بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(7)
إشكال وجواب عن لغوية الجعل للأكثر
لا يقال: ان الالتزام بأن الموضوع له في الكر المعتصم هو ألف غرام لكن الشارع تنزيلاً اعتبر الـ 950 غراماً معتصماً أيضاً تسهيلاً على العباد، غير صحيح؛ إذ ما هي ثمرة الجعل الأولي (ألف غرام) حينئذٍ مع وجود الجعل التنزيلي الأعم (الشامل لـ 950 غرام)، فإننا وإن أجبنا بذلك، وبالجعل التنزيلي، عن مفسدة الإغراء بالجهل، لكن يبقى انه ما هي مصلحة الجعل الحقيقي الأول (وهو ألف غرام)؟ فالجعل الحقيقي الأول لغو؟[1]
إذ يقال: لا يخلو إما أن نقول بالحقيقة الشرعية في الكر ونظائره[2] أو لا نقول:
فعلى الثاني، فإن الإشكال من الخلط بين الموضوع والحكم إذ اننا لا نقول بأن الشارع جعل لفظ الكر للألف غرام ثم جعله لـ 950 غراماً، بل سبق أن الكر، موضوعاً، ليس من مجعولات الشارع ولا حقيقة شرعية فيه، بل هو باقٍ على معناه اللغوي أو العرفي، وقد كان الكر مكيال أهل العراق قديماً[3].
وعليه: فالكر، عنوان موضوع للحقيقة المنبسطة، على ما سبق، والمعتصم تكويناً، على الفرض الأول، هو ما يعادل ألف غرام، لكن الشارع لمصلحة التسهيل يعتبر الـ 950 غرام معتصماً أيضاً أو فقل ينزله منزلة المعتصم.
والحاصل: ليس هنالك جعلان كي يقال أن الجعل الأول (الحقيقي) لغو بل جعل واحد للحكم (وهو المعتصمية) على موضوع ذي مرتبتين.
وبعبارة أخرى: انه بالمعنى الاسم المصدري وبلحاظ المآل الـ 950 معتصم، لكن فقه الحديث والتحليل، بعد الالتزام بعدم الحقيقة الشرعية وبعد جعل الشارع الحكم على الموضوع المشكك، يقود إلى أن الألف معتصم تكويني غير جعلي والـ 950 معتصم تنزيلي وجعلي فقوله (عليه السلام) ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ))[4] يعني، حسب هذا الفرض: ان ما بلغ ألف غرام لا ينجسه شيءً تكويناً، وأما 950 فلا ينجسه شيء تنزيلاً[5].
ويلاحظ أن الكلام في دفع ورود الإشكال العقلي على جعل ما هو مردد بين الأقل والأكثر عاصماً، وقد ظهر من الجواب أن الأقل مجعول عاصماً تشريعاً والأكثر مجعول عاصماً تكويناً فعبّر الشارع عن مجموعهما بـ ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ...)) وليس الكلام عن عالم الإثبات والظهور، على انه يكفي فيه نفس جعل موضوع الحكم، الوجود التشكيكي.
وعلى الأول (وتسليم ان عنوان الكر مجعول شرعاً) نقول: لا مانع من جعله الحكم على الوجود المنبسط المردد بين الأقل والأكثر، ولا تلزم اللغوية إذ:
أ- لم نقل انه جعل الحكم أولاً على الأكثر ثم جعل على الأقل لتلزم لغوية الجعل الأول، بل جعل على الوجود المنبسط (الشامل للأقل والأكثر) بجعل واحد.
ب- سلّمنا لكنه ليس بلغو أيضاً إذ قد يكون الجعلان المتتاليان لمصلحة، أو مصالح ومنها: إلفات العبد إلى فضله وكرمه حيث انه جعل أولاً العاصمية، للحد الأعلى، لكونه كذلك واقعاً، ثم جعل العاصمية للحد الأدنى تنزيلاً تخفيفاً وتسهيلاً وتفضلاً.
لا يقال: فيلزم النسخ؟
إذ يقال: كلا، لأن لكل ملاكاً ووجهاً ومنشأً، فالثاني ليس نافياً للأول بل يزيد عليه.
وإن شئت قلت: إن الأول إخبار وليس جعلاً تشريعياً أصلاً، فإنه إخبار عن طهورية الكر (ذي الحد الأعلى) ومعتصميته تكويناً، والثاني: إنشاء للطهورية التنزيلية الاعتبارية[6] فلا مجال لتوهم النسخ.
لا يقال: على الفرض الثاني (الكر مجعول للأقل) فما معنى كون الأكثر مستحباً أو أحوط؟.
إذ يقال: لا إشكال فيه لأنه أكثر طهورية، وسيأتي إثبات مشككية الطهورية كمشككية النجاسة، سواء الحدثية أم الخبثية.
والحاصل: الأقل طهور، والأكثر (الحد الأعلى) أفضل وأحب للشارع لأنه أكثر طهورية، فالكر، بما هو حقيقة منبسطة تشكيكية جعل موضوعاً للمطهرية (مثلاً المرة منه تكفي للتطهير من البول) فالمرتبة الأدنى منه مطهر شرعاً والمرتبة الأعلى أفضل وأطهر.
ويقرّبه إلى الذهن، استحباب نضح الكنائس وشبهها، وما ذهب إليه مشهور من تأخر عن العلامة من عدم انفعال البئر وأن الأمر بنزح البئر إنما هو للتنزيه أو للاستحباب، فمع انه ليس بنجس إلا انه يستحب تنزهاً، فكذا المقام: مع أن الحد الأدنى من الكر مطهّر (وما غسل به ليس بنجس) إلا انه يستحب تطهيره بالكر (أي الحد الأعلى منه).
وعلى أية حال فالإشكال مشترك الورود، إذ يرد أيضاً على من ارتضى أن متوسط الأشبار مثلاً، هو الكر وهو الموضوع للمعتصم، مع ان متوسطها مختلف، فإن جعل الأقل موضوع الحكم كان الأكثر[7] لغواً، أو نسخاً أو أكثر كان الأقل إغراء بالجهل... إلخ والجواب الجواب.
أدلة أخرى على المسامحة العرفية:
الشارع عرف
والمستظهر من كلمات السيد العم (دام ظله) انه يرى مرجعية العرف في تسامحاته.
قال: (وقد يستدلّ للثاني: بأنّ الشارع عرفٌ في أوامره و نواهيه، وكما انّه ألقى إليهم المفاهيم كذلك أوكل إليهم المصاديق، فما يكون العرف حجّة فيه في المفاهيم، يكون مثله في المصاديق)[8].
إن قلت: ان قوله: (وكما...) قياسٌ وحكمٌ من غير دليل؛ إذ مرجعية العرف في المفاهيم مستندها قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِه} (سورة إبراهيم: الآية 4)، عكس المرجعية في المصاديق؛ إذ التطبيقات العرفية ليست لساناً بل غاية الأمر هي عمل؟
قلت: برهانه هو ما صدّر به كلامه إذ قال: (بأن الشارع عرف) إذ تتشكل بذلك صغرى وكبرى:
أما الصغرى فهي (أن الشارع عرف) بل هو سيدهم إذ {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (سورة الكهف: الآية 110)، و{وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الْأَسْواقِ} (سورة الفرقان: الآية 7)، و{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِه} (سورة إبراهيم: الآية 4)، فهو (صلى الله عليه وآله) من العرف[9] تكويناً وفعلاً ولساناً، وخروجه عن كونه عرفاً هو المحتاج إلى الدليل.
وأما الكبرى فهي: (والعرف يحكم على حسب ما يفهمه من الكلام كما يقوم بتطبيق ما يفهمه على المصاديق) فإن شأن العرف ذلك؛ ألا ترى أن المولى إذا قال له: (جئني بعالم) جاء له بمن يراه عالماً واكتفي به في مقام الإطاعة والامتثال؟ فقد حكم في المفهوم والمصداق. وسيأتي مزيد إيضاح.
لا تفكيك بين التسامح المفهومي والمصداقي
وقال: (أقول: العرف عرف بما له من شدّة المسامحات في المفهوم والمصداق جميعاً، فانّ مسامحاته غير منحصرة بالمصاديق، بل يعمّ تحديد المفاهيم، فإن عمّمنا الإشكال للمفاهيم أيضاً لم يستقرّ لنا شيء، وإن خصّصناه بالمصاديق فلا فارق)[10]، فقد وسّع الدائرة إلى حجية مسامحاته الشديدة أيضاً، وقوله (بل يعم المفاهيم) يوضحه أن العرف قد يتسامح في (الدم) مثلاً فيقول بأن الذرات غير المرئية من الدم ليست بدم لكنه إذا أري في المكرسكوب (المجهر) مثلاً، فقد ينقلب تشخيصه فيقول هو دم، (وهنا يطرح سؤال وهو: ان رأيه قبل الانقلاب هو الحجة أم بعده؟ - سيأتي لاحقاً).
والشاهد انه قد يوسع مفهوماً أو يضيق فيقول الدم مفهوماً ليس إلا ما كان له جِرم أو يوسّع فيقول الدم المجهري دم وقد لا يوسع لكنه في التطبيق يتسامح[11].
لكنّ الكلام، كما سبق، في انه لو وسّع مفهوماً لما كان مسامحة، نعم لو لم يوسع ومع ذلك بنى على ان إرادة الأعم من الدم فهو تسامح ومجاز، وكما لا يصح تسامحه في مصاديق موضوعات أحكام الشارع لا يصح تسامحه في مفاهيم موضوعاته.
وعليه: فإن وجه استدلاله (مد ظله) هو أن العرف مادام يتسامح في المفاهيم فيجب إما القول بحجيته في مسامحاته مطلقاً (المفهومية والمصداقية) أو القول بعدمها مطلقاً، أما التفصيل فلا وجه له[12].
وقد ظهر وسيظهر وجه التفصيل مما مضى (وسياتي) بأنحاء ومنها: انه إن وسع في المفهوم بالوضع التعيّني وكان ذلك زمن الشارع بحيث أصبح عرفاً عاماً نُزِّل كلام الشارع عليه، وكذا إن ارتأى ذلك بنحو الحقيقة الادعائية وكانت عرفاً عاماً وإلا فلا يحمل كلام الشارع عليه مادام مجازاً إلا إذا كانت معه القرينة (فكما الأمر في كلامه، كذلك في كلام الشارع) وان تسامحه فيها غير مغتفر إلا إذا كان لغفلة عامة حظيت بإمضاء الشارع، وسيأتي تفصيله والمختار فانتظر.
وقال: (لا يترك الاحتياط بجعل الدم حيضاً في مثل نقص ساعة ونحوها عن الثلاثة أيام، مما يعتبر ثلاثة حقيقية عند العرف وإن لم تكن عند الدقة العقلية، هذا إذا لم تطمئن هي – ولو تعبّداً بإخبار أهل الخبرة – بكون الدم حيضاً، وإلا فلا يبعد الحكم بالحيضية في الأقل بساعة ونحوها، دون يوم أو يومين مثلاً)[13].
ولعل مرجع قوله (ثلاثة حقيقية عند العرف) إلى الاستدلال بصحة الحمل وعدم صحة السلب والصدق بالحمل الشائع حقيقة عند العرف، ثم المرجع، لديه، أهل الخبرة لا الدقة العقلية.
المرجع العقل أو العرف أو أهل الخبرة أو المكلف نفسه؟
لا يقال: مادام الشارع قد صب حكمه على عنوان، فالعنوان بدقته العقلية هو المرجع فمتى انطبق العنوان بحسب العقل دقةً ترتب عليه الحكم فمن أين يقال بأن المرجع في الانطباق هو العرف أو أهل الخبرة؟
إذ يقال: المحتملات أربعة: الثلاثة المذكورة بإضافة أن المرجع المكلف نفسه كما سيأتي، وكل من قال بأحدها عليه إقامة الدليل، ودعوى أن المرجع العقل مصادرة كدعوى أنه أهل الخبرة أو العرف أو الشخص نفسه، إلا بدليل.
والحاصل: ان الشارع جعل حكمه على موضوع خاص، لكن من الذي يشخّص انطباق هذا الموضوع على هذا المصداق؟ المحتملات أربعة فعلى كل مدعٍ إقامة الدليل، ولا يصح إفراد مدعي مرجعية العرف بمطالبته بالدليل، دون مدعي سائر القسائم.
وقال: (وموضوعاً أيضاً لدى العرف الّذي هو المرجع في تفسير التبيّن وبيان مصاديقه دون أن يلزم مع ذلك حصول العلم بمؤدّاها)[14]، فإن قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} (سورة الحجرات: آية 6)، يرجع فيه إلى العرف مفهوماً ومصداقاً، والسيرة على ذلك شاهدة.
القول المختار:
والمختار يتلخص في الأمور التالية:
أولاً: ان هنالك عناوين ثلاثة يصلح كل منها أو يحتمل أن يكون هو المعتبر والمرجع في تطبيقات عناوين موضوعات أحكام الشارع وهي: الدقة العقلية، والدقة العرفية، والتسامح العرفي.
والمستظهر أن الدقة العرفية عليها المدار وبها الاعتبار، وهي منحصرة بما بين الحدين من الوجودات المنبسطة مفهوماً بما لها من سعة تنطبق على مصاديق مختلفة فإن أريد بالتسامح هذا المعنى، فهو صحيح على انه تسامح في التعبير عنه بالتسامح.
وأما التسامح العرفي مصداقاً في خارج دائرة الحدين فلا ولو كان غراماً أقل من الكر (الذي كان موسعاً فيما بين الحدين لكنه مضيّق خارجها) أو حتى لو كان سنتميتراً خارج حدي الفرسخ الأعلى والأدنى، وان ذلك لكذلك إلا في صورة غفلة العرف عنه وجريه عليه، وبعبارة أخرى: ما يتسامح العرف فيه وهو غافل عن كونه مسامحة إما لتوهمه أعمية عنوان الموضوع منه أو أخصيته أو لتوهمه كون مصب الحكم على الأعم أو الأخص، فإنه ممضى شرعاً؛ لما سبق[15].
دون ما لو التفت إلى انه مسامحة وانه خارج عن حد الموضوع له، لكنه مع ذلك تسامح فيه من باب اللامبالاة والعمد، نعم لو بنى على الحقيقة الادعائية وكان ذلك بمرأى من الشرع وسمعه فإنه إمضاء أيضاً.
وعليه: فلا الدقة العقلية هي المدار، ولا التسامح العرفي الناشئ من اللامبالاة بل الدقة العرفية فيما بين الحدين، ويلحق بها ما خرج عنهما بالشرط السابق.
وإلى مرجعية الدقة العرفية ذهب السيد السبزواري (قدس سره) في المهذب.
كما نقل عن السيد المحقق الداماد (قدس سره) القول بالتفصيل بين صورة غفلة العرف عن كونه مسامحة وجريه عليه، فهو ممضى لعموم الابتلاء به وكون عدم بيانه نقضاً للفرض، عكس صورة توجهه إلى كونه مسامحة لكنه بنى عليه لأنه ارتأى عدم أهمية المتعلق[16] أو لقياسه غيره عليه، فإن تسامحه ليس مغتفراً، ووجهه: ما سبق من أن المتعلقات على ثلاث أنحاء: الذهب والحطب والحنطة، فالأول لا يتسامحون فيه أصلاً والثاني يتسامحون فيه جداً والثالث بينهما، وحيث أن متعلقات أحكام الشارع مهمة جداً إذ هي كالذهب بل وأغلى[17]، فإن العرف الملتفت لو تسامح فإن تسامحه إنما ينشأ عن اللامبالاة فليس بمغتفر أصلاً.
أقول: لو فرض كون ذلك بمرأى من الشارع ومسمع ومع ذلك سكت فإن إطلاقه المقامي وسكوته إمضاء[18].
ويمكن التمثيل للاحتمالات الثلاثة بـ (التغير) ففي صحيحة محمد بن مسلم في قوله (عليه السلام): ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ))[19]، وفي صحيحة زرارة: ((إِلَّا أَنْ يَجِيءَ لَهُ رِيحٌ يَغْلِبُ عَلَى رِيحِ الْمَاءِ))[20]، وفي رواية الصفار: ((وَجِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ مِنَ الْكُرِّ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغَيُّرٌ أَوْ رِيحٌ غَالِبَةٌ، قُلْتُ: فَمَا التَّغَيُّرُ: قَالَ الصُّفْرَةُ، فَتَوَضَّأْ مِنْهُ وَكُلُّ مَا غَلَبَ [عَلَيْهِ] كَثْرَةُ الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ))[21].
فإن التغير[22] يحتمل أن يراد به التغير العقلي الدقي، ويحتمل أن يراد به التغير العرفي الدقي ويحتمل أن يراد به التغير العرفي المسامحي، كما يحتمل أن يراد به التغير الشرعي والأخير غير محتمل إذ لا حقيقة شرعية في التغير، والعقلي مما لا يحتمله العرف الملقى إليه الكلام.
مثال آخر: التصرف في المغصوب، فإنه إذا كان هنالك حوض كبير وكانت احدى أحجاره مغصوبة فإن الاغتراف منه للوضوء أو الشرب أو غيرهما، تصرف في الحجر المغصوب بالدقة العقلية، لتأثير تموجات الماء عليه، لكنه ليس تصرفاً فيه بالمسامحة العرفية بل ولا بالدقة العرفية إلا إذا كان التموج شديداً.
والدليل على مرجعية العرف، والدقة العرفية، ان العرف هو الملقى إليه الكلام خِطاباً وفهماً، وانه المتعلق له حكماً والمراد منه الامتثال عملاً، وهو المصب له ثواباً وعقاباً، فهو المرجع مفهوماً ومصداقاً، لكن هذا يصلح دليلاً على مرجعية الشخص والمكلف نفسه كما سيأتي بيان ذلك وتفصيله إذا يسّر الله تعالى.
إضافة إلى جريان سيرة العرف على تطبيق الكبريات على الصغريات حسبما يرونه من الدقة العرفية لا العقلية ولا المسامحية اللامبالاتية.
الإطلاق المقامي
تنبيه: سبق (والفرق بين الإطلاقين أن الإطلاق اللفظي يستند على اللفظ، أما المقامي فلا يوجد فيه لفظ بل إنما يكتشف الإطلاق من كونه في مقام بيان مطلوبه وما له دخل في غرضه ومع ذلك لم يذكر مفطراً آخر في المفطرات أو المضمضة مثلاً في الوضوء، ولعله يأتي مزيد بيان)[23].
وبعبارة أخرى: الإطلاق اللفظي مصبه قيود الموضوع أي قيود موضوع الحكم فينفيها الإطلاق، أما الإطلاق المقامي فمصبّه قسائم الموضوع أي الموضوعات الأخرى الأجنبية عن الموضوع، وكذا ما يحتمل كونه جزءاً للموضوع[24].
بيانه بمثال واضح: انه إذا قال (أكرم الشاعر) أفاد الإطلاق اللفظي نفي وجود أي قيد للموضوع فلا يشترط في ثبوت الحكم بـ (أكرم) للشاعر كونه عادلاً أو نجفياً أو فقيهاً، وهذه كلها قيود للموضوع (الشاعر العادل النجفي... إلخ) فتُنفى كل القيود بالإطلاق، وانّه لو كان شيء منها مشترطاً في ثبوت حكمه عليه لقيّد به وإلا كان ناقضاً لغرضه مغرياً بالجهل.
ولكنّ قوله (أكرم الشاعر) لا ينفي وجوب إكرام (الفقيه) إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه كما ليس للوصف مفهوم، إلا إذا كان هنالك إطلاق مقامي.
والإطلاق المقامي يتحقق في صورتين:
الأولى: ان يكون في مقام الحصر، فمقامه هو النافي لثبوت الحكم لغير الشاعر وذلك كما لو قال (المفطرات هي ثلاثة أو أربعة...)[25] ولم يَزِد فإنّ المقام حيث كان مقام الحصر، أمكننا أن ننفي بذلك كون التدخين مفطراً إلا لو دل دليل آخر، كاخبار غبار الدقيق أو الكنس.
الثانية: لو كان العرف، لغفلته وجهله، قد بنى مثلاً على التلازم بين وجوب إكرام الشاعر وإكرام الفقيه، بحيث كان مبناه، ولو لقياس خفي، انه كلما أمر الشاعر بإكرام الشارع فقد أمر بالأولوية بإكرام الفقيه، فإذا كان ذلك التلازم مما بنى عليه العرف، فإذا قال الشارع (أكرم الشاعر) ولم ينبّه على عدم التلازم أو لم يصرح بعدم وجوب إكرام الفقيه، فإن سكوته إمضاء لما تلقاه العرف من التلازم.
وفي المقام: لو وجدنا العرف العام بانياً على التسامح في التطبيق جهلاً ولغفلة أي انه بنى على توسعة موضوع الحكم أو تضييقه بحسب غفلته، ومع ذلك سكت الشارع عنه ولم يردع فإن ذلك دالّ على الإمضاء؛ نظراً لعموم الابتلاء وعموم الغفلة مع ضميمة أن الشارع حكيم يريد تحقق أغراضه ولا يريد إهمالها مع قدرته على البيان من دون حرج ولا عسر.
والحاصل: أن الشارع مادام شأنه التصدي لبيان ما يحقق أغراضه أو يمنعها فإن عليه البيان لو رأى عموم الغفلة، فعدمه دليل العدم، بالبرهان الإنّي.
أسئلة:
- فكّر في مصالح أخرى لصدور جعلين من الشارع (للأقل وللأكثر).
- ناقش نظرية (الشارع عرف) وانه يتحرك في هذا الإطار خاصة.
- ابحث عن أدلة للاحتمالات الأربعة في موضوعات أحكام الشارع: مرجعية العرف العام، مرجعية العرف الخاص (أهل الخبرة) مرجعية المكلف نفسه، مرجعية العقل أو الدقة العقلية.
- أوضح وجه الفرق بين مسامحة العرف مع غفلته، ومسامحته مع علمه والتفاته، وايهما معتبر شرعاً؟
- اذكر خمسة أمثلة للإطلاق المقامي.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ وَفِي قُدْرَتِهِ)) (الكافي: ج2 ص55)
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
-------------------------------------
[1] أشار إلى الإشكال الآنف بعض الأفاضل الكرام.
[2] كالفرسخ والرطل....
[3] قال في الجواهر: (وربما يؤيده أيضاً ما قيل: ان الكر في الأصل كان مكيال أهل العراق، وانهم (عليهم السلام) قد رّوا بالكر من جهة أن مخاطبهم كان من أهل العراق، وموافقته لصحيحة محمد بن مسلم* عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((والكر ستمائة رطل)) لعدم القائل بمضمونها فتحمل على الأرطال المكية لان الرطلين العراقيين رطل مكي، على أن محمد بن مسلم طائفي كما قيل وهي من قرى مكة، مع انه قد روى هذه الرواية أيضا ابن أبي عمير قال: روي عن عبد الله بن المغيرة يرفعه الى أبي عبد الله عليه السلام ((ان الكر ستمائة رطل))، مع أنه راوي الرواية الأولى) (جواهر الكلام: ج1 ص341)، وهو الظاهر وإن احتمل غيره، قال: (ومقدار ما يسعه الكر في ذلك الوقت، أو أن المراد بالكر ذلك وإن لم يسعه المكيال المعروف، وضعاً شرعياً أو مجازاً، ألف ومائتا رطل إجماعاً منقولاً بل محصلاً وسنة بالعراقي) (جواهر الكلام: ج1 ص339).
* الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.
[4] تهذيب الأحكام: ج1 ص150.
[5] ولا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ إذ استعمل في الجامع الاعتباري، على ان استعماله في الأكثر من معنى لا على أن يكون تمام الموضوع له، ممكن، كما حققناه في محله.
[6] يلاحظ أيضاً أن الكلام في عالم الثبوت ودفع الإشكال هنالك لا عالم الظهورات...
[7] لفرض ان الأشبار المتوسطة مشككة ذات عرض عريض.
[8] السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول، ج7 ص228.
[9] أي من الناس الملقى منهم وإليهم الكلام.
[10] السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول، ج7 ص230.
[11] فيقول مثلاً الدم وإن عمّ مفهوماً ما له جرم وما ليس له، لكنني أتسامح في المصداق وأقول مضيّقاً: انه ليس دماً.
[12] سبقت المناقشة ببيان وجه الفرق وسبب مرجعية العرف في المفهوم دون المصداق، وسبق وسيأتي ما فيه.
[13] العروة الوثقى: ج1 ص248.
[14] السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الفقه في شرح العروة الوثقى (الاجتهاد والتقليد): ج3 ص78.
[15] من عموم الابتلاء به.. إلخ.
[16] أي المضاف إليه الكيلو مثلاً (كيلو حطب.. كيلو ذهب...).
[17] لكون الكلام في الواجبات والمحرمات وموضوعات أحكام الشارع الإلزامية.
[18] حتى في غير ما علق الشارع حكمه على موضوع عرفي يتناوله العرف بالتشخيص انه مهم كالذهب أو لا كالحطب، فهو المرجع، وذلك كمتعلق النذر، فتدبر.
[19] تهذيب الأحكام: ج1 ص150.
[20] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص2.
[21] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام): قم: ج1 ص162.
[22] وكذا غلبة الريح.
[23] الدرس (1026/ 6).
[24] مما يدور أمره بين الداخل والخارج كالمضمضة للوضوء، فإنه على فرض كونه داخلاً جزء ولا يطلق عليه انه قيد إلا بتعمّل.
[25] مثلاً روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ مَا صَنَعَ إِذَا اجْتَنَبَ أَرْبَعَ خِصَالٍ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنِّسَاءَ وَالِارْتِمَاسَ فِي الْمَاءِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج2 ص107).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(7)
لا يقال: ان الالتزام بأن الموضوع له في الكر المعتصم هو ألف غرام لكن الشارع تنزيلاً اعتبر الـ 950 غراماً معتصماً أيضاً تسهيلاً على العباد، غير صحيح؛ إذ ما هي ثمرة الجعل الأولي (ألف غرام) حينئذٍ مع وجود الجعل التنزيلي الأعم (الشامل لـ 950 غرام)، فإننا وإن أجبنا بذلك، وبالجعل التنزيلي، عن مفسدة الإغراء بالجهل، لكن يبقى انه ما هي مصلحة الجعل الحقيقي الأول (وهو ألف غرام)؟ فالجعل الحقيقي الأول لغو؟[1]
إذ يقال: لا يخلو إما أن نقول بالحقيقة الشرعية في الكر ونظائره[2] أو لا نقول:
فعلى الثاني، فإن الإشكال من الخلط بين الموضوع والحكم إذ اننا لا نقول بأن الشارع جعل لفظ الكر للألف غرام ثم جعله لـ 950 غراماً، بل سبق أن الكر، موضوعاً، ليس من مجعولات الشارع ولا حقيقة شرعية فيه، بل هو باقٍ على معناه اللغوي أو العرفي، وقد كان الكر مكيال أهل العراق قديماً[3].
وعليه: فالكر، عنوان موضوع للحقيقة المنبسطة، على ما سبق، والمعتصم تكويناً، على الفرض الأول، هو ما يعادل ألف غرام، لكن الشارع لمصلحة التسهيل يعتبر الـ 950 غرام معتصماً أيضاً أو فقل ينزله منزلة المعتصم.
والحاصل: ليس هنالك جعلان كي يقال أن الجعل الأول (الحقيقي) لغو بل جعل واحد للحكم (وهو المعتصمية) على موضوع ذي مرتبتين.
وبعبارة أخرى: انه بالمعنى الاسم المصدري وبلحاظ المآل الـ 950 معتصم، لكن فقه الحديث والتحليل، بعد الالتزام بعدم الحقيقة الشرعية وبعد جعل الشارع الحكم على الموضوع المشكك، يقود إلى أن الألف معتصم تكويني غير جعلي والـ 950 معتصم تنزيلي وجعلي فقوله (عليه السلام) ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ))[4] يعني، حسب هذا الفرض: ان ما بلغ ألف غرام لا ينجسه شيءً تكويناً، وأما 950 فلا ينجسه شيء تنزيلاً[5].
ويلاحظ أن الكلام في دفع ورود الإشكال العقلي على جعل ما هو مردد بين الأقل والأكثر عاصماً، وقد ظهر من الجواب أن الأقل مجعول عاصماً تشريعاً والأكثر مجعول عاصماً تكويناً فعبّر الشارع عن مجموعهما بـ ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ...)) وليس الكلام عن عالم الإثبات والظهور، على انه يكفي فيه نفس جعل موضوع الحكم، الوجود التشكيكي.
وعلى الأول (وتسليم ان عنوان الكر مجعول شرعاً) نقول: لا مانع من جعله الحكم على الوجود المنبسط المردد بين الأقل والأكثر، ولا تلزم اللغوية إذ:
أ- لم نقل انه جعل الحكم أولاً على الأكثر ثم جعل على الأقل لتلزم لغوية الجعل الأول، بل جعل على الوجود المنبسط (الشامل للأقل والأكثر) بجعل واحد.
ب- سلّمنا لكنه ليس بلغو أيضاً إذ قد يكون الجعلان المتتاليان لمصلحة، أو مصالح ومنها: إلفات العبد إلى فضله وكرمه حيث انه جعل أولاً العاصمية، للحد الأعلى، لكونه كذلك واقعاً، ثم جعل العاصمية للحد الأدنى تنزيلاً تخفيفاً وتسهيلاً وتفضلاً.
لا يقال: فيلزم النسخ؟
إذ يقال: كلا، لأن لكل ملاكاً ووجهاً ومنشأً، فالثاني ليس نافياً للأول بل يزيد عليه.
وإن شئت قلت: إن الأول إخبار وليس جعلاً تشريعياً أصلاً، فإنه إخبار عن طهورية الكر (ذي الحد الأعلى) ومعتصميته تكويناً، والثاني: إنشاء للطهورية التنزيلية الاعتبارية[6] فلا مجال لتوهم النسخ.
لا يقال: على الفرض الثاني (الكر مجعول للأقل) فما معنى كون الأكثر مستحباً أو أحوط؟.
إذ يقال: لا إشكال فيه لأنه أكثر طهورية، وسيأتي إثبات مشككية الطهورية كمشككية النجاسة، سواء الحدثية أم الخبثية.
والحاصل: الأقل طهور، والأكثر (الحد الأعلى) أفضل وأحب للشارع لأنه أكثر طهورية، فالكر، بما هو حقيقة منبسطة تشكيكية جعل موضوعاً للمطهرية (مثلاً المرة منه تكفي للتطهير من البول) فالمرتبة الأدنى منه مطهر شرعاً والمرتبة الأعلى أفضل وأطهر.
ويقرّبه إلى الذهن، استحباب نضح الكنائس وشبهها، وما ذهب إليه مشهور من تأخر عن العلامة من عدم انفعال البئر وأن الأمر بنزح البئر إنما هو للتنزيه أو للاستحباب، فمع انه ليس بنجس إلا انه يستحب تنزهاً، فكذا المقام: مع أن الحد الأدنى من الكر مطهّر (وما غسل به ليس بنجس) إلا انه يستحب تطهيره بالكر (أي الحد الأعلى منه).
وعلى أية حال فالإشكال مشترك الورود، إذ يرد أيضاً على من ارتضى أن متوسط الأشبار مثلاً، هو الكر وهو الموضوع للمعتصم، مع ان متوسطها مختلف، فإن جعل الأقل موضوع الحكم كان الأكثر[7] لغواً، أو نسخاً أو أكثر كان الأقل إغراء بالجهل... إلخ والجواب الجواب.
الشارع عرف
والمستظهر من كلمات السيد العم (دام ظله) انه يرى مرجعية العرف في تسامحاته.
قال: (وقد يستدلّ للثاني: بأنّ الشارع عرفٌ في أوامره و نواهيه، وكما انّه ألقى إليهم المفاهيم كذلك أوكل إليهم المصاديق، فما يكون العرف حجّة فيه في المفاهيم، يكون مثله في المصاديق)[8].
إن قلت: ان قوله: (وكما...) قياسٌ وحكمٌ من غير دليل؛ إذ مرجعية العرف في المفاهيم مستندها قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِه} (سورة إبراهيم: الآية 4)، عكس المرجعية في المصاديق؛ إذ التطبيقات العرفية ليست لساناً بل غاية الأمر هي عمل؟
قلت: برهانه هو ما صدّر به كلامه إذ قال: (بأن الشارع عرف) إذ تتشكل بذلك صغرى وكبرى:
أما الصغرى فهي (أن الشارع عرف) بل هو سيدهم إذ {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (سورة الكهف: الآية 110)، و{وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الْأَسْواقِ} (سورة الفرقان: الآية 7)، و{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِه} (سورة إبراهيم: الآية 4)، فهو (صلى الله عليه وآله) من العرف[9] تكويناً وفعلاً ولساناً، وخروجه عن كونه عرفاً هو المحتاج إلى الدليل.
وأما الكبرى فهي: (والعرف يحكم على حسب ما يفهمه من الكلام كما يقوم بتطبيق ما يفهمه على المصاديق) فإن شأن العرف ذلك؛ ألا ترى أن المولى إذا قال له: (جئني بعالم) جاء له بمن يراه عالماً واكتفي به في مقام الإطاعة والامتثال؟ فقد حكم في المفهوم والمصداق. وسيأتي مزيد إيضاح.
وقال: (أقول: العرف عرف بما له من شدّة المسامحات في المفهوم والمصداق جميعاً، فانّ مسامحاته غير منحصرة بالمصاديق، بل يعمّ تحديد المفاهيم، فإن عمّمنا الإشكال للمفاهيم أيضاً لم يستقرّ لنا شيء، وإن خصّصناه بالمصاديق فلا فارق)[10]، فقد وسّع الدائرة إلى حجية مسامحاته الشديدة أيضاً، وقوله (بل يعم المفاهيم) يوضحه أن العرف قد يتسامح في (الدم) مثلاً فيقول بأن الذرات غير المرئية من الدم ليست بدم لكنه إذا أري في المكرسكوب (المجهر) مثلاً، فقد ينقلب تشخيصه فيقول هو دم، (وهنا يطرح سؤال وهو: ان رأيه قبل الانقلاب هو الحجة أم بعده؟ - سيأتي لاحقاً).
والشاهد انه قد يوسع مفهوماً أو يضيق فيقول الدم مفهوماً ليس إلا ما كان له جِرم أو يوسّع فيقول الدم المجهري دم وقد لا يوسع لكنه في التطبيق يتسامح[11].
لكنّ الكلام، كما سبق، في انه لو وسّع مفهوماً لما كان مسامحة، نعم لو لم يوسع ومع ذلك بنى على ان إرادة الأعم من الدم فهو تسامح ومجاز، وكما لا يصح تسامحه في مصاديق موضوعات أحكام الشارع لا يصح تسامحه في مفاهيم موضوعاته.
وعليه: فإن وجه استدلاله (مد ظله) هو أن العرف مادام يتسامح في المفاهيم فيجب إما القول بحجيته في مسامحاته مطلقاً (المفهومية والمصداقية) أو القول بعدمها مطلقاً، أما التفصيل فلا وجه له[12].
وقد ظهر وسيظهر وجه التفصيل مما مضى (وسياتي) بأنحاء ومنها: انه إن وسع في المفهوم بالوضع التعيّني وكان ذلك زمن الشارع بحيث أصبح عرفاً عاماً نُزِّل كلام الشارع عليه، وكذا إن ارتأى ذلك بنحو الحقيقة الادعائية وكانت عرفاً عاماً وإلا فلا يحمل كلام الشارع عليه مادام مجازاً إلا إذا كانت معه القرينة (فكما الأمر في كلامه، كذلك في كلام الشارع) وان تسامحه فيها غير مغتفر إلا إذا كان لغفلة عامة حظيت بإمضاء الشارع، وسيأتي تفصيله والمختار فانتظر.
وقال: (لا يترك الاحتياط بجعل الدم حيضاً في مثل نقص ساعة ونحوها عن الثلاثة أيام، مما يعتبر ثلاثة حقيقية عند العرف وإن لم تكن عند الدقة العقلية، هذا إذا لم تطمئن هي – ولو تعبّداً بإخبار أهل الخبرة – بكون الدم حيضاً، وإلا فلا يبعد الحكم بالحيضية في الأقل بساعة ونحوها، دون يوم أو يومين مثلاً)[13].
ولعل مرجع قوله (ثلاثة حقيقية عند العرف) إلى الاستدلال بصحة الحمل وعدم صحة السلب والصدق بالحمل الشائع حقيقة عند العرف، ثم المرجع، لديه، أهل الخبرة لا الدقة العقلية.
لا يقال: مادام الشارع قد صب حكمه على عنوان، فالعنوان بدقته العقلية هو المرجع فمتى انطبق العنوان بحسب العقل دقةً ترتب عليه الحكم فمن أين يقال بأن المرجع في الانطباق هو العرف أو أهل الخبرة؟
إذ يقال: المحتملات أربعة: الثلاثة المذكورة بإضافة أن المرجع المكلف نفسه كما سيأتي، وكل من قال بأحدها عليه إقامة الدليل، ودعوى أن المرجع العقل مصادرة كدعوى أنه أهل الخبرة أو العرف أو الشخص نفسه، إلا بدليل.
والحاصل: ان الشارع جعل حكمه على موضوع خاص، لكن من الذي يشخّص انطباق هذا الموضوع على هذا المصداق؟ المحتملات أربعة فعلى كل مدعٍ إقامة الدليل، ولا يصح إفراد مدعي مرجعية العرف بمطالبته بالدليل، دون مدعي سائر القسائم.
وقال: (وموضوعاً أيضاً لدى العرف الّذي هو المرجع في تفسير التبيّن وبيان مصاديقه دون أن يلزم مع ذلك حصول العلم بمؤدّاها)[14]، فإن قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} (سورة الحجرات: آية 6)، يرجع فيه إلى العرف مفهوماً ومصداقاً، والسيرة على ذلك شاهدة.
والمختار يتلخص في الأمور التالية:
أولاً: ان هنالك عناوين ثلاثة يصلح كل منها أو يحتمل أن يكون هو المعتبر والمرجع في تطبيقات عناوين موضوعات أحكام الشارع وهي: الدقة العقلية، والدقة العرفية، والتسامح العرفي.
والمستظهر أن الدقة العرفية عليها المدار وبها الاعتبار، وهي منحصرة بما بين الحدين من الوجودات المنبسطة مفهوماً بما لها من سعة تنطبق على مصاديق مختلفة فإن أريد بالتسامح هذا المعنى، فهو صحيح على انه تسامح في التعبير عنه بالتسامح.
وأما التسامح العرفي مصداقاً في خارج دائرة الحدين فلا ولو كان غراماً أقل من الكر (الذي كان موسعاً فيما بين الحدين لكنه مضيّق خارجها) أو حتى لو كان سنتميتراً خارج حدي الفرسخ الأعلى والأدنى، وان ذلك لكذلك إلا في صورة غفلة العرف عنه وجريه عليه، وبعبارة أخرى: ما يتسامح العرف فيه وهو غافل عن كونه مسامحة إما لتوهمه أعمية عنوان الموضوع منه أو أخصيته أو لتوهمه كون مصب الحكم على الأعم أو الأخص، فإنه ممضى شرعاً؛ لما سبق[15].
دون ما لو التفت إلى انه مسامحة وانه خارج عن حد الموضوع له، لكنه مع ذلك تسامح فيه من باب اللامبالاة والعمد، نعم لو بنى على الحقيقة الادعائية وكان ذلك بمرأى من الشرع وسمعه فإنه إمضاء أيضاً.
وعليه: فلا الدقة العقلية هي المدار، ولا التسامح العرفي الناشئ من اللامبالاة بل الدقة العرفية فيما بين الحدين، ويلحق بها ما خرج عنهما بالشرط السابق.
وإلى مرجعية الدقة العرفية ذهب السيد السبزواري (قدس سره) في المهذب.
كما نقل عن السيد المحقق الداماد (قدس سره) القول بالتفصيل بين صورة غفلة العرف عن كونه مسامحة وجريه عليه، فهو ممضى لعموم الابتلاء به وكون عدم بيانه نقضاً للفرض، عكس صورة توجهه إلى كونه مسامحة لكنه بنى عليه لأنه ارتأى عدم أهمية المتعلق[16] أو لقياسه غيره عليه، فإن تسامحه ليس مغتفراً، ووجهه: ما سبق من أن المتعلقات على ثلاث أنحاء: الذهب والحطب والحنطة، فالأول لا يتسامحون فيه أصلاً والثاني يتسامحون فيه جداً والثالث بينهما، وحيث أن متعلقات أحكام الشارع مهمة جداً إذ هي كالذهب بل وأغلى[17]، فإن العرف الملتفت لو تسامح فإن تسامحه إنما ينشأ عن اللامبالاة فليس بمغتفر أصلاً.
ويمكن التمثيل للاحتمالات الثلاثة بـ (التغير) ففي صحيحة محمد بن مسلم في قوله (عليه السلام): ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ))[19]، وفي صحيحة زرارة: ((إِلَّا أَنْ يَجِيءَ لَهُ رِيحٌ يَغْلِبُ عَلَى رِيحِ الْمَاءِ))[20]، وفي رواية الصفار: ((وَجِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ مِنَ الْكُرِّ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغَيُّرٌ أَوْ رِيحٌ غَالِبَةٌ، قُلْتُ: فَمَا التَّغَيُّرُ: قَالَ الصُّفْرَةُ، فَتَوَضَّأْ مِنْهُ وَكُلُّ مَا غَلَبَ [عَلَيْهِ] كَثْرَةُ الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ))[21].
فإن التغير[22] يحتمل أن يراد به التغير العقلي الدقي، ويحتمل أن يراد به التغير العرفي الدقي ويحتمل أن يراد به التغير العرفي المسامحي، كما يحتمل أن يراد به التغير الشرعي والأخير غير محتمل إذ لا حقيقة شرعية في التغير، والعقلي مما لا يحتمله العرف الملقى إليه الكلام.
مثال آخر: التصرف في المغصوب، فإنه إذا كان هنالك حوض كبير وكانت احدى أحجاره مغصوبة فإن الاغتراف منه للوضوء أو الشرب أو غيرهما، تصرف في الحجر المغصوب بالدقة العقلية، لتأثير تموجات الماء عليه، لكنه ليس تصرفاً فيه بالمسامحة العرفية بل ولا بالدقة العرفية إلا إذا كان التموج شديداً.
والدليل على مرجعية العرف، والدقة العرفية، ان العرف هو الملقى إليه الكلام خِطاباً وفهماً، وانه المتعلق له حكماً والمراد منه الامتثال عملاً، وهو المصب له ثواباً وعقاباً، فهو المرجع مفهوماً ومصداقاً، لكن هذا يصلح دليلاً على مرجعية الشخص والمكلف نفسه كما سيأتي بيان ذلك وتفصيله إذا يسّر الله تعالى.
إضافة إلى جريان سيرة العرف على تطبيق الكبريات على الصغريات حسبما يرونه من الدقة العرفية لا العقلية ولا المسامحية اللامبالاتية.
تنبيه: سبق (والفرق بين الإطلاقين أن الإطلاق اللفظي يستند على اللفظ، أما المقامي فلا يوجد فيه لفظ بل إنما يكتشف الإطلاق من كونه في مقام بيان مطلوبه وما له دخل في غرضه ومع ذلك لم يذكر مفطراً آخر في المفطرات أو المضمضة مثلاً في الوضوء، ولعله يأتي مزيد بيان)[23].
وبعبارة أخرى: الإطلاق اللفظي مصبه قيود الموضوع أي قيود موضوع الحكم فينفيها الإطلاق، أما الإطلاق المقامي فمصبّه قسائم الموضوع أي الموضوعات الأخرى الأجنبية عن الموضوع، وكذا ما يحتمل كونه جزءاً للموضوع[24].
بيانه بمثال واضح: انه إذا قال (أكرم الشاعر) أفاد الإطلاق اللفظي نفي وجود أي قيد للموضوع فلا يشترط في ثبوت الحكم بـ (أكرم) للشاعر كونه عادلاً أو نجفياً أو فقيهاً، وهذه كلها قيود للموضوع (الشاعر العادل النجفي... إلخ) فتُنفى كل القيود بالإطلاق، وانّه لو كان شيء منها مشترطاً في ثبوت حكمه عليه لقيّد به وإلا كان ناقضاً لغرضه مغرياً بالجهل.
ولكنّ قوله (أكرم الشاعر) لا ينفي وجوب إكرام (الفقيه) إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه كما ليس للوصف مفهوم، إلا إذا كان هنالك إطلاق مقامي.
الأولى: ان يكون في مقام الحصر، فمقامه هو النافي لثبوت الحكم لغير الشاعر وذلك كما لو قال (المفطرات هي ثلاثة أو أربعة...)[25] ولم يَزِد فإنّ المقام حيث كان مقام الحصر، أمكننا أن ننفي بذلك كون التدخين مفطراً إلا لو دل دليل آخر، كاخبار غبار الدقيق أو الكنس.
الثانية: لو كان العرف، لغفلته وجهله، قد بنى مثلاً على التلازم بين وجوب إكرام الشاعر وإكرام الفقيه، بحيث كان مبناه، ولو لقياس خفي، انه كلما أمر الشاعر بإكرام الشارع فقد أمر بالأولوية بإكرام الفقيه، فإذا كان ذلك التلازم مما بنى عليه العرف، فإذا قال الشارع (أكرم الشاعر) ولم ينبّه على عدم التلازم أو لم يصرح بعدم وجوب إكرام الفقيه، فإن سكوته إمضاء لما تلقاه العرف من التلازم.
وفي المقام: لو وجدنا العرف العام بانياً على التسامح في التطبيق جهلاً ولغفلة أي انه بنى على توسعة موضوع الحكم أو تضييقه بحسب غفلته، ومع ذلك سكت الشارع عنه ولم يردع فإن ذلك دالّ على الإمضاء؛ نظراً لعموم الابتلاء وعموم الغفلة مع ضميمة أن الشارع حكيم يريد تحقق أغراضه ولا يريد إهمالها مع قدرته على البيان من دون حرج ولا عسر.
والحاصل: أن الشارع مادام شأنه التصدي لبيان ما يحقق أغراضه أو يمنعها فإن عليه البيان لو رأى عموم الغفلة، فعدمه دليل العدم، بالبرهان الإنّي.
أسئلة:
- فكّر في مصالح أخرى لصدور جعلين من الشارع (للأقل وللأكثر).
- ناقش نظرية (الشارع عرف) وانه يتحرك في هذا الإطار خاصة.
- ابحث عن أدلة للاحتمالات الأربعة في موضوعات أحكام الشارع: مرجعية العرف العام، مرجعية العرف الخاص (أهل الخبرة) مرجعية المكلف نفسه، مرجعية العقل أو الدقة العقلية.
- أوضح وجه الفرق بين مسامحة العرف مع غفلته، ومسامحته مع علمه والتفاته، وايهما معتبر شرعاً؟
- اذكر خمسة أمثلة للإطلاق المقامي.
-------------------------------------
[1] أشار إلى الإشكال الآنف بعض الأفاضل الكرام.
[2] كالفرسخ والرطل....
[3] قال في الجواهر: (وربما يؤيده أيضاً ما قيل: ان الكر في الأصل كان مكيال أهل العراق، وانهم (عليهم السلام) قد رّوا بالكر من جهة أن مخاطبهم كان من أهل العراق، وموافقته لصحيحة محمد بن مسلم* عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((والكر ستمائة رطل)) لعدم القائل بمضمونها فتحمل على الأرطال المكية لان الرطلين العراقيين رطل مكي، على أن محمد بن مسلم طائفي كما قيل وهي من قرى مكة، مع انه قد روى هذه الرواية أيضا ابن أبي عمير قال: روي عن عبد الله بن المغيرة يرفعه الى أبي عبد الله عليه السلام ((ان الكر ستمائة رطل))، مع أنه راوي الرواية الأولى) (جواهر الكلام: ج1 ص341)، وهو الظاهر وإن احتمل غيره، قال: (ومقدار ما يسعه الكر في ذلك الوقت، أو أن المراد بالكر ذلك وإن لم يسعه المكيال المعروف، وضعاً شرعياً أو مجازاً، ألف ومائتا رطل إجماعاً منقولاً بل محصلاً وسنة بالعراقي) (جواهر الكلام: ج1 ص339).
* الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.
[4] تهذيب الأحكام: ج1 ص150.
[5] ولا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ إذ استعمل في الجامع الاعتباري، على ان استعماله في الأكثر من معنى لا على أن يكون تمام الموضوع له، ممكن، كما حققناه في محله.
[6] يلاحظ أيضاً أن الكلام في عالم الثبوت ودفع الإشكال هنالك لا عالم الظهورات...
[7] لفرض ان الأشبار المتوسطة مشككة ذات عرض عريض.
[8] السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول، ج7 ص228.
[9] أي من الناس الملقى منهم وإليهم الكلام.
[10] السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الأصول، ج7 ص230.
[11] فيقول مثلاً الدم وإن عمّ مفهوماً ما له جرم وما ليس له، لكنني أتسامح في المصداق وأقول مضيّقاً: انه ليس دماً.
[12] سبقت المناقشة ببيان وجه الفرق وسبب مرجعية العرف في المفهوم دون المصداق، وسبق وسيأتي ما فيه.
[13] العروة الوثقى: ج1 ص248.
[14] السيد صادق الحسيني الشيرازي، بيان الفقه في شرح العروة الوثقى (الاجتهاد والتقليد): ج3 ص78.
[15] من عموم الابتلاء به.. إلخ.
[16] أي المضاف إليه الكيلو مثلاً (كيلو حطب.. كيلو ذهب...).
[17] لكون الكلام في الواجبات والمحرمات وموضوعات أحكام الشارع الإلزامية.
[18] حتى في غير ما علق الشارع حكمه على موضوع عرفي يتناوله العرف بالتشخيص انه مهم كالذهب أو لا كالحطب، فهو المرجع، وذلك كمتعلق النذر، فتدبر.
[19] تهذيب الأحكام: ج1 ص150.
[20] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص2.
[21] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام): قم: ج1 ص162.
[22] وكذا غلبة الريح.
[23] الدرس (1026/ 6).
[24] مما يدور أمره بين الداخل والخارج كالمضمضة للوضوء، فإنه على فرض كونه داخلاً جزء ولا يطلق عليه انه قيد إلا بتعمّل.
[25] مثلاً روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ مَا صَنَعَ إِذَا اجْتَنَبَ أَرْبَعَ خِصَالٍ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنِّسَاءَ وَالِارْتِمَاسَ فِي الْمَاءِ)) (من لا يحضره الفقيه: ج2 ص107).