بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(3)
الأدلة: على تعيُّن تقليد الأعلم أو عدمه
استدل كل من القائلين بتعيّن تقليد الأعلم مطلقا وحجيته تعييناً والقائلين بعدم تعينه مطلقا، بأدلة، وحيث كانت مشتركة غالباً بمعنى ان القائل يستند إلى بناء العقلاء مثلاً والنافي ينفي ذلك، لذا سوف نسوق أدلة الفريقين في سياق واحد ولا نفرد لكل قول فصلاً.
تمهيدان
وقبل الخوض في غمار البحث نقدم تمهيدين:
كثرة اختلاف دعاوي حكم العقل وبناء العقلاء
الأول: ان هنالك الكثير من المسائل التي اختلف فيها الأعاظم وتناقضت مدعياتهم أما في دعوى حكم العقل أو في دعوى بناء العقلاء:
فمن القسم الأول: دعوى البعض حكم العقل باستحالة الترتب، ودعوى البعض في قبال ذلك بإمكانه.
وكذلك دعوى امتناع اجتماع الأمر والنهي عقلاً ودعوى إمكانه.
ودعوى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده عقلاً ودعوى العدم ودعوى وجوب المقدمة بوجوب ذيها( [1]) عقلاً ودعوى العدم.
وكذلك – في الفلسفة – دعوى المشائيين( [2]) أصالة الوجود ودعوى الاشراقيين( [3]) أصالة الماهية ودعوى بعض المتكلمين اصالة كليهما أو عدم اصالة أي منهما، ودعوانا ان الأصالة هي للمصداق وان الوجود والماهية والشيء والوحدة هي أربعة عناوين تنطبق على المصداق بوزان واحد.
ومن القسم الثاني: دعوى بناء العقلاء على حجية الشياع بنفسه وان لم يفد الاطمئنان، ودعوى العكس.
ودعوى ان بناء العقلاء على التخيير لدى تعارض الطرق ودعوى ان بناءهم على التساقط
ودعوى حجية قول اللغوي لديهم ودعوى العدم.
ودعوى بناء العقلاء على الاستصحاب بما له من المفهوم( [4]) وعدمه
من وجوه الاختلاف وعلله
الثاني: ان الوجه في اختلاف الدعاوى وتضادها رغم كون كلا الطرفين باحثاً عن الحقيقة جاداً في الوصول إليها أمور عديدة يرتبط بعضها بمعرفة النفس الإنسانية وبعضها بمعرفة العقل وطريقة تفكير الإنسان وبعضها بعلم الأعصاب وغير لك، إلا اننا نشير الآن إلى أمرين منها فقط وهما الاستقراء الناقص والتفسير الخاطئ.
ولنأخذ مسألة تقليد الأعلم مثالاً لذلك، فان الظاهر ان من ادعى ان بناء العقلاء على تقليد الأعلم كالنافي، لم يرجع إلا إلى بعض الكتب واحتكم بعدها لمرتكزه الذهني معتبراً إياه مرآةً لبناء العقلاء ولم نجد منهم – فيما نعلم – من قام باستقراء تام أو ما هو بحكمه كالاستقراء الممنهج – إضافة للاستقراء المعلَّل – ونعني بالممنهج استقراء رأي ألف شخص مثلاً من قوميات وحِرَف واعمار ومستويات وأجناس شتى: كالطبيب والمحامي والفقيه والمزارع والبقال والجندي والطالب وكالرجل والمرأة وكالكبير والصغير... وهكذا مع مراعاة بعض المعادلات العلمية المتطورة التي تحصر هامش الخطأ في الاستبيانات بـ1% مثلاً فتأمل
واما التفسير الخاطئ أو المتوهم: فنقول هبْ ان العقلاء يرجعون للاعلم دوماً لكن هل ذلك لوجوبه التعييني بنظرهم أو لرجحانه؟، كلٌّ فسره بنحوٍ واحدهما مصيب والآخر مخطئ.
1- بناء العقلاء
استدل القائلون بوجوب تقليد الأعلم تعييناً وانه الحجة تعييناً لا تخييراً ببناء العقلاء على:
أ- الرجوع للأعلم في كل العلوم والحِرَف والمِهَن ب- وعلى عدم الرجوع للمفضول، فالاستدلال مركب من شقين وقد أضاف البعض – كما قرره السيد العم – شقاً ثالثاً هو (ولم يظهر من الشارع ردع عن هذا البناء فيكون ذلك تقريراً من الشارع لحجيته) لكن سيأتي ما يرد عليه بالخصوص.
مناقشات وردود: الرجوع للمفضول لكونه حجة اضطرارية
أجاب النافون( [5]): بان المشاهَد بالوجدان رجوع العقلاء إلى كافة الأطباء والمهندسين والعلماء في مختلف العلوم والفنون، ولذا تجد مثلاً مطبات مختلف الأطباء ممتلئة بالمراجعين، بل لو قيل بان بناءهم على تقليد الأعلم حصراً للزم تعطيل المهن فان عدم رجوع الناس إلا إلى الأعلم يستلزم خلو مكاتب ومراكز ومطبات المفضولين من المراجعين، وليس كذلك بالضرورة.
أجاب المثبتون: بان رجوعهم للمفضولين لا ينكر بالوجدان لكنه من باب الحجة الاضطرارية، وما أكثر حالات الاضطرار لذا تجد أبواب المفضولين أيضاً مزدحمة بالمراجعين.
قال السيد العم (وما ربما يلاحظ من مراجعة الناس إلى العالم مع وجود الأعلم، فإنما هو لأن العالم ليس لا حجة عندهم مطلقاً، بل قوله حجة اضطرارية يرجع إليه من لا يتمكن من الأعلم – لسبب من الأسباب –نظير الطرق الاضطرارية الأُخرى التي يسلكها العقلاء عند العوز وعدم القدرة على الطرق المعتبرة مطلقاً)( [6]).
والحاصل: أن رجوعهم للمفضول ليس بالعنوان الأولي بل هو بالعنوان الثانوي، فيرجعون إلى المفضول مع تعذر الأعلم أو كونه حرجياً أو ضررياً أو شبه ذلك.
الرد: بل بالعنوان الأولي
وأجاب النافون: بان رجوعهم إلى المفضول ليس من هذا الباب (الحجية الاضطرارية) بل لبناءهم على جواز ذلك بالعنوان الأولي ويدل على ذلك ما ذكره في بيان الفقه (وإذا سئلوا عن عدم تقيّدهم بمراجعة الاعلم، يجيبون بأجوبة لا تكون أعذاراً عقلية ولا عقلائية لترك واجب عقلي، فيقولون: إنّ طريقه أبعد، أو هو أسوء خُلْقاً، أو أقلّ التزاماً بمواعيده، ونحو ذلك ممّا لو كان مراجعة الاعلم لازماً لدى العقلاء لما صلحت هذه أعذاراً. وما ذكر من أنّ مراجعة العالم طريق اضطراري أوّل الكلام، فتأمّل)( [7]).
والحاصل: انه لو كان رجوعهم للمفضول من باب الحجة الاضطرارية للزم ان يتقيدوا بصورة العجز عن الأعلم أو الاضطرار إلى المفضول أو العسر والحرج، لكنهم – أي العقلاء – لا يتقيدون بذلك بل يرجعون للمفضول حتى في غير صورة الاضطرار لمجرد تعليلات لا ترقى إلى مرتبة العسر والحرج ولا إلى مرتبة الاضطرار.
بل نقول: ان بعض هذه الاعذار حتى وإن كانت في دائرة العسر والحرج بل حتى وإن كانت مراجعة الأعلم ذات مفسدة ما لوجه من الوجوه فان مقتضى القاعدة هو ملاحظة أقوى الملاكين لو كان الرجوع للمفضول من باب الاضطرار إذ ليست كل مفسدة وان خفتّ رافعةً للحكم الأولي حتى وإن كان شديد الأهمية، فيكشف بذلك( [8]) ان كليها حجة لديهم ولذا لا يلاحظون مرجحات باب التزاحم بينهما ولا قواعد الحكومة والناظرية بل يرجعون – ويرون ذلك تخييريا - للمفضول في عرض الرجوع للافضل وان كان في الرجوع للأفضل مفسدة ضعيفة جداً مما لا تستوجب صدق عنوان الاضطرار إلى تركها أو كان في الرجوع إليه حرج أو عسر لكن لا يزاحم – في القوة أو الشدة – مضرة ترك الأعلم أو منفعة مراجعته.
الرجوع للأعلم فعلٌ لا جهة له
كما أجاب النافون( [9]) بـ(وقد يقال: إن تقيّد البعض بمراجعة الأعلم في العلوم والشؤون لعله من باب الأحسنية، أو احتياطهم في الشبهات حتى البدوية منها – التي ثبت عدم وجوب الاحتياط فيها – لدرك الواقع، لا من باب عدم حجية قول العالم وعدم فراغ الذمة)( [10]).
والحاصل: ان رجوعهم للأعلم على فرض إطلاقه، فِعلٌ لا جهة له فلعله لحسنه ورجحانه لا لوجوبه وتعينه وسيأتي الكلام على ذلك كما سيأتي ضرورة فصل الاستدلال ببناء العقلاء عن الاستدلال بسيرتهم.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) لا بمعنى صِرف اللابدية.
([2]) أي ظاهر كلام كثير منهم.
([3]) أي كثير منهم.
([4]) لا رجاءاً أو في صورة إيراثه العلم العادي أو شبه ذلك.
([5]) هذا رد للشق الثاني.
([6]) بيان الفقه ج2 ص 15.
([7]) بيان الفقه ج2 ص15.
([8]) أي بعدم ملاحظتهم أقوى الملاكين لدى التزاحم بل رجوعهم للمفضول بأدنى عذر وان كان عسراً لا يعادله منفعة الرجوع للاعلم أو مفسدة تركه.
([9]) هذا رد للشق الأول.
([10]) بيان الفقه ج2 ص17.