162- توضيح كلام الشيخ من دعوى انصراف أدلة الكذب عن الكذب الهزلي ـ الحق التفصيل : بين الدلالة على العناوين ( الكذب والهزل ) بالتشريك أو بالغلبة لا بنحو الاندكاك و الاضمحلال أو معه
السبت 10 صفر 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول مدى حرمة الكذب في مقام المزاح او الهزل او الاستهزاء ، السخرية او حتى الكذب بنحو اللطيفة – بحسب اصطلاح الوالد- ، وذكرنا وجوها أربعة لدعوى الخروج الموضوعي لهذه الاقسام من الكذب عن كونه كذبا وقد ناقشنا فيها ، ووصلنا إلى الوجه الخامس
الوجه الخامس: انصراف ادلة الحرمة عن الكذب المزاحي
وأما الوجه الخامس فهو ما ذكره الشيخ الأنصاري قده من الانصراف وظاهر كلامه هو ان الكذب هزلا او مزاحا ( ونضيف او سخرية) انه كذب إلا ا ن أدلة الحرمة والمنع منصرفة عنه[1]
وعبارة الشيخ هي: ( وأما نفس الهزل وهو الكلام الفاقد للقصد الى تحقق مدلوله فلا يبعد كونه غير محرم مع نصب القرينة على إرادة الهزل كما صرح به بعضهم ولعله لانصراف الكذب الى الخبر المقصود وللسيرة )، لكن الشيخ بعد ذلك يرد ما تقدم بقوله: (( ويحتمل غير بعيد حرمته ((، ولعل هذا هو نظره
توضيح كلام الشيخ وتعليقنا عليه:
ولكن هناك قيد لم يذكره الشيخ في عبارته (...الفاقد للقصد )، ولعله لم يذكره اعتمادا على وضوحه من السياق، فانه كان ينبغي ظاهرا ان يقيد القصد وان يقول ( للقصد الجدي إلى تحقق مدلوله) لا لأصل القصد اذ الفرض ان الكاذب الهازل قاصد وان كان ليس جادا، خاصة إن ذلك يظهر بـملاحظة تتمة كلامه حيث قال: ( فلا يبعد انه غير محرم مع نصب القرينة )، نعم الغالط بالمرة لا قصد له
والخلاصة: إن مراد الشيخ من (الفاقد للقصد): الفاقد للقصد الجدي ، لا انه ينفي أصل وجود القصد؛ لدى الهازل إذ الهازل ذو قصد لكنه غير جدي.
امكان تصوير الكذب هزلا مع انتفاء القصد بالمرة:
ولكن ، مع ذلك، يمكن لنا ان نصور الكاذب الهازل بحيث يكون فاقدا للقصد بالمرة أي قصد الحكاية وذلك كما في الممثِّل الذي يقلد كلام غيره فإنه يكون غير ملتفت لمحتوى ما يتلفظ به بالمرة وخاصة اذا كان يقلد كلام غيره بلغة أخرى قد حفظها وقلدها، فان هذا الشخص لو كان في مقام الهزل او المزاح او السخرية فانه يمكن ان يقال انه فاقد لقصد الحكاية بالمرة؛ إذ انه يأتي بالعلة الصورية في كلامه فقط وفقط دون ان يقصد شيئا من المحتوى و العلة المادية.
وكما ذكرنا فان الشيخ احتمل الانصراف اذ قال : ( ولعله لانصراف الكذب الى الخبر المقصود)
و ظاهر قوله بالانصراف ليس الانصراف الموضوعي، بل الانصراف الحكمي والمحمولي، أي ان الكذب المأخوذ في لسان الدليل موضوعا للحرمة منصرف عن الكذب الفاقد الى قصد مدلوله عن جدّ، هذا هو الدليل الاول لاحتمال كونه غير محرم ، واما دليله الثاني فهو : ان سيرة المتشرعة هي على الكذب مزاحا او هزلا وهذه تصلح كقرينة صارفة لاطلاقات حرمة الكذب،
إلا ان الشيخ يتراجع عن الانصراف ويقول: (( ويحتمل غير بعيد حرمته لعموم ما تقدم ((، أي: لعموم ما تقدم من أدلة تحريم الكذب فانه بذلك ينفي عدم الصدق الموضوعي للكذب على المورد ،وينفي انصراف ادلة الحرمة عنه ايضا ،
ثم يقول: (( لان الأكاذيب المضحكة أكثرها من قبيل الهزل )) وتوضيحا لكلامه : كأن الشيخ هاهنا يتمسك بأنه إن لم نقل بذلك للزم تخصيص الأكثر وهذا مستهجن وذلك ان الرواية تقول: (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له ويل له ))، وهذه الرواية تدل على ان الذي يتحدث بالكذب لإضحاك الناس يفعل محرماً وأكثر هذه الاكاذيب المضحكة هي من قبيل الهزل, و لو استثنينا ذلك[2] عن حرمة الكذب للزم تخصص الأكثر وهو قبيح.
التحقيق في المقام: خمس صور ممكنة
ولكن التدبر والتحقيق في المقام يقتضي الوصول الى نتيجة اخرى هامة وهي التفصيل ، وما نذكره بعد قليل يشكل كبرى كلية نطبقها على المقام فنقول:
لو اجتمع عنوانان كما في المقام كعنوان الكذب وعنوان الهزل – وقد سبق إن النسبة بينهما من وجه- فهنا صور:
الصورة الأولى: فقد يُقصدان ويُدلّ على العنوانين بنحو التشريك وذلك من خلال القصد لهما والدلالة عل ذلك بالقرينة إثباتا وهذه هي الصورة الأولى.
الصورة الثانية والثالثة: وهي نفس الصورة الأولى ولكن بنحو التغليب لاحد الطرفين على الآخر، وهنا إما ان يغلب عنوان الكذب على عنوان الهزل وإما ان يكون العكس، ولكن من غير اضمحلال او اندكاك او استهلاك لأحدهما بالآخر، كما لو كان 80%كذب وجد[3] و20% الهزل في قصده فيكون اشبه بالتلويح ، او كان العكس
وبتعبير آخر: كلاهما مقصود ومُدلّ عليه لكن لا بالتساوي
الصورة الرابعة والخامسة: وذلك باستهلاك واضمحلال واندكاك احدهما وبقاء الآخر عرفاً فاما الهزل مندكّ واما الكذب مضمحل ، وهذه هي الصورة التي نستثنيها بوضوح وهي منشأ القول بالتفصيل.
بعض الأمثلة التوضيحية: ونذكر هاهنا بعض الأمثلة الأخرى المشابهة كي يتضح الحال جيدا:
أـ اندكاك الفعل الماضي في المضارع الفعل الماضي الذي قصد به المضارعة فهل تسرى عليه أحكام الماضي او احكام المضارع؟ كما هو الحال في قوله تعالى (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) فأتى فعل ماضي ولكن المقصود به المضارعة بلا شك وبقرينة فلا تستعجلوه وغيرها ، وكذلك قوله تعالى ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) فان وقع فعل ماضي ولكن كما هو معلوم فان الجملة الشرطية اذا وقع فيها الماضي أي في مقدمها فان زمانه ينقلب الى المضارعة في واقعه ومراده ، وكذلك قوله ( ان ضربتني ضربتك ) فالأمر نفسه كذلك،
وهنا نقول: هذه الأمثلة كنظائرها هي من قبيل الصورة الرابعة لان الماضوية اندكت وانحلت في المقصود الذي أقيمت عليه القرينة، ولذا فالأحكام[4] ستكون للمضارع لا الماضي
ب ـ اندكاك الفعل الاخباري في الانشاء لو كان الفعل ماضيا ولكن أريد به الإنشاء، فان الفعل الماضي ظاهر في الإخبار، فأي حكم سيترتب على الفعل؟ أهو الإخبار او الإنشاء؟
والجواب: انه وبلا شك تترتب عليه أحكام الإنشاء كما في قول احدهم (بعت) وهو في مقام انشاء البيع لا في مقام الاخبار فانه بقرينة المقام والحالة يريد إنشاء الاعتبار في عالمه، وكما ذكرنا فان أحكام الإنشاء هي السارية دون أحكام الإخبار؛ وذلك لا ندكاك الثاني بالأول واضمحلاله
تطبيق بعض الصور على المقام:
وكتطبيق لما نظّرنا به على صغرى المقام نقول: بانه في الكاذب مازحا قد يكون كاذبا ويكون مصب حديثه الكذب ولكن يلوح منه المزاح، وقد ينعكس الأمر فيكون مصب كلامه الهزل ولكن مع التلويح بالكذب والكلام هنا سوف يندرج في الصورة الثانية والثالثة والتي فيها الغلبة لأحد الطرفين، ولكن قد يكون الكذب مازحا مع الاندكاك والاضمحلال كما هو الحال في اللطيفة كشخص أخبرك بأنه قد هجم عليه اسد ضاري ففر منه موليا فتعقب على ذلك ملاطفاً وتقول: ( أنت حقيقة رجل شجاع ) فهل هذا القول منه كذب او لا؟ وكذلك الحال في سائر الأمثلة التي ذكرها السيد الخوئي في مصباحه وذكرناها أيضا، وكذا الأمثلة التي ذكرها السيد الوالد في الفقه،
والجواب : انه في قوله هذا ( أنت حقيقة رجل شجاع ) – لو كان الكلام من قبيل الصورة الخامسة- كما هو الحال كثيرا - فان أدلة حرمة الكذب هزلا منصرفة عنه؛ فهو وان كان كذبا لعدم مطابقة اللفظ للواقع، إلا انه ليس بحرام ، وذلك لما فصلناه من ان هذا نحو من كذب الحكاية وهو كذب لا شك فيه لكنه ليس بنحو كذب الحاكي والادلة منصرفة للثاني في صورة الاندكاك [5]
والحاصل : انه كذب موضوعا بأحد المعنيين[6] بدون شك إلا ان الأدلة منصرفة عنه فعندما يقول له انه حقا شجاع بقصد الملاطفة فان الكلام وان كان بظاهره وبحسب الارادة الاستعمالية قصد الشجاعة وإثباتها له إلا انه في الباطن والواقع وبحسب الارادة الجدية ليس كذلك[7]
والمتحصل: إن الأدلة منصرفة عنه بهذا اللحاظ، والفرق دقيق فتدبر.
ولكن لو قصد المتكلم التشريك أي كلا المعنيين والعنوانين ، كما لو كان من جهة يريد ان يتمازح معه ولكن من جهة أخرى كان يريد ان يخبر عنه بأنه
جبان ففي هذه الحالة لدينا عدة صور: فقد يكون هناك تشريك بالنية على قدم المساواة وهذه هي الصورة الاولى، وقد بنحو الغلبة لأحدهما مع عدم الاضمحلال وهذه هي الصورة الثانية والثالثة
وكلامنا ليس في كل هذه الصور فانها كذب محرم وإنما الكلام في الصورة الخامسة فان المتكلم هنا ليس في سياق الإخبار بالمرة فهو وان كان خبر بنحو الإرادة الستعمالية، إلا انه ليس كذلك بنحو المراد الجدي والمقصود الحقيقي والواقعي ومعه فالظاهر انصراف الأدلة عنه،
وأما دليل السيرة المذكور فانه دليل لبي فلا اطلاق فيه ، وسيرة المتشرعين بما هم لو كانت ثابتة فهي على الملاطفة لا غير, وأما كذب التشريك ولو بنحو الغلبة لاحد الطرفين فانه مما يتحرج عنه المتدينون. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] وسنثبت ان هذا الرأي أي الانصراف هو تام ظاهراً، ولكن على تفصيل سيأتي
[2] اي الكذب هزلاً ، اذ النادر من موارد الكذب هزلاً مما ليس لاضحاك الناس
[3] بان يقصد القاء خلاف الواقع في نفس السامع
[4] اي المعنوية لا الشكلية النحوية او الصرفية
[5] بحيث لا يرى العرف الا حال الحاكي دون حال الحكاية بما هي هي
[6] اي بلحاظ كذب الحكاية لو لوحظت بما هي هي
[7] فلا يقال انه كاذب اذ ادعى ان هذا الجبان الفارّ من الاسد هو شجاع
السبت 10 صفر 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |