بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(601)
سبق جواب السيد القمي بـ(أقول: يرد عليه أولاً: إنّ الإهمال غير معقول في الواقع في الأحكام الشرعية ففي كل مورد يصدر فعل عن المكلف خطأً فاما يترتب عليه أثر ذلك الفعل في حكم الشارع واما لا يترتب ولا يمكن الإهمال، فنقول: لو أراد شخص بيع داره فقال: (بعت فرسي) خطأً لا يترتب عليه الأثر وبعبارة أخرى: الشارع الاقدس لا يرتب الأثر المرغوب على الخطأ بلا إشكال، وعليه: يستفاد من الحديث المذكور ان عمد الصبي كخطائه فكما لا يترتب على الخطاء أثر كذلك لا يترتب على عمد الصبي)([1]).
وقد يناقش كلامه بوجهين:
هل الإهمال في الواقع ممكن في الأحكام الشرعية؟
الأول: أن قوله (الإهمال غير معقول في الواقع في الأحكام الشرعية) غير تام؛ إن أراد من (غير معقول) الاستحالة الذاتية أو الوقوعية؛ إذ ينقض بتدرجية نزول الأحكام وأدل دليل على إمكان الشيء وقوعه، فعلى الرغم من القول: (ان الشيء إما حامل للمصلحة الملزمة فيوجبه أو للمفسدة الملزمة فيحرمه أو للراجح منهما فيحبّذه أو يكرهه أو لا فيبيحه (إباحة إقتضائية لو تزاحم ملاكا المصلحة والمفسدة وتكافئا، أو لا إقتضائية كما لو لم يكن له أي ملاك)([2]) إلا انه تعالى لم يشرِّع لها حكمها أي في مرحلة الواقع والثبوت لم يجعل حكماً لها على حسب ما تقتضيه، فإذا أمكن في زمنٍ، لجهةٍ ما، الإهمال ثبوتاً، أمكن في هذه الأزمنة في بعض الموارد كالمثال الذي ذكره فلا يصح قوله: (ففي كل مورد يصدر فعل عن المكلف خطأ فاما يترتب عليه أثر ذلك الفعل في حكم الشارع واما لا يترتب ولا يمكن الإهمال، فنقول: لو أراد شخص بيع داره فقال: بعت فرسي خطأ لا يترتب عليه الأثر).
نعم، الصحيح أن يقال: ان الإهمال غير واقع، لا انه غير ممكن؛ استناداً إلى مثل قوله (صلى الله عليه واله): ((وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ))([3]) وسائر الأدلة الدالة على انه ((مَا مِنْ حَادِثَةٍ إِلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ))([4]).
كما يرد على ما أوردناه من النقض بزمن التدريجية، انه لم يكن شيء من تلك الموضوعات، خالياً من الحكم ثبوتاً إذ كان حكمها الإباحة، ولكنه أعم من استحالة الإهمال؛ إذ غاية الأمر ان المصالح الثبوتية مقتضية لجعل الأحكام وليست علّة تامة، نعم خلافه خلاف الحكمة إذا توفرت الشرائط وانتفت الموانع فالاستحالة وقوعية، فتأمل.
هل حكم الملازم ثابت لملازمه؟
الثاني: ما سبق من (ولكن لو وجد عنوانان متلازمان وكان أحد المتلازمين حاملاً للمصلحة لأوجبه هو دون ملازمه إذ لو أوجبه أيضاً لزم جعل وجوبين وهو لغو ولو أوجب ملازمه دونه لزم ترجيح المرجوح)([5]) وتوضيحه بالمثال: ان الركوع ملازم (أو ملزوم) لتحريك الثوب الساتر له أو الهواء المجاور، لكن الركوع هو المحكوم بالوجوب دون تحريك الثوب وإن كان لازماً له، إذ إيجابه لغو لأن الإيجاب بغرض التحريك والفرض ان الركوع قد أوجب، أو يقال الإيجاب إنما هو للحامل للمصلحة والفرض انه (أي التحريك) ليس حاملاً لها بل مجرد لازم للحامل لها، وقد سبق: (وفي المقام: الأثر أثر عدم العمد أي عدم القصد، لا أثر الخطأ أي لو لم يقصد البيع بطل ولم يقع فهو العلة التامة للبطلان سواء ألاحظنا اجتماعه أو وحدته مع عنوان الخطأ أم لا.. والحاصل: ان الأثر لا يترتب، لا لأنه خطأ بل لأنه لا يوجد عمد وقصد)([6]) ولكلامه (قدس سره) تتمة فانتظر.
الجواب عن الإشكال: الخطأ مرآة للّاعمد
وأما الجواب المختار عن إشكال السيد الخوئي (قدس سره) فهو ان كلام الشارع ملقى إلى العرف، وهُمُ الحجة فيما يفهم منه إذ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)([7]) والعرف يرى وحدة معنيي ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([8]) و(عمده كلا عمد) أو فقل: انه يرى الجملة الأولى مرآة للجملة الثانية ويفهم منها ما يفهم منها([9]).
والواسطة واسطة في الثبوت
وبعبارة أخرى: يرى ان (اللاعمد) واسطة في ثبوت أحكامه لـ(الخطأ) لا واسطة في العروض، فأحكامه أحكامه، فقوله ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ)) حكم فيه بوحدة العمد مع الخطأ لا بما له من العنوان الخاص دقةً المغاير فلسفياً للّاعمد، كما سبق بيانه، بل بما هو قالب عرفاً للّاعمد فقوله (عمده خطأ) عرفاً يفيد نفس مفاد (عمده لا عمد) فيشمل العقود التي ليس للخطأ فيها حكم بل كانت الأحكام للعمد وكان نقيضها لنقيضه (أي اللاعمد).
والآيات الكريمة دليل وشاهد
ولئن شككت في ذلك فان مما يدل عليه الجري القرآني والروائي فانه على مرآتية الخطأ المذكور فيها للّاعمد، ويكفي قوله تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا...)([10]) إذ المراد مِن (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) مَن قتله لا عن عمد وليس المراد الخطأ بالمعنى الدقي الفلسفي السابق الذي هو أخص من اللاعمد، والشاهد انه على الرغم من ان حكم (فتحرير...) مرتب شرعاً واقعاً على القتل (لا عن عمد) وهو الأعم إلا انه في الآية الكريمة رُتِّب على (خطأ) وهو أخص فمن ذلك يظهر أ- ان الخطأ أخذ قالباً للاعمد، فقد جرى التعبير القرآني على الجري العرفي، ب- أو انه على الجري الفلسفي أخذ الأخص مرآة للأعم، فتدبر.
وكذلك الحال في صدر الآية الكريمة (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) إذ حسب الدقة الفلسفية المدعاة كان ينبغي القول (وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمناً إلا عن لا عمد) ليشمل مثل النائم والغافل قطعاً لأن قتله للغير فرضاً لو حصل فليس عمداً ولا خطأ كما سبق، بل هو لا عمد محض.
وكذلك قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)([11]) فان الحكم (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) مرتب على (اللاعمد) وليس على خصوص الخطأ بالمعنى الفلسفي الأخص المقابل له، لكن الصحيح ان الخطأ اعتبر قالباً للاعمد أو أخذ مرآة له هذا.
وسيأتي جواب آخر عن إشكال السيد الخوئي بل ربما نذكر ثلاثة أجوبة أخرى بحسب ما في المباني والعقد النضيد وغيرهما.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((لَيْسَ يَتْبَعُ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا ثَلَاثُ خِصَالٍ: صَدَقَةٌ أَجْرَاهَا فِي حَيَاتِهِ فَهِيَ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ، وَسُنَّةُ هُدًى سَنَّهَا فَهِيَ يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ)) (الكافي: ج7 ص56)
---------------------------------
([1]) السيد تقي الطباطبائي القمي، مباني منهاج الصالحين، منشورات قلم الشرق، ج8 ص303.
([3]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص74.
([8]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([9]) أي يفهم من الأولى نفس ما يفهم من الثانية.
([1]) السيد تقي الطباطبائي القمي، مباني منهاج الصالحين، منشورات قلم الشرق، ج8 ص303.