152- المناقشة الثالثة : ان بعض الكذب الهزلي إنشاء فهو خارج موضوعاً عن الكذب الجواب : بل هو اخباران متعاكسان وتحقيق ذلك وتحقيق ان الاخبار إيجاد وحكاية اما الإنشاء فايجادان دون حكاية
الاثنين 21 محرم 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
البحث الآتي يتميز بالدقة ولعله على ضوئه ستنقلب النتيجة تماما فلا بد من التدبر والتأمل فيه: فان البحث سابقا كان حول ان الكذب الهزلي هل هو محرم او جائز؟ وذكرنا ان الشيخ الأنصاري لم يستبعد حرمة حتى الهزل الفاقد للقصد إلى تحقق مدلوله مادام غير مطابق للواقع اعتمادا على الاطلاقات ودعوى انها شاملة للكذب الهزلي مطلقا، وقلنا ان هذا الاستدلال قد يناقش فيه من عدة وجوه، وقد مضى الوجه الأول وكذا الوجه الثاني، ووصلنا الى الوجه الثالث.
كما سبق ان الشيخ استند إلى الانصراف كوجه من الوجوه التي تدل على جواز الكذب الهزلي إذا أقام القرينة بشرط.
ولكن الأحرى والأفضل من الناحية الفنية أن يجعل ذلك وجها رابعا وذلك للتقدم الرتبي لوجه آخر عليه؛ فان دعوى الانصراف تستبطن الإذعان بصدق الكذب على الكذب هزلا من الناحية الموضوعية مع دعوى ان أدلة الحرمة منصرفة عنه, وأما الوجه الذي ينبغي ان يكون ثالثا فهو القول بالخروج الموضوعي للكذب الهزلي عن الكذب لأنه إنشاء فهو ليس كذبا بل يطلق عليه ذلك من باب التجوز، وكما هو واضح فان نقاش رتبة الموضوع مقدم على رتبة المحمول ومدى شمول الحكم والدليل.
الوجه الثالث: الهازل على نوعين اما مخبر عن الواقع او منشئ لبعض المعاني بداعي الهزل
وأما الوجه الثالث من وجوه الإشكال على كلام الشيخ الأنصاري فهو ما ذكره السيد الخوئي في مصباح الفقاهة([1]) و وذلك كدليل على ردّ اطلاقات الشيخ واثبات ان الكذب الهزلي – ببعض أنواعه – ليس حراما؛ لأنه ليس بكذب حيث يقول– وبتوضيح وإيجاز لكلامه من جهة مع إضافة منا على كلامه من جهة أخرى – :
إن الهازل على نوعين فانه تارة يكون مخبرا عن الواقع (بما لا يطابقه) ولكن بداعي الهزل وهذا كذب وحرام, فان المخبر تارة يخبر عن الواقع بداعي التهديد وأخرى بداعي التحذير او الهزل والمزاح والسخرية او ما أشبه فان الدواعي تختلف ولكن الخبر هو هو فلو كذب المتكلم بالخبر بداعي الهزل فهو كاذب والأدلة تشمله([2]) هذا هو النوع الأول.
وأما النوع الثاني من الهزل فهو ما لو أنشأ المتكلم بعض المعاني بداعي الهزل وهنا لا يصح ان نقول انه كذب لان الإنشاء من مقولة الإيجاد والإيجاد لا يحتمل الصدق والكذب وحيث لم يكن كذباً فلا تشمله أدلته فليس بمحرم، ومثاله ان يقول شخص لآخر (أنت بطل) ساخرا منه لجبنه فانه إنشاء وليس اخباراً هذا خلاصة كلام السيد الخوئي مع توضيحات وإضافة منا وسيأتي النقاش حول الشطر الثاني لكلامه.
وأما عبارته فهي: (إن الكذب المسوق للهزل على قسمين:
فانه قد يكون الهازل بكذبه مخبرا عن الواقع لكن بداعي المزاح والهزل من دون أن يكون إخباره مطابقا للواقع كأن يخبر أحدا بقدوم مسافر له او حدوث حادث او وصول حاجة ليغتر المخاطب بقوله فيرتب عليه الأثر فيضحك منه الناس، وهذا لا شبه في كونه من الكذب فانه عبارة عن الخبر غير الموافق للواقع واختلاف الدواعي لا يخرجه عن واقعه وحقيقته([3]).
وقد يكون الكلام بنفسه مصداقا للهزل بحيث يقصد المتكلم إنشاء بعض المعاني بداعي الهزل المحض من غير ان يقصد الحكاية عن واقع ليكون إخبارا ولا يستند الى داعي اخر من دواعي الإنشاء، ومثاله ان ينشئ المتكلم وصفا لواحد من حضار مجلسه بداعي الهزل كإطلاق البطل على الجبان والذكي على الابله والعالم على الجاهل) انتهى
التعليق على كلام السيد الخوئي : تأملات ثلاث
وتعليقا على كلام السيد الخوئي نقول:
ان هاهنا موطن تأملات ثلاث فتدبر جيداً([4])، فانه عندما يقول الشخص الأول للثاني (أنت بطل) وهو جبان مستهزئا به، فهو ينشيء بحسب ما ذكر السيد الخوئي بعض المعاني بداعي الهزل وعليه فلا مجال لاتهامه بالكذب – أي لنسبته إليه - لأنه لا حكاية في المقام، وهنا نتأمل
1- هناك حكايتان متعاكستان، ولا إنشاء للمعنى
أولا:
إن الحكاية موجودة فانه عندما يقول له: (أنت بطل او ذكي) فهو حاكٍ ولكن نوع حكايته هو حكاية عكس الواقع أي بنحو مقلوب ومعكوس مع حكاية الواقع أيضاً وبتعبير آخر فان مرجع كلامه لدى التحليل هو انه يريد أن يقول أنت لست بذكي – أي واقعاً - ولكن أقول انك ذكي – أي ظاهراً استهزاءاً بك - فان جوهر الكلام هو هذا المجموع، بل اللطافة في التعبير ناشئة من خلال قلب الحكاية.
فإذن : لدينا إخبار وإخبار معاكس متضمَّن فيه
وقد يكون ذلك نظير ما نجده في القران الكريم في قوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فان المفسرين قد اختلفوا في ذلك فقال البعض بان (لا) زائدة أو لغو وهذا الرأي ليس بمنصور لأنه لا زيادة في القران ولا لغو وقد يقال: ان ذلك بمنزلة القسم واللا قسم فكأنه جمع بين النقيضين– ظاهرا – في روعة بيانية، وبتعبير اخر: هو ليس بقسم ولكنه تلويح به، وبقول آخر لا اقسم لكن المورد يستحق ان يقسم به([5]) فتأمل
وفي موردنا نقول:
إن الروعة والجمال في أمثال تلك الكلمات، تكمن في التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية فان مفاد الاستعمالية هي (أنت بطل) ولكن مفاد الجدية (أنت جبان) فهما حكايتان في مرتبتين.
وبتعبير آخر: ان الظهور الأولي والظهور الثانوي قد اختلفا ففي عبارة أنت بطل الظهور الأولي كونه بطلاً وبهذا اللحاظ يصدق عليه انه كذب، ولكن بلحاظ الظهور الثانوي والإرادة الجدية وبالاحتفاف بقرينة المقام الدالة على انه في مقام السخرية والاستهزاء فانه ليس بكذب حيث المراد هو انت لست ببطل أي : انت جبان([6])
وعليه فقد تعاكس الظهوران، واللطف كل اللطف في ذلك فتنبه.
وعليه فان ما ادعاه السيد الخوئي من كونه انشاءا، ليس بتام وإنما هو إخبار يتضمن الحكاية بحسب الإرادة الاستعمالية ، هذا هو التأمل الأول على كلام السيد الخوئي([7])
2- الإنشاء إيجاد الهزل، لا إيجاد المعنى بداعي الهزل:
وتوضيح هذا الوجه([8]) يعتمد على تمهيد مقدمة وهي: ما هو الفرق بين (جاء زيد) و(جئني بزيد)؟
المعروف هو إن الأول إخبار وحكاية لوحظت فيه الجنبة المرآتية، وأما الثاني فهو إنشاء وإيجاد للطلب.
ولكن نقول ان ما هو معروف ليس بدقيق، وحقيقة الأمر هو انه في الإنشاء يوجد ايجادان وفي الإخبار يوجد إيجاد واحد وإخبار
توضيح ذلك:
إننا عندما نقول (جاء زيد) فإننا بهذا الإخبار عن الخارج نوجد في ذهن السامع: الموضوعَ والمحمولَ والنسبةَ تصورا، وقد نوجد الإذعان بالنسبة ايضا لديه، وبتعبير آخر يوجد لدينا عالمان: عالم الخارج واللفظ يحكي عنه، وعالم الذهن ولفظ (جاء زيد) يوجِد فيه تصوّر المعنى وأركان القضية وقد يوجد كذلك التصديق والإذعان بالنسبة.
وبتعبير آخر بحكايتي عن الخارج أردت ان اوجد في ذهنك شيئا: إذن ههنا إخبار وإيجاد معاً. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) مصباح الفقاهة / مج 35 / ص 597- 598
([2]) وكلامه حتى الآن على القاعدة ولا نقاش فيه
([3]) لان الداعي خارج عن حقيقة الإنشاء والإخبار بل هو من العلل المعدة لهما وهو الباعث لهما وليس بمقوم داخلي فيهما حتى يكون اختلاف الدواعي مخرجاً للخبر عن واقعه وحقيقته والحاصل: ان الداعي قد يبعثك لتخبر تارة ولتنشا تارة اخرى
([4]) فلو ثبت كلام السيد الخوئي فهو إشكال قوي على مدعى الشيخ الانصاري من شمول في الاطلاقات ولكن لو تم ما نذكره من تأملات فان هذا القسم لا دافع لحرمته من هذا الوجه فلا بد من التماس وجه آخر.
([5]) وهذه احتمالات مختلفة وهناك أقوال أخرى.
([6]) وفرض الكلام في مورد كونه جباناً حقاً.
([7]) وسيأتي في الدرس القادم مزيد تحقيق لذلك.
([8]) وهذا بحث جديد أيضاً فتدبر.
الاثنين 21 محرم 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |