بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(110)
الكفاية: النتيجة مطلقة على الحكومة إذ لا إهمال في أحكام العقل
وقال في الكفاية: (فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدّمات إلّا على نحو الحكومة دون الكشف، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبة، لعدم تطرق الإِهمال والإِجمال في حكم العقل، كما لا يخفى.
أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها.
وأما بحسب الموارد، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية، إلّا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.
وأما بحسب المرتبة، فكذلك لا يستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف، إلّا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر)([1]).
المناقشة: الحق مع الرازي والنتيجة مهملة من حيث الأسباب
أقول: الظاهر أنَّ الحق - حتى على الحكومة - مع المحقق الرازي صاحب هداية المسترشدين ومن تبعه كالفصول والمحقق الهروي الذين ذهبوا إلى أنَّ نتيجة مقدمات الانسداد جزئيةٌ (أو مهملة، وسيأتي الفرق بينهما)، وأنَّ استدلال المحقق الخراساني على الإطلاق وعدم الإهمال غيرُ تام؛ وذلك:
1- لا إهمال إن أريد من الإهمال التردّد
أ- لأنَّه إن أراد من الإهمال في حكم العقل، التردّد، صحَّ ما ذكره، على المشهور لأن العقل إن أحرز تمام الملاك حكم جزماً، وإن لم يحرزه لم يحكم جزماً (فلا ترديد للعقل حتى يعلم الشيء في الجملة ولا يعلم خصوصياته فيتردد فيها بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين (كما لا يخفى) بأدنى تأمل)([2]).
وبعبارة أخرى: العقل حاكم في المستقلات العقلية جزماً لأنه محيط بكل جهاتها حتماً وأما غيره فلا يحكم فيها أبداً لأنه لا يحيط بها تماماً، ولكن هذا الإهمال ليس هو مقصود الرازي وسائر المحققين، لأنهم لا يرون العقل متردداً بل يقولون (لو فرض قولهم بالحكومة) :إنَّ العقل قاطع بأنَّ الظن الحاصل من الكتاب والسنَّة، على الانسداد، حجةٌ، كما هو قاطع بأنَّ الظن الحاصل من غيرهما ليس بحجة على الانسداد.
2- إن أريد منه الحكم الجزئي، فالإهمال ممكن
ب- وإن أراد من الإهمال الحكم الجزئي، ولو باعتبار ان المهملة بحكم الجزئية، أي أراد ان العقل لا يحكم بأحكام جزئية بل كل أحكامه كلية، وَرَدَ عليه:
أولاً: ان العقل كما يحكم بالأحكام الكلية يحكم بالأحكام الجزئية أي كما يحكم بالمسوَّرة بسور (كل) و(جميع) يحكم بالمسوَّرة بسور (بعض) وشبهه، فمن الأول: حُكمُهُ بحسن كل عدل وقبح كل ظلم وكذا وجوب الأول وحرمة الثاني (أو إدراكه لذلك على المبنى الآخر) ومن الثاني: حُكمُهُ بأنَّ بعض الصدق حسن وبعض الكذب قبيح، والحاصل: ان للعقل نوعين من الأحكام احدهما المسوَّرة بسور (كل) والآخر المسوَّرة بسور (بعض).
ثانياً: سلّمنا، لكن له ان يحكم على القضية بعد تقييدها بقيد، فتكون كلية بلحاظ صب الحكم على المقيّد بذلك القيد، فمثلاً يحكم بـ(إكرام الظالم المقوي له على ظلمه مع كونه لجهة ظلمه، قبيح مطلقاً) و(إكرام الظالم الموجب لانقلاعه عن ظلمه حسن مطلقاً) كما يحكم بـ(القصاص قبيح إذا أدّى إلى فتنة أكبر، مطلقاً) وهكذا.
بل سيأتي انه (قدس سره) التزم بعد أسطر بكلّيةِ القضية الانسدادية بعد تقييدها ببعض القيود، أو بالكلي المستثنى منه صنف معيّن.
3- وكذلك إن أريد منه المهملة بالمصطلح المنطقي
ج- وإن أراد من الإهمال (القضية المهملة) بالمصطلح المنطقي ورد عليه: انّ القضية المهملة متصورةٌ أيضاً في أحكام العقل بل هي أولى من تصور حكمه بنحو القضية الجزئية، ولكنها غير المهملة بمعنى ما تردد العقل فيه، توضيحه:
ان القضية الحملية تنقسم باعتبار موضوعها([3]) إلى شخصية وطبيعية ومهملة ومسوَّرة أو محصورة:
فالشخصية ما كان الحكم فيها على شيء خاص أي جزئي محدد كزيد ومكة، والعلوم عادة لا تتحدث عن القضايا الشخصية بل عن الكليات، كعلم الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والفلسفة والمنطق والأصول والفقه... الخ، نعم تستثنى من ذلك بعض العلوم التي يكون الحكم فيها على هذا الجزئي وذاك كالجغرافيا والفلك والتاريخ (عكس فلسفة التاريخ الذي موضوعه كلي) وكذلك علم الرجال وعلم الأنساب.
والطبيعية، هي ما كان الحكم فيه على الموضوع الكلي بما هو كلي من دون كونه ناظراً إلى الأفراد بل مع عدم صحة إرجاعه للأفراد كـ(الإنسان نوع)، وهو بهذا مما يلحق بالقضية الشخصية.
والمهملة([4])، والمراد بها ما انصبّ فيه الحكم على الحقيقة من حيث هي من غير لحاظ مصاديقها أي من دون ملاحظة كونها مسوّرة بسور (كل) أو (بعض)، أي مع قطع النظر عن كمية أفرادها فلا يتحدد فيها كونه بنحو الكل أو البعض، كما لو قال (تمرة خير من جرادة) صاباً همّه وعنايته على طبيعة التمرة، من غير سور (كل) ولا (بعض)، وكذا لو قال ( الإنسان في خسر) من غير ان يقصد من اللام فيها الاستغراق وإلا لكانت كلية ولا العهد الذهني الخاص أو الحضوري أو الذكري وإلا لكانت جزئية أو شخصية، بل قصد ان هذه الطبيعة بما هي كذلك، وذلك كلما لاحظ كون الموضوع مقتضياً للمحمول من دون ان يلاحظ التحقق وان الحكم ثابت لكل الأفراد أو بعضها، فالمهملة، بوجهٍ، مَقْسم للقضية الكلية والجزئية بمعنى انها تصلح لهما.
وأما الآية الكريمة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفي خُسْرٍ)([5]) فإن أريد من اللام الاستغراق كان الاستثناء اللاحق حقيقياً، ولم تكن من المهملة بل المسوّرة، وإن أريد من اللام العهد المراد به غير (إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا...) كان الاستثناء منفصلاً واقعاً وكانت القضية مسوّرة بكل أو بعض أو قد يراد الشخص وذلك بحسب نوع العهد، وإن أريد المقتضي فقط من غير عناية في هذه الجملة بإرادة الكل أو البعض ثم عُدِل في مرحلة الاستثناء إلى الأفراد، دخلت في المقام. فتأمل
والمسورة أو المحصورة وهي ما انصب فيها الحكم على الحكم بلحاظ أفراده بان حدد كمية الأفراد إما كُلّا فهي كلية وإما جزءاً فهي جزئية.
والكلية كـ(كل ممكن محتاج) و(كل ربا حرام) و(كل مثلث فان مجموع زواياه تساوي قائمتين).
والجزئية كـ: (وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)([6]) (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ)([7]) (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنينَ)([8]) (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)([9]).
المهملة بحكم الجزئية
ومنه اتضح ان المهملة ليست جزئية ولا كلية، بل هي بقوة الجزئية أي بحكمها لأن الجزئية هي القدر المتيقن منها، وقال بعضهم: (إنّ اللام إمّا أن يشار بها إلى نفس الحقيقة من حيث هي هي، من غير نظر إلى ما صدقت عليه من الأفراد، وإمّا أن يشار بها إليها من حيث الوجود، إمّا في ضمن جميع الأفراد أو البعض المعيّن أو الغير المعيّن، والأول: لام الحقيقة والجنس، والثاني: لام الاستغراق، والثالث: لام العهد الخارجي أو الذكريّ أو الحضوريّ، والرابع: لام العهد الذهنيّ.
فالموضوع في القضية إن كان معرّفاً بالأول كانت القضية طبيعية، كقولنا: (الإنسان حيوان ناطق)، أو بالثاني كانت كلّية، نحو (الإنسان حيوان) أي كلّ واحد واحد من أفراد الإنسان حيوان، أو بالثالث كانت شخصية، نحو (الإنسان قائم) أي الإنسان المعهود بين المتكلم والمخاطب، وكذا إن كان معرّفاً بالرابع، نحو (الإنسان قائم) حيث لا عهد في الخارج).
وللعقل عند الانسداد خياران
ومن ذلك كله يظهر: ان للعقل عند الانسداد خيارين:
الأول: ان يحكم بحجية الظن بنحو القضية المهملة، وذلك حيث لاحظ كون الظن في مقابل الوهم راجحاً وانه بطبعه يقتضي حسن إتباعه، مع قطع النظر عن أفراده وخصوصياتها وكونه عاماً أو لا، ولكنه ينتج قضية جزئية وهي حجية القدر المتيقن وهو خصوص الظنون الناشئة من الكتاب والسنَّة.
الثاني: ان يحكم بحجية الظن بنحو القضية الجزئية بأن يقول : بعض الظنون حجة، وله ان يصوغها بشكل قضية كلية بعد تقييد الظن بقيد معيّن كـ(كل ظنون الكتاب والسنَّة حجة).
تنبيه: الإهمال يراد به الإهمال الثبوتي والإجمال يراد به الإجمال الإثباتي، فالمتشابه واقعاً لو وجد، مهمل، والمتشابه ظاهراً (بحسب اللفظ) مجمل، لذا لا يوجد متشابه ثبوتي في القرآن بل المتشابه فيه إثباتي فقط.
وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ثَمَرَةُ الْمُحَاسَبَةِ صَلَاحُ النَّفْسِ))(غرر الحكم: ص236)
-------------------------
([1]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ج1 ص322.
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصول إلى كفاية الأصول، دار الحكمة ـ قم: ج4 ص164.
([3]) وباعتبار محمولها، مآلاً.
([4]) ولعلها تطابق (المطلق) بالمصطلح الأصولي ولكن قبل تمامية مقدمات الحكمة فيه.
([5]) سورة العصر: الآية 2.
([6]) سورة سبأ: الآية 13.
([7]) سورة الأنعام: الآية 116.
([8]) سورة يوسف: الآية 103.
([9]) سورة الحجرات: الآية 12.
-------------------------
([1]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ج1 ص322.
([2]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصول إلى كفاية الأصول، دار الحكمة ـ قم: ج4 ص164.
([3]) وباعتبار محمولها، مآلاً.
([4]) ولعلها تطابق (المطلق) بالمصطلح الأصولي ولكن قبل تمامية مقدمات الحكمة فيه.
([5]) سورة العصر: الآية 2.
([6]) سورة سبأ: الآية 13.
([7]) سورة الأنعام: الآية 116.
([8]) سورة يوسف: الآية 103.
([9]) سورة الحجرات: الآية 12.