508- رد الرد : التعبد في مرحلة المقتضي لا المانع والتعارض الجواب : وجوه عديدة هامة مبنائية وبنائية
الاربعاء 5 جمادي الاولى 1436 هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(32)
الاستدلال باستقلال العقل على الأخذ بالأقرب
سبق تأييدُ المحقق القزويني للدليل الثالث وردُّه ما أُستشكل به عليه بقوله: (ويمكن دفعه باختيار الشقّ الثاني، ومنع منافاة مراعاة الظن وأقوائيته وأقربيته للترجيح في صورة الاختلاف، لجهة([1]) التعبّد) و(باعتبار أنّ الأقوائية والأقربية لا تلاحظ إحرازاً للمقتضي لجواز العمل بل رفعاً لمانع التعارض)([2]).
واما دليله على المدعى فهو (لقضاء العقل المستقلّ بعد تعذّر العلم بالأحكام الواقعيّة تفصيلا وإجمالا أو سقوط اعتبار العلم بها إجمالا بوجوب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع ، وهو بالنسبة إلى المكلّف البالغ رتبة الاجتهاد ظنُّه الاجتهادي لغلبة مصادفته الواقع ، وبالنسبة إلى من لم يبلغ رتبتَه فتوى المجتهد لغلبة مصادفتها الواقع)([3])
الجواب: 1- خلط باب الانسداد بالتعارض على الانفتاح
ولكن يرد عليه: أولاً: انه خلط بين باب الانسداد وصورة التعارض على الانفتاح، ومورد الكلام هو الأخير وقضاء العقل المستقل([4]) هو في الأول، والظاهر انه بنى على ذلك([5]) بقرينة قوله (بعد تعذّر العلم بالأحكام الواقعيّة تفصيلا وإجمالا أو سقوط اعتبار العلم بها إجمالا) إذ الانفتاحي قائل بانفتاح باب العلم بانفتاح باب العلمي المنزّل منزلته، واما الانسدادي فيرى (تعذر العلم بالأحكام الواقعية تفصيلاً وإجمالاً)([6]) أو (سقوط العلم بها إجمالاً)([7]) والظاهر ان مراده([8]) منه عدم وجوب الاحتياط الذي هو من مقدمات الإنسداد فان بالاحتياط يحرز الامتثال فيحصل العلم إجمالاً([9]) بانه وصل إلى الحكم الواقعي. فتأمل
2- على الانفتاح، الأقوال الأربعة
ثانياً: ان كلامه غير تام سواء على القول بالانسداد أم على القول بالانفتاح:
أما على القول بالانفتاح: فلأنه عند التعارض تعددت الأقوال إلى أربعة والمشهور منها شهرة عظيمة غير ما قاله فكيف يدعي استقلال العقل به؟ والأقوال هي:
أ- التساقط الذي ذهب إليه الكثير من المتأخرين ولعله مشهورهم([10])
ب- التخيير، وهو المنصور([11]).
ج- رجحان الترجيح بالراجح لا وجوبه وتعينه، وبه قال الآخوند حتى في المرجحات المنصوصة في مورد ورودها في الروايات ((الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أَوْرَعُهُما...))([12])
فكيف بغير المنصوصة مطلقاً وكيف بغير باب الاخبار وهو باب التقليد الذي نحن فيه؟
واما غيره فقالوا بالترجيح بالمرجحات المنصوصة ولعله المشهور ممن لم يقل بالتساقط عكس الشيخ الذي تعدى إلى غير المنصوصة.
د- تعين الترجيح بمطلق المرجحات المنصوصة وغيرها في كل الأبواب (القضاء، الأخبار، الفتوى، البينة... الخ) وقلّ من يقول بذلك. وهذه الصورة هي التي ذكرها المحقق القزويني.
وعلى أي فلا إشكال في عدم استقلال العقل بالتعين والوجوب وان قبلنا فرضاً استقلاله بالرجحان.
وعلى الانسداد، فالنتيجة مهملة
واما على القول بالانسداد: فالظاهر عدم استقلال العقل بالأخذ بالأقرب للواقع مطلقاً حتى على الانسداد، بل ان الظاهر ان نتيجة مقدمات الانسداد مهملة من حيث الأسباب أولاً ومن حيث المراتب ثانياً ومن حيث المتعلَّقات ثالثا:
أ- من حيث الأسباب
اما من حيث الأسباب فان الانسداد لا ينتج حجية الظن مطلقاً من أي سبب حصل، ولذا لا يقول الانسدادي بحجية الظن الحاصل من الأحلام والفنجان والكف والرمل والاسطرلاب كما ليس له أن يقول ولا يقول بحجية الظن الحاصل من القياس، ولذا نجد ان صاحب القوانين القائل بالانسداد لا يقول بحجية القياس ولا الأحلام والفناجين حتى إن حصل الظن الشخصي منها.
وبعبارة أخرى: لو كانت نتيجة مقدمات الانسداد مطلقة من حيث الأسباب وكان ذلك هو حكم العقل المستقل لامتنع على الشارع الردع عنه([13]) لكنه ردع عن القياس([14]) وعن أخذ الشرع والأحكام من مثل الأحلام، بل لا نحتاج لتمامية هذا الرد إلى ملاحظة ان الشارع ردع أم لا بل يكفي ان نقول بانه يصح للشارع ان يردع عن القياس والأحلام حتى على الانسداد، ففيه كفاية لرد دعوى استقلال العقل بحجية مطلق الظن من أي سبب حصل على الانسداد؛ إذ كيف يردع الشرع عما استقل بحجيته العقل؟ فتأمل([15])
ب- من حيث المراتب
واما من حيث المراتب([16]) فالظاهر انه حتى على الانسداد فان العقل يرى أرجحية العمل بها – الظنون - بمرتبة لم تتفاوت بدرجة كبيرة عن مرتبة أخرى من مراتب الظن لا وجوبه([17]) وذلك لنفس الأدلة الثلاثة التي سقناها سابقاً على الانفتاح([18]) - لكن مع تكييفها بما تناسب الانسداد -.
ج- من حيث المتعلقات
واما من حيث المتعلَّقات فقد يفرق بين الظن الانسدادي في أصول الدين المطلوب فيها الاعتقاد فليس بحجة وفي غيرها فهو حجة. أو بين الموارد المهمة كالدماء والفروج فليس الظن الانسدادي حجة بل يجب الاحتياط وبين غيرها فيكفي الظن فتأمل
وعلى أي فالمقام من قبيل الأول([19])
3- في مرحلة المقتضي، الحجية من باب الاقربية
ثالثاً: ان الظاهر هو عكس ما قاله في كلا شقي كلامه:
اما الشق الأول: وهو مرحلة المقتضي (إذ رأى الحجية من باب التعبد) ففيه ان الظاهر ان حجية رأي المفتي في مرحلة المقتضي هي من باب التعقل والاقربية للواقع أو لاقوائية إيراثه الظن لا للتعبد وذلك استناداً إلى الروايات التي وصفت المفتي بالوثاقة وصدق الحديث، مما سيأتي تفصيله، وواضح ان هاتين الجهتين ليستا تعبديتين بل هما بلحاظ الاقربية للواقع أو اقوائية إيراث الظن أو هما معاً، واستناداً إلى امثال ((فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَان...))([20]) بل حتى استناداً إلى أمثال آية النبا – إذا عُدَّت من أدلة صحة التقليد – نظراً للتعليل الوارد فيها.
وفي مرحلة المانع، من باب التعبد
واما الشق الثاني: وهو مرحلة المانع والتعارض (إذ رأى الحجية عندئذ داخلة في باب التعقل والاقربية والاقوائية لا التعبد) ففيه ان الأمر بالعكس بل الحجية ههنا تعبدية لما سبق مفصلاً من ان الحجج في أصلها تعقلية وعقلائية وفي حدودها – ومنها المقام: صورة التعارض – تعبدية بمعنى ملاحظة جهة المصلحة السلوكية أو عناوين أخرى مزاحمة في المتعلق([21]) كما سبق تفصيله في أمثلة تعارض الصحيحة مع الحسنة، والأضبط مع الضابط، وقول صاحبي اليد في الطهارة والنجاسة مع كون أحدهما أعدل، وقول المقومين لدى التعارض.. الخ
ترجيح المشهور بالعدد دون العدالة في البينة
ونضيف هنا مثالاً آخر وقد وردت فيه رواية معتبرة، وهي قوله ( عليه السلام ) ((كَانَ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) إِذَا أَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ بِشُهُودٍ عِدَّتُهُمْ سَوَاءٌ وَعَدَالَتُهُمْ سَوَاءٌ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا...))([22]) وظاهر الرواية التساقط بعد فقد مرجحين طريقيين هما العدالة والعدد، وهنا أمران:
الأول:ان هناك مرجحات أخرى([23]) لم تذكرها الرواية بل انتقلت بعد فقد هذين المرجحين إلى القرعة الذي يعني التساقط (أو يكفي ان يعني عدم الترجيح بأي مرجح آخر).
الثاني: ان المشهور – كما تتبعه السيد العم في بيان الفقه – التزموا بالترجيح بالعدد دون العدالة فانهم حتى مع وجودها انتقلوا للقرعة([24]) مما يكشف عن فهمهم عدم كون الحجية من باب الطريقية الصرفة – في صورة التعارض – رغم ان الطريقية في خصوص العدالة في هذا المورد عليها الرواية، وللمناقش أين يناقش المشهور في ذلك إلا ان موطن الكلام نفي كونه مستقلاً عقلياً وإلا كيف يطرحه المشهور مع استقلال العقل به ووجود رواية عليه ومع ذلك عملوا بشطر منها وأهملوا الشطر الآخر؟ فتأمل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
(الحكمة):
عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) ((يَا هِشَامُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) يَا هِشَامُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أَكْمَلَ لِلنَّاسِ الْحُجَجَ بِالْعُقُولِ وَنَصَرَ النَّبِيِّينَ بِالْبَيَانِ وَ دَلَّهُمْ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ بِالْأَدِلَّة... )) (الكافي ط – الإسلامية ج1 ص16)
([1]) متعلق بـ(منافاة).
([2]) تعليقة على معالم الأصول ج7 ص462.
([3]) تعليقة على معالم الأصول ج7 ص462.
([4]) لو سلمنا.
([5]) على باب الانسداد.
([6]) بان يعلم بها في أطراف الشبهة المحصورة أو غير المحصورة فانه على الانسداد – صغرىً – لا علم لنا بالواجبات والمحرمات حتى في ضمن دائرة الشبهة المحصورة.
([7]) أشار بـ(تعذر...) إلى الصغرى وبـ(سقوط...) إلى الكبرى، ووجه السقوط اما كون الشبهة غير محصورة أو لخروج بعض أطرافها عن مورد الابتلاء أو للزوم العسر والحرج في تشريع الاحتياط الكلي.
([8]) ويحتمل ان يريد العلم بالجامع، لكنه بعيد.
([9]) هذا العلم الإجمالي هو الثاني اللاحق بالأول المذكور في الحاشية الأسبق (فانه على الانسداد صغرىً...)
([10]) فلاحظ ما سبق نقله من تعارض البينتين أو إخبار صاحبي اليد إذ المشهور التساقط وغير ذلك وراجع بيان الفقه ج2 ص21.
([11]) وقد فصلنا وجهه في كتاب (شورى الفقهاء – دراسة فقهية – أصولية) وغيره.
([12]) الكافي (ط- الإسلامية) ج1 ص68.
([13]) أي حتى على الطريقية الصرفة.
([14]) أي بلحاظ صرف الطريقية أيضاً لا لباب التزاحم فقط.
([15]) هنا وجهان للتأمل وكلاهما متأمل فيه. فتدبر جيداً.
([16]) لاحظ تفسيرنا للمراتب بما جاء في المتن، وهو غير تفسيرها بحجية أية مرتبة من مراتب الظن وان كانت ضعيفة جداً، أو تفسيرها بحجية المرتبة القوية من الظن فقط، على الانسداد.
([17]) فلم يكن الظن الأقوى حجة تعيينية مطلقا، وهو المقصود من اهمال النتيجة من حيث المراتب.
([18]) التزاحم، والعرض العريض للحجج حتى الانسدادية، والدروان بين الحسن والأحسن.
([19]) الأسباب.
([20]) الكافي (ط – الإسلامية) ج1 ص330.
([21]) بل حتى على الطريقية الصرفة إذ في (الحدود) لا علم لنا بالأقرب. فتدبر
([22]) من لا يحضره الفقيه ج3 ص94.
([23]) كالترجيح بالاضبطية والادقية وبموافقة الشهرة (أو الشياع غير المفيد للعلم).
([24]) وذلك فيما لو ادعى اثنان زوجية امرأة وسكتت هي وأقام كل منهما بينة فانها تكون زوجة للأكثر عدداً مع يمينه (وشرط اليمين دليل آخر على عدم التمحض بالاقربية وإلا لاكتفى بأكثرية الشهود عدداً) واما لو تساوتا عدداً فقالوا بالقرعة ولم يرجحوا بالاعدلية قبلها.
الاربعاء 5 جمادي الاولى 1436 هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |