بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(245)
4- النقاش في المبنى
ثم ان هذا كله كان مبنياً على ما درج عليه الأصوليون من البحث عن ان ألفاظ العبادات والمعاملات هل هي موضوعة لخصوص الصحيح منها أو الأعم.
قال في الكفاية: (العاشر: إنّه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات، أساٍم لخصوص الصحيحة أو للأعم منها؟)([1]) وقال: (بقي اُمور: الأول: إن أسامي المعاملات، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم، لعدم إتصافها بهما، كما لا يخفى، بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى، وأما إن كانت موضوعة للأسباب، فللنزاع فيه مجال، لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً)([2]).
ولكن قد يقال: بان معقد البحث ينبغي ان يكون أعم مما طرحوه ولو طولياً وذلك:
بان يبحث عن ان أسماءها هل هي موضوعة للصحيح بمعنى الجامع للأجزاء والشرائط، أو للأعم.
فعلى مسلك الطولية:
فان اخترنا انها موضوعة للأول([3]) فحينئذٍ يبحث عن انها موضوعة:
أولاً: للحلال أو الأعم من الحلال والحرام وذلك لما سبق من التفكيك بين الحكم التكليفي الوضعي:
أ- إذ قد يكون صحيحاً بمعنى كونه مؤثراً أثره لكنه يكون محرماً، ويمكن التمثيل له بعدة أمثلة:
منها: البيع وقت النداء.
ومنها: البيع بغش فانه حرام وليس بباطل بل للطرف الخيار.
ومنها: البيع أو الطلاق على خلاف الشرط فان البعض ذهب إلى انه صحيح حرام كما لو اشترطت عليه ان لا يتزوج عليها فتزوج الثانية فان مخالفته للشرط حرام لكن النكاح حسب رأي البعض صحيح. ونقل عن السيد الجد قدس سره القول بالبطلان لمبناه العام من ان الشروط تنتج حكماً وضعياً بالبطلان استناداً إلى ان مفاد (عند) في (المؤمنون عند شروطهم) هو انه يقف عنده، ولا يتجاوزه وضعاً.
ومنها: انه قد يكون من أمثلته، على بعض المباني، المحرم لمزاحمته للأهم، فانه على تقدير عصيان الأهم به يكون محرماً لكنه صحيح، كما لو أمره بالجهاد فخالف وانشغل بالتجارة فان بيعه وشراءه صحيح لكنه محرم بناء على ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص.
ومنها: ما هو الأولى التمثيل به وهو: ما لو نهاه عن التجارة أو عن الصلاة في سعة وقتها لتفويتها الأهم كالجهاد أو الحج فانها محرمة للنهي، وليس النهي ههنا إرشاداً للبطلان؛ وإن قلنا بان الأصل في النواهي في المعاملات هو الإرشاد للقرينة العامة على ذلك؛ وذلك لوجود القرينة الخاصة على انه للتحريم وذلك لأنه يريد ردعه والردع بالتحريم المولوي المستتبع للعقوبة، واما كون الحكم بالبطلان رادعاً فانه وإن صح لكنه لا شك في كونه أضعف ردعاً، وأهمية المفوَّت، كالجهاد، تقتضي الردع الأقوى، على ان الوجدان شاهد بمولوية التحريم في أمثال ذلك.
وعلى أي فان التجارة والكسب يكون محرماً حينئذٍ لكنه صحيح إذ لا وجه لبطلانه فان (وقوعه) مفوِّت لا (وقوعه صحيحاً) فالصحة والبطلان أجنبيان عن المفوتية فليس شيء منها مقدمةً فلا مجال لتوهم بطلانه من هذه الجهة. فتأمل
ومنها: لو كان بيعه موجباً لأذى أمه أو أبيه فانه حرام لكن لا دليل على بطلانه، ولا بأس ههنا بالإشارة استطراداً إلى الخلاف في حرمة ما يؤدي إلى أذية الوالدين مطلقاً أو في الجملة فقد ذهب بعض الأعلام إلى الحرمة مطلقاً، وذهب بعض الأعلام إلى التفصيل كما اختلفوا في البطلان أيضاً([4]).
ب- وقد يكون باطلاً لكن يكون غير حرام، كالبيع بدون شرائطه ككونه غير منجز أو بلا موالاة وكالنكاح والطلاق بغير الصيغة المخصوصة، ويمكن التمثيل له بالمضاربة أيضاً: وهي ان يكون المال يكون من أحدهما والعمل من الآخر والربح بينهما على حسب ما يتفقان عليه، فإذا شرط المالك على العامل ان تكون الخسارة عليهما فالأقوال ثلاثة: أحدها: بطلان الشرط والعقد ذهب إليه بعض، فعلى هذا فالمضاربة باطلة لكنه لم يفعل حراماً. ثانيها: بطلان الشرط دون العقد. ثالثها: صحة العقد والشرط، ذهب إليه صاحب العروة والقليل أو النادر من الفقهاء قال في العروة: ((مسألة): إذا اشترط المالك على العامل أن يكون الخسارة عليهما كالربح أو اشترط ضمانه لرأس المال ففي صحته وجهان، أقواهما الأول لأنه ليس شرطا منافيا لمقتضى العقد، كما قد يتخيل، بل إنما هو مناف لإطلاقه، إذ مقتضاه كون الخسارة على المالك وعدم ضمان العامل إلا مع التعدي أو التفريط)([5]).
واما الاخبار فتدل على انقلاب المضاربة حينئذٍ إلى قرض قهراً، وافتى بعض الأعلام بذلك، فيكون تمام الربح للعامل.
ج- وقد يكون باطلاً محرماً، كالعقد على الأم، وكالربا. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وَيُسْكِنَهُ جَنَّتَهُ فَلْيُحْسِنْ خُلُقَهُ، وَلْيُعْطِ النَّصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَلْيَرْحَمِ الْيَتِيمَ وَلْيُعِنِ الضَّعِيفَ، وَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ)) الأمالي (للصدوق): ص389.
([1]) الآخوند الشيخ محمد علي كاظم الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم ص23.
([2]) المصدر نفسه: ص32-33.
([3]) بل مطلقاً، كما سيأتي.
([4]) قال في العروة ج3 ص672-673: (وإذن الزوج بالنسبة إلى الزوجة إذا كان منافيا لحقه وإذن الوالد أو الوالدة بالنسبة إلى ولدهما إذا كان مستلزما لإيذائهما) ولم يعلق غالب المحشين وعلق القليل منهم كالسيد الگلپايگاني (على الأحوط نعم مع النهي والإيذاء من مخالفته فالأقوى البطلان). وكذلك احتاط السيد عبد الهادي الشيرازي. فتأمل
وقال في المستند ج2 ص362-363: (أما إذا لم يستلزم الإيذاء كما لو لم يكن عن اطلاع منهما بان كانا- مثلا- في بلد والولد يعتكف في بلد آخر فلا اشكال فيه. وأما مع الإيذاء فهل يكون باطلا؟ لا ريب في عدم جواز إيذاء الوالدين فيما يرجع إليهما ويكون من شؤونهما كالسب والهتك والتعدي ونحو ذلك. بل ان الإيذاء بهذا المعنى حرام بالإضافة الى كل مؤمن. غايته انه فيهما آكد والعقوبة أغلظ و أشد.
وأما الإيذاء فيما يرجع الى الشخص نفسه بان يعمل فيما يعود الى نفسه ويتصرف في شأن من شؤونه، ولكن يترتب عليه الإيذاء، فلا ريب أيضا في عدم حرمة هذا الإيذاء بالإضافة الى غير الوالدين كمن يفتح حانوتا في محل يتأذى منه رقيبه لمزاحمته له في جلب المشتري بطبيعة الحال، أو من يعمر دارا ويشيد قصرا يتأذى بذلك جاره لحسد أو رقابة ونحو ذلك من غير أن يكون من قصده الإيذاء وانما هو قاصد للتجارة أو العمارة ليس إلا. فإن هذا جائز بلا اشكال وان ترتب عليه الإيذاء المزبور.
وهل الحال كذلك بالإضافة إلى الوالدين أيضا، كما لو أراد الولد أن يتزوج بامرأة ولكن الام تتأذى لعدم تلائم أخلاقها معها خصوصا أو عموما أو انه أراد أن يتصدى لتحصيل العلوم الدينية والأب يتأذى لرغبته في تحصيل العلوم الحديثة كما يتفق ذلك في هذه الأزمنة كثيرا. فهل يحرم مثل هذا الإيذاء؟
الظاهر العدم كما في غير الوالدين حسبما عرفت لعدم الدليل على ذلك بوجه، وانما الواجب المعاشرة الحسنة والمصاحبة بالمعروف على ما نطقت به الآية الكريمة وغيرها مثل ان لا يجادل معهما في القول ولا يقول لهما أف. وأما ارتكاب عمل عائد إلى شأن من شؤون نفسه وان ترتب عليه إيذاؤهما من غير أن يكون ذلك من قصده فلم تثبت حرمته بدليل
([5]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى، مؤسسة النشر الإسلامي، 1420هـ، ج5 ص161-162.
|