهداية عائداً إليهم وكانوا هم السبب فيه؟ ألا ترى أن الطفل المشاغب في المدرسة إذا أُنذر وحُذّر فأبى واستكبر ثم عاند واعتدى، وتكرر التحذير فلم يُجدِه نفعاً، انهم يطردونه من المدرسة رغم أنه يكون السبب في تشرده وجهله من ثمّ بما يحتاج إليه أشد الحاجة من المعرفة لانتشاله من الفقر والمرض وغير ذلك؟ بل أنه يطرد من المدرسة الدينية إذا عاند ولجّ وأصر واستكبر رغم أنه سيسبب له ذلك الجهل بالدين وأحكامه وارتكابه المعاصي والآثام؟ فقد حرم الهداية لكن بسبب عائد إليه.
هذا عن الآباء قتله الأنبياء، وأما الأبناء فقد أخذوا بذنوب الآباء كما أخذ غيرهم بذنوبهم قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)([11]).
إضافة إلى علم الله تعالى بأن الأبناء كانوا سيكونون كالآباء ممن يقتل الأنبياء ولذا خوطب الأبناء بما يخاطب به الآباء وحمّلوا جريرتهم قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)([12])، كما ورد في نظير ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)([13]).
وأما غيرهم – ممن لم يكن لو كان فيما سبق على شاكلة آبائه - فلا ضير عليه من تأخير هدايته لما بعد موته إذ يعاد امتحانه من جديد.
أدلة أخرى على تأخير الهداية عن وقت الحاجة
يدل على تأخير الهداية عن وقت الحاجة أيضاً، غيبة إمام زماننا (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فإن (عدمه منّا) ومن البديهي إننا حرمنا بغيابه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من الكثير الكثير الكثير من الألطاف والنِعم والبركات وأهمها نعمة الهداية إذ ما أكثر الضُلّال إذ لم يستبن لهم طريق الهدى بإرشاد إمام معصوم؟ بل إن المؤمنين الأخيار حرموا الهداية في كثير من الأمور؛ ألا ترى الآراء متضاربة والاجتهادات مختلفة والاجتهادات مبنية على الظنون وأن كثيراً منها خاطئ لذا كانت مجرد معذّرات لدى الخطأ وحججاً ظاهرية فقط، وأي حرمان أعظم من هذا؟
كما يدل عليه قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)([14]) لوضوح أن المراد في الفترة بين الرسل وأنه لم يكن لهم رسول ومع ذلك لا يعذبهم الله تعالى على مخالفتهم الأحكام رغم إمكان الاحتياط على ما فيه من عسر وحرج، وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ...) مطابق للبراءة العقلية، لكن مورد الشاهد عدم وصول الرسول إليهم المراد به وصول البلاغ، وعدم اهتدائهم إلى نور الحق فإن الآية شاملة لما ظنوا به أو ظنوا خلافه أو احتملوه من الأحكام إن لم نقل بشمولها حتى لما قطعوا به([15]).
كما يدل عليه آخر الحديث السابق "فَجَاءَهُمْ بِنُسْخَةِ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلِ الْحَلَالِ مِنْ رَيْبِ الْحَرَامِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ، أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا مَضَى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَلَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ لَعَلَّمْتُكُمْ" لكنهم رفضوا أن يتعلموا منه صلوات الله عليه رغم أنه (عليه السلام) عرض عليهم ذلك مراراً عديدة ورغم علمهم بأنه باب مدينة علم رسول الله ورغم أنه صرح ههنا "فِيهِ عِلْمَ مَا مَضَى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" ورغم انه عرض عليهم بصريح القول: "فَلَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ لَعَلَّمْتُكُمْ" فكان عقابهم([16]) تأخير البيان عن وقت الحاجة.
ويدل على أصل المطلب أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([17]) فإن مما أخذهم الله به الفترة في تلك الأزمنة، وغيبة إمام زماننا في هذا الزمان وحرماننا عن نور الهداية في كثير من أمور الدين وشؤونه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيُحِبُّنِي الْمَخْلُوقُونَ وَيُثْرِي اللَّهُ مَالِي وَيُصِحُّ بَدَنِي وَيُطِيلُ عُمُرِي وَيَحْشُرُنِي مَعَكَ، قَالَ: هَذِهِ سِتُّ خِصَالٍ تَحْتَاجُ إِلَى سِتِّ خِصَالٍ.
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ فَخَفْهُ وَاتَّقِهِ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ الْمَخْلُوقُونَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ وَارْفُضْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُثْرِيَ اللَّهُ مَالَكَ فَزَكِّهِ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُصِحَّ اللَّهُ بَدَنَكَ فَأَكْثِرْ مِنَ الصَّدَقَةِ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُطِيلَ اللَّهُ عُمُرَكَ فَصِلْ ذَوِي أَرْحَامِكَ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَحْشُرَكَ اللَّهُ مَعِي فَأَطِلِ السُّجُودَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ"
أعلام الدين: ص268.
...............................................
الثلاثاء 8 جمادى الاخرة 1438هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |