150- أدلة حرمة الكذب هزلاً 1ـ انه قول زور 2ـ إطلاق الروايات المناقشة : النسبة بين الكذب والهزل (من وجه) والهزل مع اقامة القرينة ليس بكذب
السبت 19 محرم 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الكذب ومستثنياته، ووصلنا إلى الكذب هزلا، هل هو حرام أو لا ؟ وذكرنا أن المحتملات والأقوال في المقام أربعة، فبين تحريم مطلق كما هو لعله ظاهر الشيخ، وتجويز مطلق كما لعله ظاهر المحقق الايرواني، وتفصيلين هما للسيد الخوئي والسيد الوالد، وقد مضى فيما سبق بعض الحديث عن ذلك.
أدلة المحتملات والأقوال الأربعة في (الكذب هازلاً)
وهنا نذكر أولا أن العناوين في المقام ثلاثة وهي: الهزل والمزاح والاستهزاء، وقد سبق الفرق بينها حيث قلنا إن الاستهزاء فيه تنقيص من الغير وهتك لكرامته، وأما الهزل فهو اقل مؤونة إذ لم يؤخذ في عنوانه هتك الغير وإنما أخذت العبثية حيث لا غاية عقلائية فيه، واما المزاح فهو على قسمين: فقد يكون له غرض عقلائي كإدخال السرور في قلب الغير وقد لا يكون ذلك، فان المزاح بحسب الروايات هو بين ممدوح ومذموم، وعلى كل حال فالبحث يدور حول العناوين الثلاثة كلها.
وأما الروايات التي ذكرها الشيخ الأنصاري في مكاسبه وهي التي وقعت مورد بحث بين الأعلام عادة فهي خاصة بالهزل، قد ذكر بعضهم المزاح أحياناً من غير تمييز بينهما، ولكن لابد في مقام البحث من الفصل والتمييز بين العناوين الثلاث المزبورة.
أدلة الاحتمال الأول: وهو تحريم الكذب الهزلي بقول مطلق
وأما القول الأول وهو حرمة الكذب بقول مطلق فان المستند في ذلك عدة أدلة مذكورة:
الدليل الأول: قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)([1])
وهو قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)، فان الكذب هو مصداق عرفاً لقول الزور سواء أكان جدا أو هزلا أو مزاحا او سخرية لا فرق بينهما، ويصدق بالحمل الشايع الصناعي على الكذب الهزلي انه قول زور فهو باطل وحرام، كما فيمن يقول لجاهل (أنت أرسطو هذا الزمان) فان هذا كذب سواء كان مزاحا او هزلا او استهزاءا([2])، أو أن يقول له: (أنت ابن سينا زمانه).
الدليل الثاني: اطلاقات الروايات
لم يستبعد الشيخ في مكاسبه الحرمة المطلقة استناداً إلى إطلاق الروايات وشمولها للكذب جدا كان او هزلا، وقد ذكرنا هذه الروايات سابقا وهنا سنقتبس موطن الشاهد([3]) فقط.
والروايات هي:
الرواية الاولى: عن سيف بين عميرة عن الباقر ع قال: كان يقول علي بن الحسين لولده " اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جدّ وهزل"([4]), وهذه الرواية ظاهرة في التحريم بقول مطلق فان الأمر يدل على وجوب الاجتناب.
الرواية الثانية: عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " لا يصلح من الكذب جد ولا هزل " ,وهذه مطلقة أيضا.
الرواية الثالثة: عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أنا زعيم بيت في أعلى الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في رياض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا ,ولمن ترك الكذب ولو كان هازلا ".
الرواية الرابعة: " لا يجد رجل طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده "
مناقشة الأدلة:
ولكن الاستدلال بالروايات المذكورة يمكن ان يناقش من عدة وجوه:
الوجه الأول: مصبّ التحريم هو الكذب ونسبته مع الهزل هي من وجه
أما الوجه الأول في مناقشة من استدل بهذه الروايات فهو: ان التدبر فيها يقودنا الى أن محور التحريم ومصبّه هو الكذب وليس الهزل، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، ومن هنا يتضح وجه الإشكال على استدلال الشيخ ,فان الكذب قد يكون كذب هزل او كذب جدٍّ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان الهزل قد يكون كذبا وقد لا يكون كذلك وإنما يكون صدقا، وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وقد سبق ان العلاقة بين الكذب والصدق هي علاقة الضدين اللذين لهما ثالث – وهو الرأي المنصور – وذلك لان الإنسان عندما يهزل فقد يكون هزله – وكذا السخرية والمزاح – صادقا مطابقاً للواقع وتارة أخرى يكون كاذبا في هزله، وتارة أخرى لا هذا ولا ذاك، ونذكر مثالين لتوضيح القسم الثالث (الهزل الذي ليس بصدق ولا كذب): أ- الحركات أو الأصوات أو الأقوال الهزلية لشخص يقوم بحركات مضحكة فان هذا هزل ولكنه ليس بكذب إذ لم يضِّمن حركاته الحكاية بالمرة، ب- وهناك صورة أقوى وهي مورد ابتلاء عادة وهي ما لو تكلم الشخص بكلام هزلي غير قاصد لمعناه فهنا يوجد شقان وصورتان:
أ- أن يقيم القرينة على ذلك (وانه هازل)
ب- ألا يقيم القرينة على ذلك
الكذب الهزلي مع القرينة ليس بكذب إلا مجازاً
فلو تكلم وأقام القرينة على انه هازل فانه ليس بكذب وذلك كمن دعا شخصا الى مأدبة ولما حضر لم يجد فيها – لظرفٍ ما - إلا خبزاً وملحاً، قال له المضيف: تفضل إلى هذه المائدة العامرة كنوع من الملاطفة والمزاح فهل يعتبر هذا عرفاً كذباً؟ والجواب: لا؛ لأنه أقام القرينة المقامية او الحالية على تجريد اللفظ عن مدلوله الحقيقي، فهذا الخبر وان كان بما هو هو مخالفا للواقع لكنه ليس بكذب([5])
وتحقيق ذلك ان الخبر هو القول المطابق او اللامطابق للواقع ولكن مع مكتنفاته، فان الخبر والقول يلاحظ مع قرائنه ومحتفّاته فيقال هذا صادق وذاك كاذب بلحاظ المجموع، لا انه يلاحظ بدون القرينة، فلو لوحظ معها فليس بكاذب([6])
وبعبارة أخرى: ان الصدق هو مطابقة ظاهر الكلام ظهورا أوليا او ثانويا للواقع والكذب بعكسه، والقرينة لو كانت متصلة فإنها ستخل بالظهور الأولي للكلام وسينعقد له ظهور ثانوي، وأما لو كانت القرينة منفصلة فإنها ستخل بالظهور الثانوي للكلام في بُعد الإرادة الجدية دون الاستعمالية وعليه: فان من يقول لشخص هذا فيلسوف الزمان ونابغته تنقيصا منه او مزاحا او هزلا فحيث انه قد أقام القرينة المقامية لذلك فان الظهور الأولي للكلام حيث لم ينعقد أو انعقد وأعرض عنه، فليس مدار الصدق والكذب إذن واما الظهور الثانوي لكلامه فلم يخالف الواقع بل قد يقال أُلم يطابقه أيضاً([7])
وعلى أية حال فانه يكفي في مورد كلامنا – وهو مادة الافتراق – ان لا يكون الهزل مع قيام القرينة كذبا([8])
وبتعبير آخر: عندما نقول (الكذب الهزلي) يتعارض لدينا هذان الوصفان في مورد الافتراق وسوف نجد لدى التدبر وبالرجوع الى تعريف الكذب ان إطلاق الكذب عليه([9]) مجاز فهو هزل وليس بكذب وإنما أطلق عليه ذلك بلحاظ الظهور الأولي المعرض عنه وحيث أقيمت القرينة على خلافه ثبت الظهور الثانوي والذي هو كونه هزلاً فلا كذب
وبتعبير آخر: الكذب هناك مع إقامة القرينة خارج موضوعاً عن الكذب.
والخلاصة: لا يمكن الاستناد على الروايات المذكورة لإثبات حرمة الكذب الهزلي مطلقا([10])، وعليه فلا يستدل على تحريمه بما ذكر من الروايات ذلك ان محورها هو الكذب دون الهزل. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) وهذا الدليل لم يطرح ونحن نذكره فتأمل.
([2]) فان الكلام قد يكون في مقام التنقيص والاستهزاء او السخرية وقد يكون في مقام الهزل او المزاح، مما يكشف بالقرائن.
([3]) وتوجد روايات أخرى وردت عادة في غرر الحكم ولكن النهي فيها تنزيهي او إرشادي ظاهرا ولعله سنشير إليها لاحقا
([4]) وسند هذه الروايات سيأتي لاحقا وإنما كلامنا في الدلالة الآن
([5]) كما ليس بصدق لأن الفرض عدم مطابقته للواقع.
([6]) وقد يعلل ذلك بانه إنشاء للهزل أو المزاح وليس إخباراً بالمرة. وسيأتي تحقيقه
([7]) فتأمل إذ مفاد الظهور الثانوي هو الإخبار عن عكس الظهور الأولي اي الإخبار في الأمثلة السابقة في المتن عن انه جاهل أو الإخبار عن ان المائدة متواضعة، فان طابق فصدق وإلا فكذب فتدبر، وعلى أي فمادة الافتراق هي الظهور الأولي واما الظهور الثانوي فان عليه: ليس هذا الكذب الهزلي، كذباً إلا مجازاً فلا تشمله الإطلاقات.
([8]) وإن لم نقل بوجود القسيم الثالث: ما ليس بصدق ولا كذب.
([9]) اي في خصوص ما لو أقام قرينة – وهذا هو مورد الكلام.
([10]) أي حتى وإن أقام قرينة الهزل.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |