562- هـ ـ الاطلاق المقامي، وبحث عن حدوده وفوارقه عن الاطلاق اللفظي وـ البرهان الإني عبر المعذرّية عرفاً زـ العلة الغائية من التشريع
الاثنين 20 شعبان 1436هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(86)
الوجه الخامس: الإطلاق المقامي
وقد يستدل على حجية قول الأعلم وغيره في حالات المخالفة والموافقة وحالة عدم العلم – أي لاحراز حجية قول مختلف أفراد الفقيه في شتى حالاتهم - بالإطلاق المقامي لبعض الروايات، وتوضيحه يتوقف على تعريف الإطلاق المقامي وفرقه عن الإطلاق اللفظي فنقول: الفوارق عديدة وبها يظهر تعريفه وحدوده:
فوارق الإطلاق المقامي عن اللفظي
أ- الإطلاق اللفظي مصبّه الكلي وأفراده أي الموضوع ومصاديقه اما الإطلاق المقامي فمصبه الكلي وقسيمه أو قسائمه أي الموضوع وسائر الموضوعات الأخرى المماثلة أو المضادة له، فالاطلاق اللفظي طولي والإطلاق المقامي عرضي أي يشمل ما هو بعرض موضوع الحكم ومصبّه.
ب- والإطلاق اللفظي محلّه: الموضوع المذكور بلحاظ قيوده، والمقامي محلّه: الموضوع غير المذكور بلحاظ ذاته.
ج- والإطلاق اللفظي، بناءً على توقف الإطلاق على كون المولى في مقام البيان، يجب ان يحرز كونه في مقام بيان كل ما له دخل في موضوعه، اما الإطلاق المقامي فيجب ان يحرز كونه في مقام الحصر أي كونه في مقام بيان كل موضوع يشترك مع موضوع الحكم فيه – أي في الحكم.
د- والإطلاق اللفظي ثمرته: توسعة دائرة الحكم، والإطلاق المقامي ثمرته تضيق دائرة الحكم، هذا في الأحكام الإيجابية، واما في السلبية فالأمر بالعكس تماماً.
ويتضح ذلك كله بالتدبر في المثال التالي: فلو قال المولى للمولّى عليه: أكرم الفقيه والمهندس والطبيب([1])، فان الإطلاق اللفظي – لو تمت مقدماته – يقتضي الشمول – شمول وجوب الإكرام – لكل فقيه في مختلف حالاته([2]) وكذا الطبيب والمهندس، اما الإطلاق المقامي – لو تمت مقدماته – فانه يقتضي عدم وجوب إكرام المحامي والصحفي.. الخ وكما هو واضح فان المحامي والصحفي موضوع آخر مماثل أو مخالف وهو قسيم موضوع الحكم وهو في عرضه وليس من أفراده وفي طوله وهو موضوع غير مذكور في الجملة الحكمية، ومحرِزُهُ كون المولى في مقام الحصر أي بيان كل موضوع يشترك مع موضوع الحكم، فيه.
والعكس من ذلك كله في إطلاقه اللفظي فلاحظ.
وفي المقام فان بعض الروايات الدالة على صحة التقليد وجوازه، يصح الاستدلال بها على الإطلاق المقامي.
قال السيد الوالد في الفقه: (أليس قوله (عليه السلام) (من كان من الفقهاء) إلى آخره ظاهراً في بيان شرائط التقليد مطلقا، حتى أنه لو كان هناك شيء آخر وجب التنبيه عليه، وأما سائر الشرائط فكل شرط منها يحتاج إلى دليل بحيث لولاه لم يكن وجه للاشتراط)([3])
نعم هذا الدليل – الاطلاق المقامي – لا يجري في الكثير من الأدلة النقلية الأخرى كـ(فاسألوا أهل الذكر) وما أشبه، فتدبر
الوجه السادس: كاشفية المعذِّرية عن الإطلاق
وإلى ذلك أشار السيد الوالد بقوله: (الا ترى ان المولى لو قال لعبده: "اسأل العالم" ثم لم يسأل العبدُ العالمَ الموجود في البلد، معتذراً باحتمال لزوم كون العالم حافظاً للمسألة مع عدم كون ذلك العالم كذلك، لم يكن عند العقلاء معذورا، ولو سأله وعمل به لم يكن عندهم ملوما ولم يكن للمولى حق الاعتراض بأنه لم يكن لكلامي إطلاق يشمل هذا)([4])
أقول: توضيحه وبرهنته في كلتا جهتي الإطلاق الافرادي (العالم والأعلم) والاحوالي (العالم في صورة مخالفته مع الأعلم وغيرها) ان المعذرية في تلك الأمثلة وغيرها([5])، معلولة لانعقاد الإطلاق وتماميته وإلا لما امكن ان يكون معذوراً باتيانه ما لم يشمله الدليل لافراغ ذمته عما شمله، وحيث يرى العرف المعذِّرية كشف ذلك بالبرهان الإنّي عن انعقاد الإطلاق وتماميته.
والحاصل: ان العرف الذي هو المرجع في الطرق العقلائية لو لم يتدخل الشارع ويتصرف، لو رأى المعذرية والمنجزية فان ذلك يكشف عن انهم احرزوا ان المولى كان بصدد بيان تمام مراده، وإحرازهم إنما هو لإحراز – ولو بالأصل – التفات المولى – ولو إجمالاً وارتكازاً – لتلك التشقيقات والتفصيلات والفروع وانها مما يمكن ان يبتلى بها العبد وكونها موضع الحاجة، وذلك([6]) في الشارع مما لا يحتاج إلى برهان.
ولا يتوهم من هذا الدليل الدور؛ إذ احد طرفيه ثبوتي والآخر إثباتي:
اما الثبوتي فهو: إذا كان المولى في مقام البيان فالعبد معذور بامتثال الحكم بأي واحد من مصاديق موضوعه – وهذه هي العِلِّية الثبوتية.
واما الاثباتي فهو: إذا كان العبد معذوراً عرفاً كشف ذلك عن كون المولى في مقام البيان، وهذا هو البرهان الإنّي ولو كان هذا الشق هو (إذا كان العبد معذوراً عرفاً كان المولى في مقام البيان) بدعوى عِلّية المقدم للتالي، للزم الدور لكنه ليس كذلك.
الوجه السابع: العلة الغائية من التشريع تنفي احتمال الاهمال
وقد يستدل بما ذكره في النور الساطع: (ولا يخفى ما فيه: فإنه لا يعقل من الشارع أن يهمل بيان الموضوع وشروطه مع كثرة الابتلاء به وأهميته في الدين؛ إذ عليه يتركز عبادة الناس وأعمال البشر فلو كان يعتبر في موضوعه شيئاً كالأعلمية ونحوها لبيّنة الشارع بكثرة توجب وصوله إلينا، كما منع من القياس منعاً وصل إلينا)([7]).
أقول: توضيحه بعبارة أخرى: ان العلة الغائية من التشريع تتنافى مع الاهمال فان الغاية من التشريع لا تتحقق إلا بـ:
أ – بيان أحكام الشرع.
ب – بيان الطرق إليه والحجج عليه – لو كانت مخترعة – أو بيان حدودها لو تصرف فيها الشارع وإلا فالإرشاد إلى نفس الطريق العقلائي الذي يكفي فيه (بلسان قومه) وشبهه.
ج – بيان موضوعاته المخترعة – كالصلاة والحج – وإلا فاحالة المكلف إلى العرف في إحرازها.
وعليه: لو أهمل الشارع أي واحد من الأمور الثلاثة الآنفة، لكان مخلاً بغرضه وبالعلة الغائية من التشريع، وحيث لم يذكر الشارع (الأعلم) كقيد في المقلَّد، وقول المقلَّد طريق وحجة شرعية أو عقلائية، دل على عدم اشتراطه للأعلمية وإلا لكان مغرياً بالجهل مفوتاً لأغراضه.
ولا يخفى ان هذا الوجه أعم من الوجه الرابع (سنّ القانون) فان (سنّ حجية نظر الأعلم بشرط لا، أي تعييناً) من أهم مصاديقه، على انه لدى التدقيق فان هذا مباين لذاك إذ الكلام هنا عن الحجج وهناك عن القانون المسنون وهو حكم وضعي أو تكليفي. فتأمل([8])
نعم لا يخفى ان الأدق كان التعبير بـ(فانه لا يعقل من الشارع أن يهمل بيان الحجة على أحكامه أو موضوعاتها) فان هذا هو محل الكلام إذ هو عن تعين تقليد الأعلم كطريق إلى أحكام الشارع، وليس (ان يهمل بيان الموضوع وشروطه).
الإشكال: بإحالة الشارع ذكر قيد الأعلمية للعقلاء والجواب
لا يقال: إنما لم يذكر الشارع الأعلم ولم يشترطه، لإحالته المكلف على بناء العقلاء فلا يكون عدم ذكره دليلاً على عدم اشتراطه بدعوى انه لو كان اشترطه ولم يذكره لكان مفوتاً للغرض؛ إذ الغرض لا يفوت مادام أحال على بناء العقلاء وهم يرون تعين الأعلم.
إذ يجاب: أولاً: لو صح ذلك لكان من الأولى قطعاً ان لا يذكر (الفقيه) و(أهل الذكر) كمرجع، وذلك لبداهة ان المرجع في كل فن هو أهل الخبرة فيه فكيف رأى الشارع الحاجة إلى قوله (فاسألوا أهل الذكر) ومثل (اتبع الفقيه) مع بداهة ان السؤال يجب ان يكون من أهل الذكر لا من أهل الجهل والنسيان وان الاتباع يكون للفقيه لا للجاهل ومع كون ذلك متفقاً عليه، ولم ير الحاجة إلى ذكر (الأعلم) – لو كان بناؤه على اشتراطه - مع كونه مختلفاً فيه؟
ثانياً: انه حيث احتمل اشتراط الشارع في الحجج العقلائية قيداً (كالعدالة في المجتهد رغم كفاية الوثاقة بنظر العقلاء) أو تخفيفه أمراً أو رفضه أصل الحجية (كالقياس) أو إقراره لها (كاليد والسوق على سعتها مما لا يقول بهما بتلك السعة العقلاء)([9])، كان لا بد من الرجوع للشارع فان لم يذكر قيداً دلّ على عدم اعتباره ، اللهم إلا ان يكون هناك بناءٌ مسلّم محرَز للعقلاء بحيث يصلح ان يتّكِل عليه الشارع ولا يكون به مغريا بالجهل لمن – وهم كثير – يرون كفاية تقليد غير الأعلم. وليس الأمر كذلك([10]) فتأمل جيداً
تنبيه: لا يخفى اننا لم نستعرض وجوه المناقشة لتلك الوجوه والأخذ والرد فيها وما نرتضيه من عدمه، إلا إشارة لبعضها، إذ محل ذلك الأصول مباحث الإطلاق والتقييد، وكان الغرض هنا ذكر وجوه مختلفة على المباني المختلفة يكفي ثبوت احدها لتمامية الإطلاق، فكيف لو تم أكثر من واحد منها فانه لا مانعة جمع بين العديد منها، فتدبر جيداً.
الإطلاق قائم باللفظ أو اللافظ؟
تنبيه: ظهر مما سبق ان الإطلاق قد يكون قائماً باللفظ وقد يكون قائماً باللافظ، فالأول كالوجه الأول (قهرية انطباق الكلي الطبيعي على مصاديقه) والثاني كهذا الوجه وبعض الوجوه الأخرى، فلاحظها.
بعض الوجوه نافية للحاجة للمقدمة الأولى وبعضها محرزة
تنبيه: ان بعض الوجوه السبعة الآنفة تنفي الحاجة للمقدمة الأولى من مقدمات الحكمة([11]) وبعضها تعد دليلاً محرزاً لوجودها وان المولى في مقام البيان([12]).
تنبيه: بقيت مباحث أخرى وإشكالات وأجوبة، يعلم حال أغلبها مما سبق.
نعم بقي إشكال مبنائي هام على التمسك بالإطلاقات وهو دعوى عدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين وان مقتضى التعارض تساقط كلا الدليلين (العالم والأعلم معاً) وحيث أجبنا عن هذه الدعوى مفصلاً في آخر كتاب (شورى الفقهاء – دراسة فقهية أصولية) في رسالة مستقلة، لذلك اكتفينا بها عن تكرارها هنا، على اننا قد نعقد – بإذن الله – مسألة خاصة لذلك نشبعها بالبحث الأكثر، وعلى أي فهي مسألة أصولية مبنائية تحال إلى موضعها، والله المسدد والناصر المعين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
==============================================
الاثنين 20 شعبان 1436هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |