009-العراقي: الفرق بين القطع والظن في حسن الإطاعة ولزوم المتابعة - المناقشة
الاربعاء 20 ربيع الأول 1443هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(9)
العراقي: الفرق بين القطع والظن في كلا حكمي العقل
وقد فرّق المحقق العراقي بين القطع والظن في كلا حكمي العقل بحسن الإطاعة في دائرة الأحكام الشرعية وحكمه بلزوم المتابعة في دائرة الأغراض التكوينية فارتأى ثبوتهما للقطع دون الظن، قال قدس سره: ([حجية القطع عقلاً] لا شبهة في وجوب إتباع القطع عقلاً. ومرجع هذا الوجوب في القطع بالأحكام إلى حكم العقل بتحسين صرف غرضه وإرادته إلى امتثال مولاه، وإليه يرجع أيضا حكمه بحسن إطاعته.
وأما مع فرض تعلق غرضه بالمتابعة - كتعلق غرضه في أموره التكوينية بتحصيل مقصوده - فحكم العقل بالحركة على وفق [القطع] ارتكازي غير مرتبط بباب حكم العقل بالتحسين والتقبيح. كيف؛ وهذا المعنى ربما يكون جِبِلّياً للحيوانات في حسّياتهم)([1]).
إيضاح وإضافات
وتوضيحه مع بعض الإضافات في ضمن نقاط:
معنى الحسن والقبح العقليين
الأولى: ان الـحُسن والـقُبح في قاعدة التحسين والتقبيح العقليين تارة يراد بهما: الكمال والنقص فالحسن هو الكامل والقبيح هو الناقص، وأخرى يراد بهما: الملائمة للطبع أو المنافرة له، وثالثة يراد بهما: المصلحة والمفسدة فالحسن ذو المصلحة والقبيح ذو المفسدة ورابعة يراد بهما: استحقاق الثواب بالموافقة والإطاعة واستحقاق العقاب بالمخالفة والعصيان، وخامسة يراد بهما: استحقاق المدح من الشارع أو الذم، أو مدحه وذمه فعلاً، وقد جمع العديد من العلماء المعنيين فقالوا: (الحسن ما يستحق فاعله المدح عاجلاً والثواب آجلاً، والقبح ما يستحق فاعله الذم عاجلاً والعقاب آجلاً)([2]) والظاهر ان المعنى الخامس (وربما الرابع أيضاً) هو الذي بنى عليه المحقق العراقي ههنا، كما انه المقصود بالبحث عادة([3]).
للشارع أحكام تشريعية كما له أغراض تكوينية
الثانية: ان للشارع أحكاماً تشريعية كما له أغراض تكوينية كما ان المكلف قد تكون له أغراض تكوينية أيضاً، ولعل كلامه قدس سره ظاهر في الأغراض التكوينية للمولى، وعلى أي فكلاهما حكمه واحد إذا تعلق به القطع.
منشأ إلزام العقل بامتثال الأحكام التشريعية
الثالثة: ان أحكام الشارع التشريعية، تنبعث من مقام مولويته مع قطع النظر عن المصلحة والمفسدة، وعلى ذلك يحكم العقل فيها بحسن الإطاعة، وليس حسن طاعتها نابعاً مما تحمله من مصلحة أو مفسدة، بل مجرد مقام مولويته كاف في انتزاع حسن الطاعة، فلو فرض خلوها عنهما، أو مع قطع النظر عنها، فان أوامره ونواهيه تعالى يجب بحكم العقل امتثالها، نعم جرت حكمته جل اسمه على أن لا يأمر إلا بما فيه المصلحة ولا ينهى إلا عما فيه المفسدة.
والحاصل: ان العقل يحكم بحسن إطاعة المولى بما هو مولى ويراد بالحسن المعنى الخامس أو الرابع أيضاً.
ومما يوضح حكم العقل بحسن إطاعة المولى بما هو مولى مع قطع النظر عما في أوامره ونواهيه من المصالح والمفاسد، ان ذلك هو مقتضى مالكيته الحقيقية، ألا ترى ان المالك المجازي لا يصح بحكم العقل تجاوز أوامره ونواهيه فيما يملكه لمجرد انه لا مصلحة فيها، لو فرض ذلك، أو لمجرد اننا لا نعلم وجه المصلحة فيها؟ والحاصل: ان للمالك بحكم العقل ان يفعل في ملكه ما يشاء فلو قال للضيف أجلس هنا ولا تجلس هناك وجب الالتزام حتى لو لم يكن في هذا مصلحة وفي ذاك مفسدة ولا يحق للضيف ان يقول لا يجب عليَّ الالتزام مادام ذلك لا يعود بفائدة عليَّ أو حتى بفائدة عليك! فإذا كان هذا حال المالك المجازي ومن يعيش في ممتلكاته فما بالك بالمالك الحقيقي للأرض وما فيها ومن فيها أي المالك الحقيقي للإنسان نفسه ولكل ما يحيط به أو يملكه الإنسان ملكاً مجازياً في طول ذلك المالك الحقيقي؟
الرابعة: ان مرجع حكم العقل بحسن طاعة المولى إلى حكم آخر أسبق رتبة، يكون حسن الطاعة منتزعاً منه، وهو: حُسنُ ان يُخضع العبد أغراضه لأغراض المولى وإرادته لإرادته وأفعاله لأوامره، فحكم العقل بلزوم إتباع القطع في أحكام الشارع يرجع إلى حكمه بحسن إخضاع غرضه وإرادته لغرض المولى وإرادته والذي يتجلى ويتمصدق في إتباع أوامره.
لزوم المتابعة في الاغراض التكوينية
الخامسة: ان الأغراض التكوينية وهي المصالحة البالغة والمفاسد البالغة، في الفعل أو الترك، هي متعلَّق حكمٍ آخر للعقل وهو لزوم المتابعة أي لزوم الحركة على ضوئها وعلى طبقها، وذلك بمعزل عن التحسين والتقبيح العقليين؛ لأنهما كما سبق حيث فسرا باستحقاق المدح أو الذم من الشارع أو باستحقاق العقاب والثواب أختصا بالأحكام التشريعية، أما المصالح والمفاسد بما هي هي ومع قطع النظر عن أمر مولى بها أو نهيه عنها فانه لا معنى لحسنها أو قبحها عقلاً بذلك المعنى، بل العقل حاكم بلزوم تحصيل المصلحة البالغة ولزوم اجتناب المفسدة البالغة، بل قد يقال ان الجِبِلّة أي الفطرة هي القاضية بذلك بدليل محركية تلك المصالح البالغة للحيوانات أيضاً وزاجرية تلك المفاسد لها أيضاً. فهذا إيضاح كلامه مع بعض الإضافات، وإن كانت لنا مناقشة في النقطة الخامسة خاصة.
العراقي: الظن غير محرّك ولا به تتحقق الإطاعة
وقال: ([عدم حجية الظن] وأما في الظن فلا شبهة في أن احتمال خلافه مانع عن طريقيته الذاتية، لقصوره حينئذ عن الإراءة الذاتية التامّة وجداناً، وحينئذٍ لا حكم للعقل في مورد الظن بنفسه لا في المقام الأول ولا في المقام الثاني.
أمّا المقام الثاني فواضح، إذ الاحتمال المخالف يمنعه عن الحركة إلى مقصوده لاحتمال عدم مقصوده، وما هو علة للحركة المزبورة هو الجزم بوصوله، المفقود في المقام.
وأما المقام الأول فإنّ العقل إنما يحكم بصرف غرضه إلى إطاعة مولاه، ومع احتمال [عدمها] أين [الإطاعة] كي يحكم العقل بصرف الغرض [إليها]، بل العقل حينئذٍ مستقل بجواز المخالفة المحتملة)([4]).
المناقشة
أقول: سبقت المناقشة في الفقرة الأولى فان الظن وإن قصر عن (الإراءة الذاتية التامّة) لكنه يمتلك الإراءة الاقتضائية والطريقية الناقصة، باعترافه الضمني إذ النفي([5]) ينصب على القيد مع وجوده لا المقيد وحده، وحينئذٍ فالفرق بين القطع والظن هو في ان القطع علّة تامة للإراءة التامة لذا لم يمكن الردع عنه أما الظن فعله ناقصة لها أي مقتضٍ لذا أمكن الردع عنه فهو إذاً مقتضٍ بطبعه للحجية وليس لا بشرط عنها، وقد سبق مزيد بيان فراجع.
وأما قوله في المقام الثاني (ويقصد به مقام لزوم المتابعة): (إذ الاحتمال المخالف يمنعه عن الحركة إلى مقصوده لاحتمال عدم مقصوده) فغريب إذ كيف يمنع الأضعف (وهو الاحتمال المخالف = الوهم) الأقوى (وهو الظن)؟ وكيف لا يقهر الأقوى الأضعف فيحرك الظان نحو المتابعة؟، وقوله (وما هو عِلّة..) مصادرة فانه أول الكلام، وقد اتضح ان العلّة التامة وإن فُقدت في الظن لكن المقتضي فيه موجود.
وأما قوله في المقام الأول (ومقصوده: حسن الإطاعة) (فان العقل... الخ) وقوله (أين الإطاعة) إن أراد الإطاعة القطعية فمصادرة أو المظنونة فمتحققة، بعبارة أخرى: الإطاعة المظنونة كافية في حكم العقل بصرف العبد غرضه إلى ما يظن انه محقق لغرض المولى، وبعدم تركه متعللاً بانه يحتمل ان لا يكون غرضه وكيف يرجّح العقل إهمال الظن ويتمسك بمقتضى الاحتمال.
بل ان قوله: (بل العقل حينئذٍ مستقل بجواز المخالفة المحتملة) هو عليه لا له؛ فانه إذا لاحظنا (المخالفة) مع قيد المحتملة فحكمنا بجوازها وجب ان نلاحظ (الإطاعة) مع قيد (المظنونة) فيجب الحكم بوجوبها، وإذا جردنا الإطاعة عن قيد المظنونة وجب ان نجرد المخالفة عن قيد المحتملة ولا معنى للحكم بجوازها حينئذٍ، والحاصل: انه قدس سره لم يلتزم بميزان واحد في موضوع حكم العقل حيث انه قدس سره لاحظ (الإطاعة) وحدها فقال أين هي؟ ولاحظ (المخالفة مع قيد المحتملة) فحكم بالجواز، ولو لاحظ (الإطاعة المظنونة) كما لاحظ (المخالفة المحتملة) لما بقي وجه للسؤال بأين هي؟ وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الجواد عليه السلام: (الْفَضَائِلُ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ: أَحَدُهَا: الْحِكْمَةُ، وَقِوَامُهَا فِي الْفِكْرَةِ، وَالثَّانِي: الْعِفَّةُ، وَقِوَامُهَا فِي الشَّهْوَةِ، وَالثَّالِثُ: الْقُوَّةُ، وَقِوَامُهَا فِي الْغَضَبِ، وَالرَّابِعُ: الْعَدْلُ، وَقِوَامُهُ فِي اعْتِدَالِ قُوَى النَّفْس) (كشف الغمة: ج2 ص348).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الشيخ ضياء الدين العراقي، مقالات الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ج2 ص11.
([4]) الشيخ ضياء الدين العراقي، مقالات الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ج2 ص13.
([5]) المستفاد من (لقصوره عن الإراءة الذاتية التامة).
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
قال الإمام الجواد عليه السلام: (الْفَضَائِلُ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ: أَحَدُهَا: الْحِكْمَةُ، وَقِوَامُهَا فِي الْفِكْرَةِ، وَالثَّانِي: الْعِفَّةُ، وَقِوَامُهَا فِي الشَّهْوَةِ، وَالثَّالِثُ: الْقُوَّةُ، وَقِوَامُهَا فِي الْغَضَبِ، وَالرَّابِعُ: الْعَدْلُ، وَقِوَامُهُ فِي اعْتِدَالِ قُوَى النَّفْس) (كشف الغمة: ج2 ص348).