بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(95)
سبق: (وأما القول بكونه من التزاحم أو هو ملحق به حكماً - عقلاً، فهو الصحيح، لأن لكل منهما ملاكاً تاماً لأن حرمة التصرف في التراب المغصوب، ذات ملاك ومفسدة، ووجوب التيمم للصلاة بالتراب المباح ذو ملاك ومصلحة، وقد ضاقت قدرة العبد عن إحراز الملاكين ثبوتاً أو إثباتاً[1]، نظراً لاشتباه محصِّلها؛ لأنه:
إن ارتكبهما فقد أحرز مصلحة الواجب لكنه ارتكب مفسدة الغصب المحرم وإن تركهما حصل العكس.
وإن ارتكب أحدهما: فإن كان هو التراب المغصوب واقعاً فقد ارتكب الحرام، ولم يحصل على ملاك الواجب إذ التيمم بالمغصوب لا ملاك فيه، أو إن ادعي أن فيه الملاك فقد جمع بين الواجب والحرام وملاكيهما فقد ضاقت قدرته عن تحصيل ملاك الواجب وتجنب ملاك الحرام.
وإن كان هو الآخر المباح واقعاً، فقد حصل على ملاك الواجب، لكنّه لا محرز له، وإنما يحرزه لو ارتكبهما، لكنّ الواقع انه لا يعلم أن ما يرتكبه التراب المغصوب أو المباح فوِزان كل منهما وِزان الآخر)[2].
إيضاح تحقق التزاحم في الترابين المشتبهين
ومزيدُ التوضيح: إنَّ التزاحم واقعٌ بين الخيارين الأوّلين (أن يرتكبها وأن يتركهما) كما أوضحناه؛ إذ في فعلهما الملاك (المصلحة والمفسدة جميعاً)، وفي تركهما الملاك (المصلحة والمفسدة، ولكن على العكس)، وقد ضاقت قدرته عن الجمع بينهما.
وأمّا الخياران الثالث والرابع، فلو كان الثالث (أي لو تيمّمَ بالتراب المغصوب) ففيه ملاكُ المفسدة[3]، ولو كان الرابع (أي تيمّمَ بالمباح) ففيه ملاك المصلحة دون المفسدة.
المناقشة: ملاك التزاحم بعدم القدرة، والقدرة متحققة في المقام
لكنه قد يناقش كونه من التزاحم نظراً لأنه لم تضق القدرة عن الامتثال، بل عن إحرازه فقط، إذ التراب المباح في متناول يده، لكنه لا يعلمه، فيمكنه إذاً أن يتيمم به، أي يمكنه واقعاً الامتثال (إذ كل من الطرفين مقدور وأحدهما هو التراب المباح فهو مقدور) فليس إذاً، على هذا، من التزاحم.
فذلك هو ما بنى عليه السيد الخوئي (قدس سره) في بحث الدوران بين المحذورين مع تعدد الواقعة (واحتمل أهمية أحد الحكمين)، وسنجيب عنه بأجوبة، فلننقل عبارته أولاً، قال: (والصحيح هو الثاني، لأنّ الحكمين المردد كل منهما بين الوجوب والحرمة وإن لم يكونا من قبيل المتعارضين، إذ لا تنافي بينهما في مقام الجعل بعد فرض أنّ متعلق كل منهما غير متعلق الآخر، إلّا أنّهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضاً، إذ التزاحم بين التكليفين إنّما هو فيما إذا كان المكلف عاجزاً من امتثال كليهما، والمفروض في المقام قدرته على امتثال كلا التكليفين، غاية الأمر كونه عاجزاً عن إحراز الامتثال فيهما، لجهله بمتعلق كل منهما وعدم تمييزه الواجب عن الحرام، فينتقل إلى الامتثال الاحتمالي بايجاد أحد الفعلين وترك الآخر، فلا وجه لاجراء حكم التزاحم وتقديم محتمل الأهمّية على غيره بايجاد كلا الفعلين لو كان محتمل الأهمّية هو الوجوب، أو ترك كليهما لو كان محتمل الأهمّية هي الحرمة)[4].
الأجوبة: 1- العقل مستقل بتقديم محتمل الأهمية مطلقاً
أقول: أولاً: لا يهم في المقام كونه من التزاحم المصطلح أو لا، إذ وِزانهما واحد في حكم العقل كما سلف آخر الدرس السابق (حكم العقل المستقل) فإنّ العقل يستقل في هذه الصورة، دوران الأمر بين المحذورين بتقديم محتمل الأهمية فراجع ما مثّلنا به بدقة، على أنّ الغصب معلوم الأهمية بالنسبة لمصلحة التيمم كما أسلفناه[5]، بل قد يدعى أن عليه ارتكاز المتشرعة مؤيداً تحققه بحكم المشهور شهرة عظيمة على طبقه لذا افتوا بتركهما فإن نوقش كفى كونه محتمل الأهمية.
2- والمقام من التزاحم، إذ القدرة العرفية مفقودة
ثانياً: هما من قبيل المتزاحمين، وقوله: (إذ التزاحم بين التكليفين إنّما هو فيما إذا كان المكلف عاجزاً من امتثال كليهما، والمفروض في المقام قدرته على امتثال كلا التكليفين)، يُرد عليه أنه فاقد للقدرة العرفية وإن كان واجداً للقدرة العقلية، والمدار في تكاليف الشارع، بل في تكاليف العقلاء جميعاً، هو القدرة العرفية لا العقلية، إلا النادر مما لو نصوا عليه، مما كان بالغ الأهمية جداً، على أنه لا نعهد له مثالاً إلا الأندر من النادر[6].
وفي المقام، لا توجد قدرة عرفية، فتدبر في المثال السابق، فإنّ مَن وجد أمامه إناءين أحدهما فيه الشفاء من مرضه، والآخر فيه السم الزعاف المهلك، لا يقال عرفاً إنه قادر على معالجة نفسه، لمجرد قدرته عقلاً على أن يشرب من الإناء الواقعي الذي فيه الشفاء ومطابقة ما اختاره، صدفةً، للواقع، والحاصل: انه يصح سلب القدرة عنه عرفاً.
وبعبارة أخرى: إنّ عجزه عن إحراز الامتثال واسطة في الثبوت لعجزه عن الامتثال، لا واسطة في العروض، والحيثية تعليلية لا تقييدية، فتدبر، فإنه دقيق، ولو أعطيته حقه من التدبر لأذعنت بما ذُكر وسُطِّر.
والحاصل: المقام مقام التزاحم، لاجتماع شروطه الثلاثة: أن يشتمل المتعلَّق على الملاك، وأن لا يتكاذب الدليلان (وهو واضح إذ لا يكذِّب دليلُ الغصب دليلَ وجوب التيمم بالمباح، ولا يوجب ثبوت مدلول أحدهما انتفاء مدلول الآخر في عالم الجعل)، وأن لا يكون قادراً على امتثال التكليفين.
3- والتزاحم الإحرازي، تزاحم
ثالثاً: ما أجاب به المحقق النائيني[7]، الذي يبدو[8] انه سلّم ثبوت القدرة على الامتثال، فأجاب بأن التزاحم نوعان: ما يعجز عن الامتثال وما يعجز عن إحرازه، وعلّله بأنّ التكليف الواصل إلى المكلف يقتضي، بحكم العقل، أمرين: لزوم الامتثال ولزوم إحرازه (إذ لا يكفي، في حكم العقل، أن يكتفي العبد بالإتيان بما يحتمل كونه امتثالاً مع قدرته على الإتيان بما يحرز به الامتثال، فلو قال له جئني بماء، لما كفى، في حكم العقل، أن ياتيه بشيء يحتمل كونه ماءً كما يحتمل كونه نفطاً مثلاً)، وفي دوران الأمر بين الشرطية والمانعية، وهو موطن كلامه عن دوران الأمر بين المحذورين، فإنه وإن لم يكن بينهما تزاحم في مقام الامتثال نظراً لتمكّن المكلف من إيجاد الواجب وترك الحرام، لكنهما متزاحمان من ناحية إحراز الامتثال، ثم فرّع عليه لزوم تقديم محتمل الأهمية[9].
تأكيد وإيضاح
أقول: وكما سبق، فإنه لا يهم، في المقام[10]، البحث الاصطلاحي، وأنه من التزاحم أو لا، إذ المهم أنه ما دام البحث عن حكم العقل، وما دام الإذعان بأن الأمر من المستقلات العقلية، فإننا نجد بوضوح أن العقل يحكم بتقديم محتمل الأهمية على طرفه، سواء أكان من تزاحم الامتثالين، أم كان من تزاحم (أو تصادم أو تعارض، سمّه ما شئت) الإحرازين، أو فقل: سواء أكان لعدم قدرته على الامتثال القطعي بالإتيان بكل من الطرفين، أم لعدم قدرته على إحراز الامتثال، وإن كان قادراً على الامتثال واقعاً (مع عدم تمييزه له وجهله به في عالم الإثبات)، فراجع مرة أخرى مثال المريض بالسرطان، وتدبر به تجده وافياً بالمطلب، ولعلنا نكمل بعض الكلام ونجيب عن بعض ما أشكل به المصباح على كلام المحقق النائيني (قدس سره).
والمقام من التزاحم الامتثالي لا الملاكي
تنبيه: التزاحم إما ملاكي أو امتثالي، والملاكي أمره بيد الجاعل، فإنّ الملاكات وتزاحماتها وموانعها وروافعها وشرائطها بيده، وليست بأيدينا إلا الحِكَم. وهذا هو سر اختلافنا مع العامة، إذ اقتحموا في عالم ملاكات الشارع وفي عالم الجعل، إذ قالوا بالقياس، والاستحسان، وسد الذرائع، بينما اختص تعالى علمه بالراسخين في العلم (عليهم الصلاة والسلام).
وليس الكلام في المقام عن التزاحم الملاكي، بل عن التزاحم الامتثالي، وذلك إنما يكون بعد تمامية إحراز الملاك التام، والذي لا يكون إلا عبر نص وارد من الشارع، فيُكتشف به بالبرهان الإنِّي تمامية الملاك (وكذلك عبر استقلال العقل به فيما كان من دائرة المستقلات العقلية). والفرض في المقام أنه كذلك، لأن دليل الغصب تام، فملاكه تام، وهو منجز[11] حرمته مسلمة، ودليل التيمم بالماء والتراب المباحين غير المغصوبين أيضاً تام منجز كما سبق، لكنهما حيث اشتبها لم يعد بإمكانه إحراز ما يمتثل به أمر التيمم بالمباح، وما يتجنب به عن التراب المغصوب المنهي عنه، فكلاهما، كما سبق، له ملاك، لكنه حيث اشتبها لم يمكنه التمييز بينهما، وحيث لم يمكنه التمييز أبداً فليس بقادر عرفاً على التيمم بالتراب المباح.
عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «منْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ بِمُسْتَكْبِرٍ وَلَا جَبَّارٍ إِنَّ الْمُسْتَكْبِرَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ غَلَبَهُ هَوَاهُ فيه وَآثَرَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ.
وَمَنْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ كُلِّ نِعْمَةٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ» الخصال: ج1 ص299.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
__________________________
[1] (ثبوتاً) كالصورة الأولى مما سيأتي، إثباتاً كالصورة الرابعة، فتدبر فإن فيه دفع دخلٍ، وسيأتي في المتن بعنوان الإحراز.
[2] الدرس (1115/95).
[3] مع ملاك مصلحة في التيمم به أولاً، على احتمالين، ولا يهم ذلك.
[4] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، مؤسسة إحياء آثار السيد الخوئي ـ قم: ج1 ص395.
[5] آخر الدرس السابق.
[6] لعل مثاله الوحيد الدفاع، في بعض صوره فقط.
[7] فوائد الأصول ج4: 263-264 أجود التقريرات: ج3 ص540.
[8] بل هو كذلك.
[9] (واختار المحقق النائيني (قدس سره) في بحث دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته تقديم محتمل الأهمّية، وذكر في وجه ذلك: أنّ كل تكليف واصل إلى المكلف يقتضي أمرين: لزوم الامتثال وإحرازه. وعليه فالوجوب المعلوم بالاجمال في المقام كما يقتضي إيجاد متعلقه، كذلك يقتضي إحراز الايجاد بإتيان كلا الفعلين، وكذا الحرمة المعلومة بالإجمال تقتضي ترك متعلقها وتقتضي إحرازه بترك كلا الفعلين، وهذان الحكمان وإن لم يكن بينهما تزاحم من ناحية أصل الامتثال، إذ المفروض تغاير متعلقي الوجوب والحرمة وتمكن المكلف من إيجاد الواجب وترك الحرام، إلّا أنّهما متزاحمان من ناحية إحراز الامتثال، إذ قد عرفت أنّ إحراز امتثال الوجوب يستدعي الاتيان بكلا الفعلين، وإحراز امتثال الحرمة يقتضي ترك كليهما، فلا يمكنه إحراز امتثالهما معاً.
وقد عرفت أيضاً أنّ إحراز الامتثال من مقتضيات التكليف بحكم العقل، فكما أنّ عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه الوجوب من الفعل وما تقتضيه الحرمة من الترك يوجب التزاحم بينهما، كذلك عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه كل منهما من إحراز الامتثال يوجب التزاحم بينهما أيضاً). (مصباح الأصول: ج1 ص396).
[10] وإن فرضت له في غير المقام ثمرة.
[11] للعلم الإجمالي بأن أحدهما مغصوب.
|