بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(340)
بناءً على وضع الألفاظ للأفراد الخارجية فالبيع([1]) مطلق أيضاً
سبق: (ولكن هذا واضح بناء على مسلك المشهور من ان العناوين الكلية موضوعة للطبائع لا للأفراد الخارجية وان الأوامر (وكذا الأحكام) تتعلق بالكلي الطبيعي ثم انه ينطبق على الأفراد إذ تتعلق به كمرآة للأفراد، ولكنّ به خفاءً على المسلك الآخر وهو ان العناوين الكلية ليست موضوعة للطبائع بل هي موضوعة للأفراد الخارجية مباشرة وان الأوامر تنصب على الأفراد الخارجية مباشرة، فتدبر تعرف)([2]).
وتوضيحه: انه بناء على ان ألفاظ العناوين الكلية موضوعة للأفراد الخارجية (لا للطبائع والمفاهيم الذهنية) فالأمر كذلك إذ يدل اختيار الحكيم لهذا العنوان الكلي المجعول لكافة الأفراد الخارجية على حد سواء، كمشير لها أو دالّ عليها أو كمرآة لها أو شبه ذلك، على ان حُكمَه منصبٌّ عليها جميعاً وإلا لما اختار لموضوع حكمه لفظاً مشير لكل الأفراد الخارجية بوِزانٍ واحد، وكان عليه ان يختار لفظاً مشيراً لبعضها كقوله (أحل الله بعض البيع) بل ان إرادة البعض مع اختيار ما نسبته لكل الأفراد على حد سواء، من غير قرينةٍ، ترجيحٌ بلا مرجّح بل ترجيح للمرجوح إذ الراجح بعد صلاحية اللفظ بذاته للدلالة على الكل بل بعد وضعه لذلك ان يتخذه كما هو هو، موضوعاً لحكمه.
الجواب عن صغرى الفقيه الهمداني
واما الجواب عن صغرى الفقيه الهمداني حيث قال: (وامّا كون الآية في مقام بيان أحكام نفس البيع وشرائطه ففيه تأمّل بعد ملاحظة سَوْق الآية، وكونها في مقام دفع توهّم كون البيع مثل الرّبا، حيث زعموا..)([3]) فانه يرد عليه:
السياق ليس حجة، بل الآية (أَوَّلُهَا فِي شَيْءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْءٍ)
أولاً: ان السياق ليس حجة فلا يصنع ظهوراً ولا يخلّ بظهور، وما ذكره إنما هو قرينة السياق، وبعبارة أكمل: ان الروايات الشريفة تصرح عن القرآن الكريم بما قاله الإمام الصادق عليه السلام فـ((عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً وَلِلْبَطْنِ ظَهْراً ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْعَدَ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ مِنْهُ إِنَّ الْآيَةَ لَتَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْءٍ وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ مُتَصَرِّفٌ عَلَى وُجُوهٍ))([4]) فهذه الرواية وأشباهها صريحة في ان أوسط الآية قد يكون في شيء وأولها وآخرها في شيء آخر وسياق الآية لا يحكمها وإن كان في شيء آخر، فلو كان أولها عن رد توهمهم مثلاً وأخرها كذلك فان العبرة بعموم اللفظ نفسه فقوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) يلاحظ كأنه مستقل إذ (أوسطها في شيء) كما يلاحظ وهو في السياق إذ (وهو كلام متصل) فكلاهما صحيح ولا مانعة جمع إذ ليس أي منهما بشرط لا عن الآخر إلا في الكتب المتعارفة، اما القرآن الكريم فان بناءه على ان يكون أوله في شيء وأوسطه في شيء وآخره في شيء ومع ذلك هو مترابط بأنحاء من الربط وقد لا تكتشف إلا بالتدبر بل وينحصر كثير منها بالراسخين في العلم عليه السلام، فكل ذلك هو لا بشرط عن الآخر وبمعنىً هو بشرط شيء من غير تهافت فتدبر.
ولذلك قال السيد الوالد، كما نقلناه عنه سابقاً، (وفي الكلّ ما لا يخفى، إذ يرد على الأول: أن كون المولى في مقام البيان من جهةٍ لا ينافي كونه في مقام البيان من جهات أخر، فمعنى قولهم إنه من مقدمات الإطلاق، أن لا يكون في مضاد البيان)([5]) إذ ان الطرف كأنه تصوّر ان البيان من جهة يمنع البيان من جهة أخرى مع ان – وهذا وجه آخر – سر إعجاز القرآن البيان من جهات مختلفة ومع ان بيان الكبرى الكلية لا يخل بكونه رداً عليهم أيضاً بل هو أقوى في الرد كما سيأتي.
بل الآية الكريمة في مقامات ثلاث
بل نقول: ان مساق الآية الكريمة هو الوعظ والإرشاد والتهديد فلاحظ مجموع الآيات (الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثيمٍ)([6]) فكونه في مقام الوعظ والتهديد لا يتنافى مع الجواب عن حجتهم كما لا يتنافي الثاني مع إلقاء القاعدة العامة لتكون مصداقاً بالحمل الشائع للأمرين معاً: إلقاء القاعدة الكلية والجواب عن حجتهم..
بعبارة أخرى: ان من أسرار إعجاز القرآن الكريم هو ذلك فانه يحمل ما لا يتناهى من المعاني في ظاهره وباطنه بذلك وأشباهه، ولو كان السياق يحدّد الآية ويقيّدها كما يحدّد كلامَ أحدِنا ويقيده وكان يمتنع عليه إرادة أكثر من معنى من اللفظ (الذي ادعى انه محال وقد أجبنا عنه في محله) وكان.. وكان.. مما جرى عليه ديدن المؤلفين فكيف يعقل ان يكون (تبياناً لكل شيء)؟ و(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ في إِمامٍ مُبينٍ)([7]) وهو القرآن الكريم كما هو الإمام العظيم عليه السلام.
وردّ المشابهة مطلقاً أقوى من ردها في الجملة
واما قوله (فقال اللّه تعالى ردّاً عليهم (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إذ معلوم أنّ تلك القضيّة صادقة بحلّية بعض أقسام البيع ولو خرج بعض أقسامه الآخر، والغرض المأتي له الكلام يتحصّل مع إهمال القضيّة أيضاً) فيرد عليه إضافة إلى ما سبق([8]): انه لا شك ان الإطلاق أوقع في الرد وأقوى في الاحتجاج من الإهمال وإن صح فرضاً؛ ألا ترى انه لو كان الجواب على إشكالهم ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) هو: (إن الفرق هو ان الله أحل بعض البيع وحرّم الربا) كان أضعف بكثير مما لو قال (ان الفرق هو ان الله أحل كلي البيع وحرّم الربا) فلا تقولوا هذا مثل ذاك، كما هو ظاهر (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) أي ان الجواب بـ(ان الله أحل طبيعي البيع ومطلقه وحرم الربا فكيف تقولون بانه لا فرق بينهما) أقوى جداً من الإهمال، ولو لم يعدّ هذا دليلاً فليكن مؤيداً على الأقل، بل يرد عليه انه لا يصح الجواب بالقضية المهملة المراد بها (أحل الله بعض البيع) إذ يمكن الإشكال عليه بان الله تعالى أحل بعض الربا أيضاً كما حرّم بعضه (كالربا بين الوالد وولده والزوج وزوجته..) فكلاهما أحل بعضه وحرّم بعضه، فكيف يصلح جواباً على هذا إلا بتكلف لا يناسب إفحام المشركين بجواب واضح فوراً كما هو مقتضى إطلاق الآية الكريمة.
مباحث أصولية يتوقف عليها تحقيق عمق هذا المبحث
ثم ان سبر غور هذا المبحث موقوف على الرجوع إلى بعض المباحث الأصولية الهامة الأخرى التي سنشير إليها إشارة فقط ونحيل الأخذ والرد لها هنالك.
الأول: تحقيق حال الإطلاق وانه هل هو جمع القيود أو هو رفض القيود، أو هو – كما نرى – ترك القيود، أو هو – بعبارة أخرى – عدم لحاظ القيود أو هو لحاظ عدم التقييد، والأمر على بعضها أوضح وعلى بعضها بحاجة إلى تدبر، فتدبر تعرف.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ))(نهج البلاغة، ص253).
------------------------------------------
([1]) وكافة أسماء الأجناس.
([2]) الدرس (339).
([3]) الشيخ آقا رضا الهمداني، حاشية كتاب المكاسب، ص28.
([4]) محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي، المطبعة العلمية – طهران، 1380هـ، ج1 ص12.
([5]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه/ البيع، ج1 ص69.
([6]) سورة البقرة: آية 275-276.
([7]) سورة يس: آية 12.
([8]) من الأجوبة الثلاثة فتدبر جيداً.