بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام حول وجوب معرفة الله وما يرتبط بشؤون المبدأ والمعاد (عن نظر واجتهاد) وذلك استنادا الى وجوب دفع الضرر المحتمل اولا ووجوب ازالة الخوف عن المخوف ثانيا ووجوب شكر النعمة ثالثا وقد مضى بعض الحديث ، وذكرنا ان صاحب القوانين استدل على وجوب شكر النعمة بدليل تقدم ذكره وله دليل اخر سنذكره ونبين الفرق بين الدليلين لأنه قد يتوهم اتحادهما :
الدليل الثاني لوجوب شكر النعمة:هو انه لو لم يشكر المنعم لاحتمل ان يعاقبه المنعم اولا واحتمل ثانيا ان يسلب منه تلك النعمة فاذا كان هناك خوف ضرر فيجب على الإنسان دفعه بالشكر اذ بالشكر تدوم النعم كما في الرواية ونص عبارة صاحب القوانين(وايضا اذا راى العاقل نفسه مستغرقة بالنعم العظام) وفي قوله (العاقل) إشارة إلى إن محور هذا الدليل هو العقل ، فهناك عناية في قوله العاقل ولم يقل المكلف لأن كلامنا في الوجوب العقلي وليس في الوجوب الشرعي وظاهر كلمة المكلف تنصرف الى الشرعي وان كانت واقعا اعم (فانه يجوّز)اي يحتمل وهذا الاحتمال منجز(ان المنعم بها اراد منها الشكر عليها ،وان لم يشكرها يسلبها عنه فيحصل له خوف العقوبة ولا اقل من سلب تلك النعم) فاما ان يعاقبه المولى بعقاب اخر كأن يدخله السجن مثلا ،او ان يسلب تلك النعمة كما لو اعطاه مال فيسلبه اياه(ودفع الخوف عن النفس واجب مع القدرة) هذه الكبرى والصغرى : (وهو قادر على ذلك) بان يدفع خوف الضرر وزوال النعمة ، بان يعرف المنعم (وهو قادر على ذلك فلو تركه كان مستحقا للذم ووجوب شكر المنعم ووجوب ازالة الخوف لا يتم الا بمعرفة المنعم حتى يعرف مرتبته ليشكره على ما يستحقه)
وفرق هذا الوجه عن الاول بمقدماته الاربع الذي يقول فيه(يذمه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النعمة عنه ) بعد جامع ان كلا الوجهين يوجد فيه خوف سلب النعمة عنه فيجب دفع الضرر عن النفس هو –اي الفرق-: ان الوجه الاول يشير الى الموضوعية في شكر النعمة اما الوجه الثاني فيشير الى الطريقية في شكر النعمة والواقع الخارجي يشهد بذلك ، فهناك دليلان اذ تارة يقال شكر النعمة واجب في حد ذاته بقطع النظر عن اي امر اخر اي سواءا اكان ترك شكر النعمة سببا لسلب النعمة وخوف العقوبة او لا؟
وتارة يتم ارجاع شكر النعمة لدفع الضرر مما يعني ارجاع دليل عقلي الى دليل عقلي اخر وقد تقدم منا مناقشة السيد القمي في مباحث سابقة في ذلك فقد ارجع هذا لذاك وقد سبق انه غير تام
والحاصل : ان الوجه الثاني هو ان عدم شكر النعمة فيه خوف الضرر لذا يحرم عقلا لا لذاته وصاحب القوانين اشار للوجه الاول اي الموضوعية ثم اشار للطريقية ، فهما وجهان وكلاهما حجة .
وبعبارة اخرى : الوجه الاول : مفاده انه : يتم كلامه(حتى لو لم يخف العاقل سلب النعمة بالكفران ، لكان الواجب عليه شكر المنعم عليه نعمة جسيمة فحتى لو قطعت ان المولى يعفو عني او فرض في الموالي العرفية انه عاجز عن عقوبتي كما لو ان شخصا انعم على اخر وانقذه من الموت وبعد ذلك وصل المنعم عليه الى موقع الرئاسة مثلا وكان لا يخشى شيئا من المنعم عليه سابقا (البقال الفقير مثلا) لكن العقل يرى وجوب شكره على ما اسداه اليه من نعمة في قديم الايام ونص عبارته في الوجه الاول (ويذمه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النعمة عنه)اي لو لم يلتفت ويعترف يذعن بكونه منعما ولو لم يتقرب اليه بطاعته كما سبق ,اذن فنفس استحسان سلب النعمة عنه وان كان قاطعا بعدم العقوبة يعد ملاك الوجوب العقلي وهذا اشارة للجانب الموضوعي وهو الوجه الاول
اما الوجه الثاني فقد ارجع شكر النعمة لخوف الضرر حيث قال(فيحصل له خوف العقوبة ولا اقل من سلب تلك النعمة ، ودفع الخوف عن النفس واجب )فارجع الشكر للخوف اي لوجوب دفع الخوف ,هذا هو المبحث الاول في سلسلة كلامنا
المبحث الثاني :انه حتى الان استدللنا على وجوب المعرفة بانها اما مقدمة لشكر النعمة او هي المصداق الاجلى لشكر النعمة وقلنا انه لا مانعة جمع بينهما ، لكن يبقى الكلام في ان شكر النعمة يصلح دليلا على وجوب معرفة الله لكنه لا يصلح دليلا(بحسب كلام القوانين) على وجوب الاجتهاد اذ قد يقال:نعم ان شكر النعمة واجب ومصداق شكر النعمة او طريقهما (المعرفة) لكن المعرفة لا فرق فيها بين كونها عن اجتهاد او تقليد اذ كلاهما شكر للنعمة وبكل منهما يزول خوف الضرر ، فالمهم ان تعرف ان الله واحد مثلا ولا فرق بين كونها اجتهادا ام تقليدا ، اذن هذا الدليل لا يصلح دليلا على وجوب الاجتهاد الا بتتميم ، كما يقول القوانين ، لكن سيتضح ان لا حاجة للتميم ونص عبارة القوانين( والدليل الى هنا يثبت وجوب معرفة المنعم "اي اصل المعرفة"واما كيفية تحصيل المعرفة وانه هل يمكن فيه الركون الى قول العالم مثلا)"اي بالتقليد"(او يجب النظر فانما يتم لو الحقنا به ان التقليد لا يفيد الا ظنا اما الاجتهاد فهو الذي يفيد العلم )واذا لم يفد التقليد الا الظن فلا يزول الخوف بالوجدان فيحكم العقل عندئذ بوجوب الاجتهاد للحصول على العلم لكي يزول الخوف قطعا ، وهذه التتمة بنظر القوانين لازمة لانه يقول (ان المعرفة ) المزيلة للخوف (انما تتم بالنظر) اي الاجتهاد (اذن التقليد لا يفيد الا الظن وهو لا يزيل الخوف) ونحن افترضنا في الدليل الثاني ان ازالة الخوف واجبة لكنها لا تحصل بالتقليد اذ لا يفيد الا الظن اذن يتعين الطريق بالاجتهاد لأن (ما لا يتم الواجب)ازالة الخوف (الا به ) النظر (فهو واجب)اذن (فالنظر واجب)
لكن كلام القوانين غير تام كبرى وصغرى (ثم نذكر وجه الحق في المقام) فنقول: ان الكبرى الكلية التي ذكرها غير صحيحة وهي(اذ التقليد لا يفيد الا الظن) اذ الوجدان شاهد على ان التقليد في كثير من الناس يفيد القطع فاننا نرى عوام الشيعة قاطعين دون ريب بان امير المؤمنين عليه السلام هو الخليفة الحق وانه معصوم بل نرى قطع العامي بكثير من فتاوى من يقلده ان لم يكن قاطعا بها كلها ،وهكذا غير الشيعي من مخالف او يهودي او مسيحي فانهم غالبا (قاطعون عن تقليد) فقوله (ان التقليد لا يفيد الا ظنا وانه لا يزيل الخوف) غير صحيح بالوجدان بل التقليد كثيرا يفيد القطع ويزيل الخوف , واذا لم تصح الكبرى فاستدلاله غير تام (ان الاجتهاد هو الطريق الوحيد المزيل للخوف فيتعين شكر النعمة به )فنقول كلا اذ التقليد ايضا يزيل الخوف فليكن هو القسيم الاخر المجزئ عقلا في مقام تحصيل شكر النعمة
ويمكن الدفاع عن صاحب القوانين بان نقول:ان البعض اصطلح في الظن اصطلاحا خاصا وكلامه هنا لعله مبني عليه وهو الاصطلاح على الظن بما يشمل (القطع عن تقليد) اي (ان العلم او القطع عن تقليد هو ظن) فلذا القران يقول(ان يتبعون الا ظنا) مع انهم –اوكثير منهم - قاطعون ولكن القران ذمهم ونزل قطعهم منزلة الظن بل اسماه به لأنه ناشئ عن التقليد ,وهناك نقاش طويل في هذه الاية يترك لمحله
لكن هذا الدفاع حتى على فرض قبول صغراه لا يجدي ، لأن الامر ليس دائرا مدار المصطلح بل مدار الواقع اذ نقول للقوانين: ان (العالم عن تقليد)وان سمي علمه عن تقليد ظنا (وان فرض كون الاصطلاح القراني كذلك) هل زال خوفه ام لا؟فاذا قيل بانه زال خوفه –كما هو وجداني اذ القاطع لا يخاف اذ لا يحتمل الخلاف- فينتفي الاستدلال لأن وجه الاستدلال (ان الظن لا يزول به الخوف فعليه ان يجتهد ليزول خوفه) لكن هذا (الظان) حسب هذا المصطلح قد زال خوفه وجدانا اذن دليل ازالة الخوف لا يدفعه نحو الاجتهاد ولا يلجئه اليه لأنه تحصيل للحاصل
والحق في المقام انه لا حاجة الى التتميم اذ نقول يجب شكر النعمة اما بنحو الموضوعية او الطريقية (على الوجهين) ثم نقول ان شكر النعمة مصداقه او طريقه هو الاجتهاد لا التقليد ونستدل على ذلك ببرهان (العنوان والمحصل) فان الامر لو تعلق بالعنوان ثم شك ان هذا محصل له او لا؟ وكان ذلك القسيم الاخر محصلا له قطعا فقد تعين وبعبارة اخرى ان العنوان الذي تعلق به الوجوب محصله امران : احدهما مقطوع به والاخر مشكوك به فالقاعدة العقلية هي التعيين لا التخيير والمقام من هذا القبيل لوجهين:
الاول:ان المعرفة عن اجتهاد هي الفرد الاكمل في المعرفة مقابل المعرفة عن تقليد فانها مصداق اضعف وفرد ادنى ولا يعلم انه مع وجود الفرد الاعلى هل يرضى المولى بالمصداق الادنى او لا؟ توضيح ذلك: ان المعرفة عن اجتهاد هي الفرد الاكمل بشهادة الوجدان اذ يختلف بالوجدان قول المقلد تبعا لمرجعه بان الاصل المثبت ليس بحجة عن من درس وعرف ذلك عن اجتهاد ففرق واضح بين معرفة هذا وذاك ، وكذلك في العلوم الاخرى اذ فرق كبير بين طالب يعرف النظرية النسبية ونتيجتها عن تقليد وبين نفس انشتاين الذي قضى سبع سنوات لينتج تلك النظرية عارفا بها عن اجتهاد بكافة مقدماتها و مراحلها
والحاصل : ان من المستقلات العقلية : ان (المعرفة عن اجتهاد) هي فرد اكمل من (المعرفة عن تقليد) ,هذا اولا وخلاصته الاستدلال بالكمال الذاتي
وثانيا:ان المعرفة عن تقليد هي معرفة غير راسخة وهي في معرض الزوال بالشبهات بل بادناها احيانا اما المعرفة عن اجتهاد فهي راسخة فليست في معرض الزوال عادة (بالقياس الى ذاك) بالشبهات ففي المعرفة عن اجتهاد دفع للخطر وللضرر المحتمل ودفع للخوف قطعا او اطمئنانا اما في المعرفة عن تقليد فلا دفع للخطر لأن هذا المقلد لو تعرض لشبهات فقد تزل قدمه
وبهذين البيانين ثبت ان هناك طريقين احدهما قطعي ولا ريب في كونه شكرا للنعمة يرضي المولى لأنه الفرد الاكمل ولأنه يدفع خطر زلة القدم اما ذلك الاخر فليس كذلك وللحديث صلة تأتي ان شاء الله تعالى وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين...