بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(97)
التزاحم الإحرازي
سبق أنّ المحقق النائيني اختار (في بحث دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته، تقديمَ محتمل الأهمّية، وذكر في وجه ذلك: أنّ كل تكليف واصل إلى المكلف يقتضي أمرين: لزوم الامتثال وإحرازه. وعليه فالوجوب المعلوم بالاجمال في المقام كما يقتضي إيجاد متعلقه، كذلك يقتضي إحراز الايجاد بإتيان كلا الفعلين، وكذا الحرمة المعلومة بالإجمال تقتضي ترك متعلقها وتقتضي إحرازه بترك كلا الفعلين، وهذان الحكمان وإن لم يكن بينهما تزاحم من ناحية أصل الامتثال، إذ المفروض تغاير متعلقي الوجوب والحرمة وتمكن المكلف من إيجاد الواجب وترك الحرام، إلّا أنّهما متزاحمان من ناحية إحراز الامتثال، إذ قد عرفت أنّ إحراز امتثال الوجوب يستدعي الاتيان بكلا الفعلين، وإحراز امتثال الحرمة يقتضي ترك كليهما، فلا يمكنه إحراز امتثالهما معاً.
وقد عرفت أيضاً أنّ إحراز الامتثال من مقتضيات التكليف بحكم العقل، فكما أنّ عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه الوجوب من الفعل وما تقتضيه الحرمة من الترك يوجب التزاحم بينهما، كذلك عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه كل منهما من إحراز الامتثال يوجب التزاحم بينهما أيضاً)[1].
وأجاب عنه السيد الخوئي بثلاثة أجوبة:
1- الإشكال النقضي
(وفيه أوّلًا: النقض بما إذا علم تساوي الحكمين في الأهمّية، فانّ لازم كونهما من المتزاحمين أن يحكم حينئذ بالتخيير، فللمكلف أن يختار الوجوب ويأتي بكلا الفعلين، وله أن يختار الحرمة ويتركهما معاً. مع أنّ المحقق النائيني (قدس سره) لم يلتزم بذلك[2] وذهب إلى لزوم الاتيان بأحد الفعلين وترك الآخر حذراً من المخالفة القطعية في أحد التكليفين)[3] والظاهر ان النقض تام، لكنه غير وارد علينا إذ نلتزم بالتخيير بين الصور الأربعة كما سيأتي.
2- لا دليل على لزوم الأخذ بمحتمل الأهمية، وجوابه
وقال: (وثانياً: أنّه لو سلّمنا دخول المقام في باب التزاحم، لا دليل على لزوم الأخذ بمحتمل الأهمّية في باب التزاحم مطلقاً ليجب الأخذ به في المقام، إنّما الوجه في ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ الحكمين المتزاحمين لا مناص من الالتزام بسقوط الاطلاق في كليهما أو في أحدهما، ومن الظاهر أنّ ما لا يحتمل أهمّيته قد علم سقوط إطلاقه على كلا التقديرين، وأمّا ما احتمل أهمّيته فسقوط إطلاقه غير معلوم، فلا بدّ من الأخذ به. هذا فيما إذا كان لدليل كل من الحكمين إطلاق لفظي.
وأمّا إذا لم يكن لشيء من الدليلين إطلاق، فالوجه في تقديم محتمل الأهمّية هو القطع بجواز تفويت ملاك غيره بتحصيل ملاكه. وأمّا تفويت ملاكه بتحصيل ملاك غيره فجوازه غير معلوم، فتصحّ العقوبة عليه بحكم العقل، فلا مناص من الأخذ بمحتمل الأهمّية، وهذان الوجهان لا يجريان في المقام، إذ المفروض بقاء الاطلاق في كلا الحكمين، لعدم التنافي بين الاطلاقين ليرفع اليد عن أحدهما، وعدم ثبوت جواز تفويت الملاك في شيء منهما، إذ كل ذلك فرع عجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين، والمفروض قدرته على امتثالهما لتغاير متعلق الوجوب والحرمة على ما تقدّم)[4].
وقد ظهر الجواب عنه مما مضى إذ بنى الأمر كله على قدرة المكلف على امتثالهما إذ قال: (إذ كل ذلك فرع عجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين، والمفروض قدرته على امتثالهما لتغاير متعلق الوجوب والحرمة على ما تقدّم)، إذ أوضحنا أن المناط في جميع التكاليف العقلائية والشرعية هو القدرة العرفية[5] وهي غير متحققة وإن تحققت القدرة العقلية.
كما أوضحنا انه وإن سلمنا ذلك إلا أن العقل لا يفرق بين الصورتين في الحكم بالإلزام بالإتيان بمحتمل الأهمية.
3- لزوم إحراز الامتثال مشترك بين التكاليف
وقال، وهذا هو بيت القصيد في بحثنا الآن: (وأمّا ما ذكره (قدس سره) من حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال، فهو مشترك فيه بين جميع التكاليف الالزامية، من غير فرق بين ما كان في أعلى مراتب الأهمّية، وما كان في أضعف مراتب الالزام، فلا موجب لتقديم محتمل الأهمّية على غيره والحكم بلزوم موافقته القطعية وإن استلزمت المخالفة القطعية للتكليف الآخر)[6].
الجواب: الإحراز درجات، والإلزام به بحسب درجات الوجوب المتعلَّق
فيردّ عليه: أنَّ (الإحراز) وإن كان مشتركًا بين جميع التكاليف الإلزامية، إلا أنَّ الفرق متحقّق بين مراتبها ودرجات إحرازاتها، وذلك لأنَّ الإحراز حقيقةٌ تَشكيكيةٌ ذاتُ مراتب:
البرهان الإنّي
فهناك الإحراز بالعلم، وهو الـمُشترَط في أصول العقائد، وهناك الإحرازُ العلمي، وهو الكافي في الأحكام الشرعية وفي باب القضاء ونظائرهما، وهناك ما اشترط فيه الشارعُ إحرازًا أشدَّ، كشهادةِ الأربعةِ في الزنا، وما اكتفى فيه بالأخفِّ كشهادة الاثنين في السرقة، أو بالأخف كشهادة الواحد أو الواحدة مع اليمين في حقوق الناس مطلقاً أو في الجملة (أي في خصوص الأموال كما هو المشهور، أو في خصوص الدَّين). وفي النكاح اكتفى بقوله أو قولها، كما اكتفى الشارع بغيبة المسلم للحكم بالطهارة وبسوق المسلمين ويد المسلم للحكم بالحلية ونظائرها، كما اكتفى أحيانًا بالإحراز الاستصحابي، وقدّم عليه الإحراز الظني أي ما كان بالظنِّ النوعيّ المعتبر.
والبرهان الإنِّي يكشف عن ان الإلزام بدرجات الإحراز منوط انه بحسب أهمية المتعلَّق، وبدرجات أهميته تكون أهمية الإحراز بدرجاته.
وعليه: فكما يجب في باب التزاحم تقديم معلوم الأهمية (أي الملاك الأهم) ومحتمل الأهمية، كذلك في باب الإحراز فإن درجات الإلزام بالإحراز فيه تكون بحسب أهمية المتعلَّق والمحرَز، فيجب فيما كان لدى الشارع أو العقلاء أهم، إحرازه بدرجة أعلى، عكس العكس، فمثلاً: مادام حفظ الثغر من هجوم العدو المؤدي إلى قتل النفوس وهتك الأعراض، أهم فإنّ إحراز ما به يحفظها، باتخاذ أشد التدابير والاعتماد على أوثق الأخبار والتقارير[7]، يكون وجوبه أشد، مما كان متعلقه أمراً عادياً كحفظ زيد من أن يضرب، مقابل أن يهتك عرضه ويعتدى على زوجته، فإنه يكفي في إحراز حفظه من الضرب مراتب الإحراز العادية، كخبر شخص ثقة عادي بأنه في مكان محفوظ منه، أما الزنا والقتل وهجوم العدو فلا يكفي فيه اخبار شخص عادي بأن التحصينات كافية بل لا بد من تحصيل الإحراز القطعي أو الاطمئنان.. وهكذا.
وبعبارة أخرى: أين إحراز انك صُنت مالاً يسيراً، من إحراز أنك صُنت عرضك من الهتك أو نفسك من القتل؟ سواء الإحراز الثبوتي عبر ايجاد المقدمات أم الإثباتي عبر إخبار الثقة أو الشهود بأن الصون قد تمّ.
البرهان اللمّي
وبوجه آخر: نبدأ فيه من العلّة ونستعين بالبرهان اللمي: بأن نقول: المتعلَّق قد يكون أهم، فيكون طلبه أشد، فيكون إيجابه (ووجوبه) آكد، فيكون امتثاله أولى فيكون وجوب إحراز إمتثاله آكد وأشد[8].
وكما إذا كان المتعلَّق معلوم الأهمية يكون الأمر كما ذكر في كل تلك المراتب، كذلك إذا كان المتعلَّق محتمل الأهمية فيها جميعاً كذلك.
بعبارة أخرى: انّ أهمية المضاف، بدرجاته، تكون على حسب أهمية المضاف إليه بدرجاته، كما ان أهمية الكاشف والدال والدليل بدرجاته تكون على حسب أهمية المنكشف به بدرجاته، فبحسب ذلك تختلف درجات طلب المتعلَّق ووجوبه، وطلب مقدماته الوجودية والعلمية.
التخيير بين أربع صور في حالة تساوي الطرفين
كما سبق: (وأما لو أحرز تساوي الأمرين والضررين فيجب أن يكون مخيراً بين:
1- شربهما، لأنه إن شربهما شفي من السرطان وإن ابتلي بالإيدز.
2- وتركهما فإنه بالعكس.
والفرض انهما متساويان، فلا فرق.
4-3- أو شرب أي منهما شاء، كما اختاره (قدس سره)، لأنه مع شرب هذا الإناء يحتمل أن يشفى من السرطان كما يحتمل أن يبتلى بالايبولا وهما سيان، وكذا العكس، فهو مخير بين هذه الثلاثة لا بين الأخيرين فقط. وللبحث صلة وتتمة فانتظر)[9].
والتتمة هي: أنَّ التخيير ليس بين الصورتين الأوليين فقط بل بين الصورتين الأخيرتين أيضاً، وذلك لأنه مع شربه الإناء الذي على اليمين فإنه كما يحتمل أن يكون هو الذي به الشفاء من السرطان، فإنه يحتمل أن يكون سبب مرضه بالايبولا فيبتلى بها إضافة إلى السرطان، والفرض ان الاحتمالين متساويان إذ يحتمل 50% أن يكون به شفاء السرطان و50% أن يكون به التمرض بالايبولا أيضاً، وعكسه عكسه، وعليه: فهو مخير بينهما، لكنه إنما يكون لو أحرز تساوي الطرفين لدى العقلاء أو لديه، وأما مع احتمال أهمية أحدهما لديه أو لدى العقلاء، كما لو فرض انه يرى أن 50% شفاء مرجوحة بالنسبة إلى 50% ابتلاء بمرض آخر شديد إضافي، فإنه يجب حينئذٍ تقديم الترك، والعكس بالعكس فتدبر.
ثم انّه على فرض تساوي الصورتين الأخيرين لديه، فالتخيير بين الصور الأربعة قائم فتدبر وتأمل والله العالم.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيْءٌ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ، وَخَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالضَّرُّ لِعِبَادِ اللَّهِ» تحف العقول: ص35.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
__________________________
[1] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مؤسسة إحياء آثار السيد الخوئي ـ قم: ج1 ص396.
[2] أجود التقريرات 3: 540، فوائد الاصول 4: 263 و 264
[3] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مؤسسة إحياء آثار السيد الخوئي ـ قم: ج1 ص396.
[4] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مؤسسة إحياء آثار السيد الخوئي ـ قم: ج1 ص397.
[5] إلا الحج، على كلام في أن القدرة الشرعية هل هي غير العرفية أو لا.
[6] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مؤسسة إحياء آثار السيد الخوئي ـ قم: ج1 ص397.
[7] والأول مقدمة وجود والثاني مقدمة علم وإحراز.
[8] سبق مزيد إيضاح لمشككية الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة.
[9] الدرس (1115/95).
|