648- تحقيق في كون المصلحة في الإنشاء والحكم دون المتعلق (مناقشة آراء الآخوند والنائيني و...)
الاحد 12 شعبان 1444هــ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(648)
الدليل على رأي الآخوند: قيام المصلحة في الحكم
سبق أنّ المحقق الخراساني وتبعه المحقق العراقي وآخرين، ارتأوا أن المصلحة قد تكون في الإنشاء والحكم لا المتعلَّق. قال الآخوند: (فاجتماع حكمين وأنّ كان يلزم، إلّا إنّهما ليسا بمثلين أو ضدّين، لأنّ احدهما طريقيٌّ عن مصلحةٍ في نفسه موجبة لإِنشائه الموجب للتنجّز، أو لصحة الاعتذار بمجرّده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلّقةٍ بمتعلّقه فيما يمكن هناك انقداحهما)([1]) (والآخر واقعيٌّ حقيقيٌّ عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، موجبة لإِرادته أو كراهته، الموجبة لإِنشائه بعثاً أو زجراً في بعضٍ المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ كما أشرنا ـ)([2]).
وقد استدل المحقق العراقي على ذلك (وما أفيد أيضاً: من عدم معقولية المصلحة في نفس الأمر إنما يصح في الأوامر الغير الطريقية، وإلا ففي الأوامر الطريقية إنما المصلحة في نفسها في فرض مخالفتها، وفي هذا الفرض لا يكون مفادها إلا ترخيصاً على خلاف الواقع. وقيام المصلحة في نفس الترخيص على خلاف المرام بملاحظة الصبر على المكروه، إمكانه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار)([3]).
والحاصل: أن المصلحة في الأوامر النفسية، كوجوب الصلاة، قائمة بالمتعلق لا بالأمر، وأما في الأوامر الطريقية، كوجوب إتباع خبر الثقة، فالمصلحة في صورة مخالفة الطريق للواقع، قائمة، في الأمر نفسه إذ الأمر بالطريق في صورة مخالفته للواقع يعني الترخيص في مخالفة الواقع فكيف تكون مصلحة الواقع هي ملاك الأمر بإتباع خبر الثقة مع انه في صورة المخالفة مفوِّت له؟.
واستدل السيد الخوئي بـ(أمّا من ناحية المبدأ، فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس جعل الحكم لا في متعلقه، كما في الحكم الواقعي، فلا يلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة والمفسدة، أو وجود المصلحة وعدمه، أو وجود المفسدة وعدمه في شيء واحد، إذ الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في متعلقاتها، والأحكام الظاهرية ليست تابعةً لما في متعلقاتها من المصالح بل تابعة للمصالح في أنفسها، فانّها مجعولة في ظرف الشك في وجود المصلحة الواقعية، وقد لا تكون مصلحة في المتعلق واقعاً، فكيف يمكن أن تكون تابعةً للمصالح الواقعية في المتعلقات. ففي موارد الاحتياط - كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص - جعل وجوب الاحتياط لمصلحةٍ في نفس الاحتياط - وهي التحفظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها، والتحذر عن الوقوع في المفسدة الواقعية أحياناً، وفي موارد الترخيص - كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص، أو في الشبهة الموضوعية مطلقاً - جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة، وهي التسهيل على المكلفين)([4]).
أقول: دعوى قيام المصلحة بنفس الحكم لا بالمؤدى، في الأوامر الطريقية، صحيحة لما ذكر من عدم قيام المصلحة بالمؤدى في الأوامر (ومطلق الأحكام الظاهرية) خلافاً للمشهور.
لا يقال: المصلحة ليست قائمة بالحكم نفسه وإن لم تقم بالمؤدى بل هي قائمة بالمحكوم عليه وهو المخاطب أي المكلف؛ فانها مصلحة التسهيل وهي قائمة به وهي التي اقتضت إنشاء الحكم الظاهري والأمر الظاهري، وليست المصلحة فيه بل المصلحة للمكلف حيثية تعليلية لجعل الحكم لا لقيامها به.
إذ يقال: التسهيل أمر قائم بجعل حكم الإباحة وإن كان متعلَّقه المكلف. فتأمل. إذ هو قائم بالمجعول([5]) لا الجعل. فتأمل
إطلاقات الحكم الظاهري
تنبيه: الحكم الظاهري له إطلاقات، والأدلة التي ساقها المحقق الخراساني واتباعه، جارية فيها بأجمعها في صورة المخالفة: الأصول العملية، كحديث الرفع، والقواعد الفقهية كقاعدة اليد والسوق وغيبة المسلم، والأمارات على الموضوعات كالبيّنة والإقرار، والحجج على الأحكام كخبر الثقة والظواهر، والجزم أو القطع غير المطابق للواقع، فإن الحكم فيها بأجمعها (سواء أكان حكماً بالطريق أي بحجيته كالبيّنة وخبر الثقة أم حكماً بالقاعدة أي بمضمونها كالسوق واليد أم غير ذلك كالحكم برفع ما شك فيه مما لم يعلم) حكم ظاهري والمصلحة، في صورة المخالفة ليست قائمة بالواقع، بل بالإنشاء أو الحكم نفسه على رأي الآخوند.
الرد عليه: مصلحة الحكم الظاهري نفس مصلحة الحكم الواقعي
ولكن في مقابل ذلك ذهب بعض الأعلام إلى عدم صحة دعوى المحقق الخراساني (قيام المصلحة بالحكم أو بجعل الحكم)([6]) وأن الصحيح هو انه حتى في الأحكام الظاهرية فان المصلحة قائمة بالواقع والمؤدى لا بجعل الحكم لاستحالة قيام المصلحة بالجعل.
واستدل بعضهم على قيام المصلحة بالمتعلق حتى في الحكم الظاهري، بـ(أن الحرمة الواقعية لها ملاك اقتضائي وهو المفسدة والمبغوضية القائمة بفعل المكلف، وكذا الحال في الوجوب، أما ملاك الإباحة فهو أحياناً اقتضائي وأحياناً لا اقتضائي لأن الإباحة قد تنشأ من فقدان الملاك في الأمر المباح.
(أقول: اللااقتضائي فيما لو لم يكن في المباح مصلحة ولا مفسدة لذا يكون مباحاً قهراً إذ لا مقتضي للوجوب أو الاستحباب أو الحرمة أو الكراهة، والاقتضائي ما كان فيه ملاك الحرمة أي المفسدة البالغة وملاك الوجوب اي المصلحة البالغة لكنهما تكافئا فحيث تكاسرا فيحكم بالإباحة حينئذٍ لوجود مقتضيها وهو تكافؤ الملاكين).
وعليه: اذا اختلط المباح بالمحرم (في سوق المسلمين مثلاً أو فيما عليه أياديهم) فان هذا الاختلاط لا يسبب تغيير الأغراض والملاكات والمبادئ في الأحكام الواقعية، فلا المباح يصير مبغوضاً نتيجة عدم قدرة المكلف على تشخيصه ولا الحرام يسقط عن المبغوضية لأن المكلف لم يمكنه تمييزه عن المباح، بل الحرام باق على حرمته الواقعية ولا توجد فيه غير مبادئ الحرمة وكذا المباح باقٍ على إباحته الواقعية ولا توجد فيه غير مبادئ الإباحة.
وحينئذٍ: فإن المولى حين توجهه إلى المكلَّف الذي اختلط عليه المباح بالمحرم، يلاحظ درجة اهتمامه بالمحرمات والمباحات فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهم، فانه يبيح حينئذٍ الاقتحام في المحتملات، فإذا كان ما اقتحم فيه محرماً فان إباحة المولى له لا تنافيه لأن إباحته لم تنشأ من الملاك في نفس المتعلق (المحرم واقعاً إذ المفروض ان ملاكه الذي فيه هو المفسدة) بل من ملاك المباح الواقعي واهتمامه البالغ بالمحافظة عليه، وإذا كان ملاك المحرم الواقعي أهم، فانه لأجل هذا الأهم يمنع سائر المحتملات.
إذاً: الأحكام الظاهرية خطابات تعيّن وتحدد الملاكات الواقعية الأهم)([7]).
المناقشات
ولكن هذا الاستدلال على حسب هذا النقل، غير تام:
لو تمّ هذا الوجه ففي الإباحة الإقتضائية
أولاً: لأن هذا الوجه حتى وإن تمّ فانه لا يشكل ردّاً على المحقق الخراساني، لأنه إنما يتم في الإباحة الإقتضائية لا في الإباحة اللاإقتضائية، كما اعترف به ضمناً، إذ في الإباحة اللااقتضائية لا يوجد ملاك أبداً كي يقال بان الشارع أباح حتى المحرم الواقعي تحفظاً على اقوائية ملاك الإباحة في المباح.
والحاصل: ان تخصيص الإشكال بالإباحة الإقتضائية لا يشكل رداً لمبنى المحقق الخراساني المدعي لكون الملاك في الجعل نفسه بل على العكس هو تأكيد له في موارد الإباحة اللااقتضائية مع نفيه في خصوص موارد الإباحة الاقتضائية.
بل لا يتم حتى في الإقتضائية
ثانياً: بل لا يتم هذا الإشكال حتى في الإباحة الاقتضائية إذ الإباحة الاقتضائية لا تكون إلا بعد تزاحم ملاك المفسدة والمصلحة في الشيء نفسه وتكافؤهما، وعليه يحدث الكسر والانكسار ويجهض كلٌّ من الملاكين مفعولَ الآخر فتتولد الإباحة من عدم اقوائية كل من الملاكين على الآخر فلا معنى لأن يجيز المولى الاقتحام في المحرم القطعي (في سوق المسلمين مثلاً) لأجل التحفظ على هذا الملاك الذي هو وإن كان بالمعنى المصدري اقتضائياً لكنه بالمعنى الاسم مصدري لا إقتضائي. فتأمل.
ملاك الحكم الظاهري مصلحة التسهيل، لا التحفظ على الإباحة الإقتضائية
ثالثاً: سلّمنا، ورفعنا اليد عن كلا الإشكالين السابقين، لكن ذلك الكلام بطوله غير مجد في دعوى كون ملاك الحكم الظاهري أمراً قائماً بالمتعلق (وان مصلحة الحكم الظاهري هي نفس مصلحة الحكم الواقعي)([8]) لما سبق في كلام العراقي والخوئي فتدبر فيهما.
وبعبارة أخرى: ان المباح الاقتضائي الواقعي حيث وجد فيه ملاكان متزاحمان وكانا متكافئين، لذا حكم الشارع فيه بالإباحة الواقعية فملاكها وجود ملاكين متزاحمين في المتعلق، فلا يعقل أن يكون هذا الملاك نفسه ملاك الإباحة الظاهرية، إذ الإباحة الظاهرية مقسم له ولما فيه المفسدة المحضة (إذ يحكم في الظاهر بإباحة كل ما في سوق المسلمين) فملاكها إنما هو التسهيل على المكلَّف، فإن طابقت المباح الواقعي تطابقت المصلحتان (مصلحة الإباحة الاقتضائية ومصلحة التسهيل) وإن خالفت بان انطبقت على المحرم الواقعي، انفردت مصلحة التسهيل على المكلَّف، بإباحته له، عن المصلحة الاقتضائية المتزاحمة إذ الفرض ان هذا المصداق لا توجد فيه مصلحة اقتضائية متزاحمة.
بعبارة أخرى: أباح الشارع المحرم الواقعي نظراً لملاك التسهيل حين الاشتباه، لا للتحفظ([9]) على ملاك المباح الواقعي وذلك هو المستفاد من الآيات والروايات كقوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (سورة البقرة: الآية 185) كما هو المفهوم عرفاً من أمثال تلك الأمارات.
وهذا الإشكال([10]) وارد على ما جاء في الحلقة الثالثة من: (وأما إذا كانت الإباحة الواقعية ذات ملاك اقتضائي، فهي تدعو - خلافا للحرمة - إلى الترخيص في كل ما يحتمل اباحته، لا لان كل ما يحتمل اباحته ففيه ملاك الإباحة، بل لضمان اطلاق العنان في المباحات الواقعية الموجودة ضمن محتملات الإباحة، فهو ترخيص ظاهري ناشئ عن الملاك الاقتضائي للمباحات الواقعية والحرص على تحقيقه. وفي هذه الحالة يَزِن المولى درجة اهتمامه بمحرماته ومباحاته، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى واهم رخّص في المحتملات، وهذا الترخيص سيشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي إذا كان محتمل الإباحة، وفي حالة شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته، لأنه لم ينشأ عن ملاك للإباحة في نفس متعلقه، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعية والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرمات الواقعية أهم، منع من الاقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الأهم)([11]) فتدبر.
* * *
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (مَنْ زَارَ أَخَاهُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ الْتِمَاسَ مَوْعِدِ اللَّهِ وَتَنَجُّزَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُنَادُونَهُ أَلَا طِبْتَ وَطَابَتْ لَكَ الْجَنَّةُ)(الكافي: ج2 ص175).
--------------------------------------
([1]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص41.
([4]) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مكتبة الداوري ـ قم: ج2 ص109-110.
([5]) والمجعول هو الحكم، لا المتعلَّق.
([8]) بحسب نص عبارة الناقل وهو موسوعة فقه أهل البيت (عليهم السلام).
([10]) الوارد في (وبعبارة أخرى) وما قبله أيضاً لكن بأدنى تغيير.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (مَنْ زَارَ أَخَاهُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ الْتِمَاسَ مَوْعِدِ اللَّهِ وَتَنَجُّزَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُنَادُونَهُ أَلَا طِبْتَ وَطَابَتْ لَكَ الْجَنَّةُ)(الكافي: ج2 ص175).