29- تتمة الكلام عن وجوه الاشكال على رواية تحف العقول : الاضطراب فيها ،والتشقيق ، والجواب عنهما
السبت 25 ذي الحجة 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول الاستدلال برواية تحف العقول على حرمة حفظ كتب الضلال ومختلف التقلبات في مسببات الفساد، ووصلنا إلى البحث السندي فيها وفي كل كتاب تحف العقول، ولكن سنركّز الحديث هو حول هذه الرواية وذلك لوجود إشكالات خاصة بها، فلو تفصينا منها لتم الاستدلال بالرواية، ولتحصلت فوائد عديدة أخرى في مبحثنا وغيره. وذكرنا من الإشكالات اضطراب الرواية، من حيث الإعراب والتعقيد اللفظي والتكرار،
وأما الإجابة التي أشرنا لها سابقاً وسنضيف إليها ما يتممها فإنها تحل المشكلة في الكثير من الروايات، ولذا فان البحث فيها بحث أساسي ؛ حيث إن الكثير من الروايات قد يستشكل عليها بالاضطراب الناشئ من أسباب عديدة، منها اختلاف النسخ لكتاب واحد كما في اختلاف نسخة معينة من الكافي عن نسخة أخرى منه، أو اختلاف الرواية المروية في كتابين في اختلاف نسخة من الكافي مع نسخة من التهذيب لرواية ما[1].
الاضطراب لا يسقط الرواية عن الحجية مطلقا :إن الاضطراب إذا عاد إلى العلة الصورية فانه لا يسقط الرواية عن الحجية في محتواها ومضمونها وفي مادتها، إنما ذلك يسقط الحجية من ناحية العلة الصورية فقط كالإطلاق مثلا مما ينتج منه لزوم الاقتصار على القدر المتيقن، وكذا لا يمكن التمسك بالدلالات الأخرى المبنية على العلة الصورية[2]، مثلا هذا هو المدعى.
الدليل على المدعى :وإما الدليل على ذلك: فانه لو قلنا: إن خبر الثقة حجة – كما نقول وكما هو المشهور –، وكذا لو قلنا: إن مرسَل الثقة حجة[3] على المنصور، فان وجود اضطراب[4] في الخبر – من حيث علته الصورية – لا يسقط الخبر عن الحجية
1- بناء العقلاء على الحجيةوذلك: أولا: إن بناء العقلاء هو على عدم إسقاطه للخبر عن الحجية، أي إنهم يبنون على إن الثقة لو اخبر بخبر وكان في إعرابه – مثلاً - اضطراب فلا يرون ذلك مسقطا للخبر عن الحجية، خاصة إذا كان المتكلم أديباً ولم يحرز كون الناقل كذلك، فإن الظاهر ان الخطأ منه، وكذا لو وجدنا إن الناقل نقل رواية فيها بعض التعقيد اللفظي وقد نقلها عن بليغ ونحن نعلم إن هذا الشخص قد اعتمد في نقله على حافظته، فان ذلك لا يسقط خبره عن الحجية في المضمون – وان أسقطه عن الحجية في الهيئة والعلة الصورية –، وكذا الحال لو نقل كلاما عن بليغ فيه تكرار مما ليس من شان البليغ، فان ذلك يحمل على الناقل لا على المنقول عنه، هذا هو بناء العقلاء في ذلك.
وثانيا: ان مبنى الفقهاء والأصوليين على عدم إسقاط الخبر عن الحجية في العلة المادية، أي في المضمون والمحتوى إذا كان في نقل الثقة اضطراب لا يعود للمادة والمضمون، وأما العلة الصورية فيرجع البحث فيها إلى توثيق النسخ[5] فيلاحظ من هو الأضبط في النقل مثلا وليس هذا مقام الدخول في هذا البحث وتفصيله.
مزيد تأكيد: ونزيد الأمر تأكيدا بملاحظة خصوصية روايتنا، ولعل مع هذا التأكيد يتضح انتفاء الإشكال بالمرة، فروايتنا ذات خصوصية وهي إنها طويلة جدا ومليئة بالفروع والنقاط الدقيقة؛ وعليه فانه من الطبيعي أن يوجد بعض الاضطراب فيها من ناحية العلة الصورية مع اعتماد الناقل على حافظته في نقلها[6]، ومعه فان ذلك لا يسقطها عن الحجية من حيث المضمون. ويؤكد هذا بان مبنى الفقهاء على ذلك، وان سيرة كثير من الرواة كانت على نقل المضامين رغم تباعد الإعصار من غير نكير من أحد عليهم، أي: ان الراوي كان ينقل بعد عشر سنوات مثلاً الرواية عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) او الإمام الباقر (عليه السلام) فيتولد لذلك طبيعيا بعض الارتباك في النقل من حيث العلة الصورية من النواحي الثلاث المذكورة في إشكال المرحوم الشهيدي.
والحاصل: ان هذا الاضطراب لا يسبب السقوط عن الحجية في بناء العقلاء وكذا في بناء الفقهاء.
وبعبارة أخرى: حيث ان المشهور على جواز الرواية بالمضمون لمن أتقن وفهم الرواية[7], وحيث الائمة جوزوا ذلك، وحيث ان عادة الناس كانت على الاعتماد على حافظتهم في النقل؛ ولذا فان الاضطراب في العلة الصورية – لما ذكرناه – على القاعدة، هذا أولا.
2- لا اضطراب في المقاطع المتشهد بها وثانيا: ان روايتنا وفي خصوص المواطن التي استندنا اليها خالية من إشكالات العلامة الشهيدي والايرواني، فلو فرض ان أصل الإشكال صحيح، فان موردنا خارج وخالٍ عنه. فمثلا قوله (عليه السلام): " واما وجوه الحرام من البيع والشراء، فكل امر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة اكله وشربه. ... لما في ذلك من الفساد "، فان هذه العبارة من الناحية التشريعية والقانونية دقيقة ولا إرباك فيها، وكذا الحال في المقطع الآخر من الرواية حيث يقول (عليه السلام): " وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله او يقوى به الكفر والشرك "، فهي كبقية عبارات الأئمة (عليه السلام) وعلى وزانها.والعبارة الأخرى عنه (عليه السلام): "او باب يوهن به الحق" والعبارة الأخرى: " او باب من الابواب يقوى به باب من ابواب الضلالة او باب من ابواب الباطل " والأخرى: " وذلك انما حرم الله الصناعة التي حرام هي كلها، التي يجيء منها الفساد محضا. "
اشكال في المقام: تعدد الاشكالات موهن لاصل السند: وهنا إشكال وهو: ان تلك الإشكالات وان وردت على سائر العبارات دون هذه العبارات إلا انها موهن لأصل السند، وذلك يسقط الرواية عن الحجية رأساً.
جواب الاشكال: والجواب: أ – ما سبق من ان بناء العقلاء والفقهاء على عدم سقوط الحجية مع عَوْد الإشكالات للهيئة والعلة الصورية. ب - ان الفقهاء والأصوليين وبشكل عام، بنوا في الرواية التي تضمنت مقطعين مثلا وقد اعرض المشهور عن احدهما او ابتلي بمعارض أقوى، فلم يُعدّ حجة لجهة من الجهات، بنوا على عدم سقوط المقطع الآخر عن الحجية[8].
وثالثا :انه ومن خلال التأمل في الرواية فان أكثر الإشكالات المسجلة سوف يندفع ؛ وذلك ان التعقيد في قسم من عباراتها هي مقتضى المحتوى وليس تعقيداً لفظياً، كما ان إعرابها – أو أكثرها مما لا إرباك فيه، بعد التدبر، كما أن التكرار لعله كان من الإمام من باب الحائطة ومزيد التأكيد نظراً لأن السامع كان يعتمد على حافظته.
هذا بعض الكلام في هذه الجهة.
اشكال اخر: شبهة التقسيم والتشقيققال المحقق الايرواني: " وقد أشبهت في التشقيق والتقسيم كتب المصنفين "وأوضح العلامة الشهيدي ذلك: "وقال بعض انه من حيث اشتماله على التشقيق والتقسيم كأنه من قبيل كتب تصنيف ارباب التصنيف"
جواب الاشكال: لكن الظاهر ان هذا الاشكال ليس بوارد كذلك وذلك لجهتين: 1- اقتضاء طبيعة الموضوع الجهة الاولى: ان طبيعة المادة والمحتوى وان شئت فقل المتعلَّق قد تقتضي التشقيق والتقسيم[9] فان التشقيق في بعض الموارد هو مقتضى البلاغة ومقتضى الحال، هذا اولا[10].
2- اقتضاء مستوى السائل الجهة الثانية: ان اختلاف شخصية المتلقي والسامع وذهنيته ومستواه، ذلك كله يقتضي اختلاف نوع الحديث، فان زرارة العالم البصير مثلا نتوقع بحقه نمطا معينا من الحديث يختلف عن الكلام لنمط اخر اقل منه مستوى وفهما؛ وقد ورد (كلموا الناس على قدر عقولهم) و(انا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)
والتتبع للروايات يشهد باختلاف مستويات الرواية بحسب اختلاف مستوى السامعين، فان مقتضى الحكمة والبلاغة أن يتنزل الإمام (عليه السلام) الى سطح السامع البسيط في كلامه، وروايتنا في المقام تقتضي بحسب طبيعتها التشقيق والتفصيل. بل نقول: انه حتى في القران الكريم على عظمته التي لا يضارعها شيء وعلى اعجازه حتى في كل كلمة بل حركة، فان هناك تفاوتا شاسعا في العلة الصورية والهيئة والأسلوب بين آياته المختلفة،
فلاحظوا قوله تعالى: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فان هذه الآية معجزة في بيانها وجمالها فقد اختزلت واختصرت معان كثيرة جدا في كلمات قليلة، حيث نجد فيها التصوير البديع والدقة المتناهية والعمق وسحر البيان، هذا في جانب، ولاحظوا أيضاً قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا...)
فهذه الآية يختلف أسلوبها تماماً عن الآية الأولى وذلك ان الاية الثانية تتحدث عن مادة قانونية صرفة ودقيقة بتقنين معين وبيانها يتناسب وذلك.
وللكلام تتمة ...
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - وهذا الجواب سينفع في حل المشكلات في عدد كبير من الروايات لعلها تصل إلى المئات.
[2] - كدلالة الاقتضاء ان عادت للعلة الصدرية.
[3] - كما نقول ذلك تبعاً لجمع كالشهيد الثاني والبهائي والانصاري والوالد وكذا الميرزا النائيني في خصوص الكافي وغيرهم، على عكس المشهور.
[4] - وهو كثير جدا في كتبنا وروايتنا
[5] - بل وكذا لو كان هناك تضارب في المضمون.
[6] - إذ لا وجه للاضطراب إلا ذلك، أو احتمال السقط والخلط من النسّاخ، وعلى كلا التقديرين في الاضطراب في العلة الصورية – كما هو مبنى الإشكالات الثلاثة للشهيدي – لا تضر المضمون والمحتوى.
[7] - وتوجد مجموعة من الروايات في جامع احاديث الشيعة المجلد الاول من حديث 404 الى حديث 426 – منها وليس كلها – مثل: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): اسمع الحديث منك فلعلي لا ارويه كما سمعته. فقال (عليه السلام): (اذا اصبت الصلب منه فلا بأس انما هو بمنزلة تعال وهلم واقعد واجلس).
وكذا رواية محمد بن مسلم قال: قلت لابي عبد (عليه السلام): اسمع الحديث منك فازيد وانقص. قال (عليه السلام): ان كنت تريد معانيه فلا بأس". والكلام في هذا البحث يستدعي عقد بحث خاص
[8] - وهذا الكلام لبيان انه حتى الإشكال على المضمون – ومنه اضطرابه – لا يسقط سائر المضامين عن الحجية.
[9] - فان (المسائل) والبحوث والمطالب كلها لا تساق بعصا واحد حتى نقول لا يصح التشقيق بالمرة
[10] - وكأن المستشكل قد افترض ان التشقيق هو دائما هو على خلاف القاعدة في كلام المعصوم (عليه السلام).
السبت 25 ذي الحجة 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |