93- 5ـ ظهور العام معلق على عدم التعبد بالقرينة على الخلاف ومناقشته ـ بحث حول ان للمعرفة طريقتين: التعمق والتوسع
الثلاثاء 26 جمادى الآخرة 1437هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(93)
5- ظهور العام معلّق
وقد سبق بيانه ولكن يرد عليه:
الأجوبة: 1- الأدلة النقلية شاملة للظواهر اقتضاءً
أولاً: مبنىً بما مضى مفصلاً من شمول الأدلة النقلية للعام وسائر الظواهر في دلالتها على انها مرادة بالإرادة الجدية؛ ألا ترى ان قوله (عليه السلام) مثلاً "الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَان..."([1]) الواردة في مقام الحجية على المرادات الجدية لا الاستعمالية فحسب إذ انها واردة للعمل بما يؤدي إليه الخبر وهو فرع كون دلالة ما أدَّاه تامة على انه المراد الجدي لمولاه، يشمل العام كشموله للخاص؟ وانه يصدق عليهما معاً وبالحمل الشائع الصناعي كونهما مما أدياه عنه صلوات الله عليه؟ غاية الأمر ان الخاص يتقدم على العام بالاظهرية أو بالحكومة أو بغير ذلك، فهو ظاهر في موداه مشمول للحديث إلا انه مَنَع عن العمل بظهوره مانع هو الخاص لا انه غير ظاهر في مؤداه أصلاً مع وجود الخاص بدعوى ان أدلة الحجية والظهورات لا تشمله..
وقد فصلنا الحديث عن طوائف من الآيات([2]) والروايات الدالة على حجية العام في دلالته على المراد الجدي، وأجبنا عما قد يورد عليها فراجع ما سبق([3]) إضافة إلى الجواب ببناء العقلاء وهو عام([4]).
2- النكات الأربع في السيرة دليل العموم
ثانياً: بناءً؛ بانه وإن سلمنا ان الدليل على حجية الظواهر ومنها العمومات، ليس إلا السيرة وهي دليل لبّي ولا تشمل صورة تعارض العام والخاص لعدم معقولية وجود سيرتين متضادتين على الأمرين المتضادين فينتج ذلك عدم شمول دليل الحجية للعمومات فلا ظهور لها في المراد الجدي مع وجود خاص على الخلاف، إلا ان السيرة حيث كانت عقلائية فانها لا محالة لا تكون تعبدية بل هي لنكتة عقلائية، وقد سبق الكلام عن النكتة وذكرنا عدة نكات منها الكاشفية النوعية ومنها الظن النوعي([5]) ومنها غير ذلك([6])، وهذه النكتة عامة تشمل العام فانه كاشف نوعي اقتضائي عن الواقع، غاية الأمر أن الخاص يتقدم عليه للاظهرية أو غيرها لا انه – أي العام – غير كاشف نوعاً حتى اقتضاءً بالمرة لدى التعارض اللهم إلا على وجه آت غداً بإذن الله مع الجواب عنه.
واما الدليل على كون السيرة عقلائية وانها صادرة منهم بما هم عقلاء لا بما هم متعصبون أو شهوانيون أو لجريان العادة والاعراف والتقاليد، فهو واضح وهو نفس اتفاق العقلاء كلهم على أمر – على الفرض - فانه لا يعقل ان يكون لجهةٍ غير اقتضاء عقولهم ماداموا قد اتفقوا عليه رغم اختلاف أديانهم وقومياتهم وبلدانهم وكونهم حضريين أو بدويين أو ريفيين متدينين، أو معادين للدين.. الخ فانه لا جامع حينئذٍ قطعاً إلا كون منشأ اتفاقهم هو العقل (أو الفطرة فيما كان من مجالاتها).
3- مقتضى القاعدة التفصيل بين المتصل والمنفصل
ثالثاً: سلمنا، إلا ان مقتضى القاعدة ان يفصل الشيخ (قدس سره) بين المخصص المتصل والمنفصل بالقول بالورود في الأول وعدمه بل الحكومة أو غيرها في الثاني، وذلك لأن المخصص المتصل يمنع انعقاد ظهور العام في مرحلة علته المحدثة فينعقد ضيقاً من قبيل ضيق فم الركيّة لا انه ينعقد واسعاً ثم يُعدَل عنه لمانعٍ أقوى، واما المخصص المنفصل فانه حيث انفصل انعقد، عرفاً، للعام ظهور في انه المراد الجدي للمولى ثم إذا جاء المنفصل تقدم عليه بعد وجوده، بنحو العلة المبقية لا انه حالَ دون أصل وجوده كالمتصل.
نعم قد يتوهم عدم صحة ذلك فيمن يعتمد كثيراً على المنفصلات وسيأتي جوابه بإذن الله تعالى بالذهاب إلى نحوِ تفصيلٍ.
تنبيه وتبصرة: بين منهج التوسع ومنهج التعمق
حيث إستشكل البعض في منهج التدقيق والتشقيق والتحقيق الذي نعتمده وانه أليس الأولى استعراض كم أكثر من المسائل والبحوث بدل التوقف طويلاً عند بحث بل عند كلمة واحدة وذكر مختلف احتمالاتها ووجوهها وما لها وعليها، كان لا بد من الإشارة مرة أخرى إلى بعض وجوه الضرورة في ذلك، وليُضف ما نذكره ههنا إلى ما ذكرناه قبل أشهر وقبل سنتين أيضاً إذ انه يكمله، فنقول:
إن الطريق إلى المعرفة أولاً وإلى تصحيح المعرفة ثانياً، طريقان:
الأول: التوسع والامتداد الأفقي. الثاني: التعمق والتوغل العمودي.
وهذان الطريقان هما كجناحي الطائر، والأول كمن يحفظ أو يفهم ألف حديث فهماً سطحياً أو عادياً والثاني كمن يفهم مائة حديث فهماً معمقاً ببطونه المختلفة، ولا ريب ان لكلٍّ فضلاً وان كلاً منهما ضرورة وان الحياة تقتضيهما معاً إلا ان القادر على التعمق والتدقيق والتشقيق الأكثر لعل الأوّلى به التعمق بدل التوسع – في صورة تضادهما – فقد ورد "أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ مَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا..."([7]) و"هِمَّةُ الْعَاقِلِ الدِّرَايَةُ وَهِمَّةُ الْجَاهِلِ الرِّوَايَة"([8]) كما ورد: "قَالَ الرَّاوِيَةُ لِحَدِيثِنَا يَشُدُّ بِهِ قُلُوبَ شِيعَتِنَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ"([9]).
والحاصل: ان وكيلاً مثلاً يحفظ فتاوى المجتهد في عشرة آلاف مسألة لا شك في انه محتاج إليه، إلا ان مجتهداً لا يعرف إلا ألفاً منها لكنه يمتلك ملكة الاستنباط فيها وقد حقق أطرافها ونقح أدلتها ومباحثها، فانه ارجح ميزاناً.
بل نقول: ان تطور العلم الحديث إعتمد على كلا جناحي التوسع والتعمق، فالتوسع عبر السير في الآفاق من أقمار وأفلاك وبحار وصحاري وغيرها واكتشاف معلومات جديدة، والتعمق بالتدقيق في الشيء الواحد، كالجينات الوراثية والذرة، وتحليلها بأدق أنواع التحليل إلى أجزاء كالالكترون والبروتون ثم دراسة كل منهما دراسة دقيقة عميقة إلى أبعد الحدود والتي ابتنت عليها الاكتشافات العلمية الكثيرة، ومن ذلك ما توصلوا إليه من تكنولوجيا النانو التي ستغير – حسب الخبراء - وجه العالم كله خلال سنوات إذ عبر ذلك التعمق وصلوا إلى طرق نادرة لصناعة أجهزة دقيقة جداً ستغير الحياة كلها مثل أجهزة طبية متناهية الصغر قد لا ترى بالعين المجردة ومنها ما يرسل إلى داخل العروق والقلب والمخ لتصويرها واكتشاف مواطن المرض والخلل بل ولإجراء عمليات جراحية دقيقة عبرها يتحكم فيها عقل إلكتروني أو بجهاز التحكم عن بعد، بل هم على وشك صناعة طائرات صغيرة جداً مزودة بعقول كمبيوترية قد تحلق في بيت كل واحد منّا وتُصوّر ما يجري فيه دون ان ندري أبداً، إذ انها من الصغر بحيث لا ترى أبداً.. وهكذا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى:
فان القابليات مختلفة، وعلى حسب اختلافها يكون الارجح انتهاج منهج التوسع أو التعمق فذو الحافظة القوية مع ضعف الذكاء عليه ان ينهج منهج التوسع والحفظ، وذو الذكاء الوقاد مع ضعف الحافظة والذاكرة عليه ان ينهج منهج التعمق والتدقيق.
ولكن على الأول ان لا يغفل عن بعض التعمق كي ينال جانباً من حسناته.
وعلى الثاني ان لا يغفل جانب التوسع في الجملة كي لا يحول غرقه في التفاصيل والاعماق عن رؤية الصورة الكلية والإحاطة بمختلف القرائن العامة التي قد تغير من فهم الأدلة للانصراف أو غيره.
وأما القليل من الناس ممن حباهم الله تعالى بالنعمتين: الذكاء والذاكرة فعليه الجمع مهما أمكن، وعلى الكل شكر الله وحمده في كل حالة وبذل الوسع والجدّ قدر الطاقة والتمسك بحبل العترة الطاهرة ومراعاة خلوص النية كي يكون العمل سلوكاً والإنتاج مآلاً مرضياً لرب الأرباب ولا يكون والعياذ بالله (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)([10]) والله المستعان.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
====================
الثلاثاء 26 جمادى الآخرة 1437هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |