• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 201- مباحث الاصول - (الوضع) (8) .

201- مباحث الاصول - (الوضع) (8)

مباحث الأصول: الوضع (فوائد الوضع)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

الفائدة  الحادي عشر : يمكن الاعتماد على حال المتكلم وإصالة الحقيقة لتحديد الوضع ؛ حيث إن استعمال المتكلم لفظاً في معنى كاشف عن أرادته للمعنى الحقيقي منه ؛ ومقتضى حكمته نصب القرينة لو أراد المجاز منه وإلا نقض غرضه ؛ فعدم ذكر القرينة يدل على عدم وجودها؛ وبه يكون  المتكلم أراد المعنى الحقيقي حتماً.
إن المتكلم كلما استخدم لفظاً في معنى - وقد ضح لنا مراده منه- وشككنا في وجود  قرينة  من عدمها فظاهر حاله عدمها [1]؛ لأن كان مسؤوليته العقلائية والشرعية أنه لو كان كلامه محتفاً بقرينة فعليه إيصالها أيضاً ؛فإذا لم يوصلها  دل أنه لم يستخدمها ؛ فيكون عدم الإيصال إثباتاً دليل عدم الوجود - وعدم الاستخدام-  ثبوتاً.
وبعبارة أخرى: أن أصالة الحقيقة يمكن الاعتماد عليها أيضاً لتحديد الوضع؛ لأن المتكلم الحكيم عندما يأمر أو ينهى لو أراد المعنى المجازي فلابد من نصب القرينة وإلا توهموا أنه مراده المعنى الحقيقي، فيلزم من ذلك نقض الغرض لامتثالهم غير ما أراد[2] ،  فدل ذلك على أنه أراد المعنى الحقيقي من كلامه حتماً؛ حيث إن هذا المتكلم إما أن يكون هو الشارع أو من عامة الناس.
فإن كان الأول [3]: فلا شك في أن ذهن الشارع هو مرآة للواقع ومرآة للعرف أيضاً [4] ؛ وعليه فلو أنّ الشارع استخدم لفظاً معيناً ولم ينصب قرينة في استعماله لدل ذلك على أنه يراه هو الموضوع له حقيقة ؛ فإن لم ينصبها ثبوتاً دل ذلك على أنه يرى المعنى الذي استعمله فيه هو المعنى الموضوع له حقيقة ، وهذا في حق الشرع مما لا نقاش فيه .
فعندما لم يوصل إلينا من المولى حكم دل ذلك على أنه لم يرده ، أو أنه لم ينشأه  ، بل أنّه لو أنشأه ولم يوصله إلينا دل ذلك على عدم وصوله إلى مرتبة الفعلية والتنجز، وأن المولى قد أبقاه في مرتبة الاقتضاء.
وإن كان الثاني: فإن ذهن الشخص الواحد من أفراد العرف هو مرآة للمجموع من العرف ؛ لجريان بناء العقلاء وسيرتهم على ذلك [5] ، فيكون هذا المجموع  مرآة للوضع حقيقة؛ لأنهم قد تلقوا اللغة كذلك يداً بيد وابناً عن أب.
وتوضيحه: إن غير العارف بلغة القوم في بلد معين [6] لو لم يكن يميز بين المعاني الحقيقية والمجازية في كلامهم ، ورأى واحداً من أفراد عرف ذلك البلد استخدم كلمة في معنى معين من دون أن ينصب قرينة دل على أن هذا المعنى هو الموضوع له حقيقة عندهم؛ لأن بناء العقلاء على أن ذهن آحاد الناس هو مرآة للعرف؛ وأن العرف بدوره هو مرآة للوضع [7]، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أمكن التعرف على الوضع في أية لغة من اللغات، بل لما أمكن التعرف حتى لو رأينا ألوف الاستعمالات بدون قرينة [8] .
وبتعبير آخر: إن الشخص – سواء كان فقيهاً أم من عامة الناس – إذا لاحظ لفظة معينة تبادر إلى ذهنه منها معنى معين، فيكون هذا الانسباق والتبادر هو علامة الحقيقة [9] ؛لأن التبادر في ذهنه  يُعدّ عند العقلاء مرآة للعرف العام وللوضع، والكل يبني على ذلك [10]، وكما هو الحال في الشخص المذكور، فكذلك الحال في آحاد المكلفين جميعاً.
وبتعبير ثالث: كما يصح للشخص أن يستخدم القرائن الأربعة طريقاً لاكتشاف الوضع، فإنه يمكن لكل إنسان أن يكتشف الوضع فيما إذا رأى شخصاً من أبناء اللغة والعرف قد طبّق علامات الحقيقة، واستدل بها على الوضع، فينطلق منها ذلك الناظر إلى أن الموضوع له هو المعنى المتبادر لهذا الشخص ـ المنظور إليه ـ إذ لا فرق بين الناظر والمنظور إليه في وجه مرآتية ذهنهِ للعرف، ومن ثمّ للوضع.
والخلاصة: إن رؤية الفرد من العرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى استناداً للارتكاز والقرائن الأربعة هو حجة على الغير ؛ وهذا بحث مبنائي ومفصلي تترتب عليه ثمرات كثيرة في الفقه سلباً أو إيجاباً [11].

بحث تطبيقي :        
من الأدلة [12] التي استدل عليها صاحب  المستند على تعميم الرشوة - في الحق والباطل -  ما جاء في الصحيح: عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام)  عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحول من منزله فيسكنه ؟قال (عليه السلام): لا بأس به ) [13] ،  فإن الأصل في الاستعمال- إذا لم يعلم الاستعمال في غيره - الحقيقة [14]، كما حقق في موضعه [15] .
واستشكل  عليه في فقه الصادق بإشكال مشهور ؛ وهو: أن أصالة الحقيقة إنما يرجع إليها في تشخيص المراد بعد العلم بالوضع ، ولا يرجع إليها لتشخيص الموضوع له مع العلم بالمراد [16].
وهنا نقول: عدم تمامية الصغرى التي استند إليها في المستند ؛ لوجود القرينة الدالة على المعنى المراد في الرواية؛ وعليه فلا يمكن القول :إن المعنى المستعمل فيه اللفظ هو المعنى الحقيقي ؛ لأن المتعلَّق المذكور في الرواية هو حق وأمر جائز وليس بباطل [17].
والحاصل: أن الرشوة قد استخدمت في الرواية فيما بذل للحق ؛ فلا يصح الاستناد إليها لإثبات أن الرشوة موضوعة للأعم [18].

-----------------
[1] أي: دلالته عليه بدون قرينة.
[2] وهذا خلاف حكمته.
[3] وهو الشارع.
[4] فيما لو كان العرف في نظر الشارع هو المرجع.
[5] ملاحظة تحقيقية: كانت هذه العبارة في المتن  : ( حيث الكلام في العرف ، واللفتة هنا هي مرآتية أذهان آحاد عامة الناس أيضاً، للوضع وللعرف أيضاً ) وهذه العبارة لا تخلو من تشويش في الوصول لمطلبها ، لذا وضعنا هذه العبارة ، وهي كذلك من المتن وقد جاءت بمعنى( الخلاصة) ، ولكن مع بعض التصرف فيها .
[6] كمَنْ لا يعرف الفارسية مثلاً.
[7] بل يصح القول: إن ذهن آحاد الناس مرآة للوضع مباشرة.
[8] إذ من أين نعرف أن الواضع وضع هذا اللفظ لذلك المعنى لو لم يكن ما ذكر ـ من المرآتية للوضع ـ تاماً ؟ نظراً لأن هؤلاء الألوف من المستعملين لم يكونوا في زمن الوضع ، خاصة على مبنى مشهور المتأخرين من أن أهل اللغة أيضاً ليسوا أهل خبرة في الوضع.
[9] مع أنّ هذا الشخص لم يكن في زمن الوضع ، وعلامة الحقيقة هي : التبادر ،والاطراد، وصحة الحمل، وعدم صحة السلب.
[10] والكلام في الأصل العام وبصورة مبدئية لا في حالة التعارض.
[11] فقه الرشوة : ص111 باختصار.
[12] فقد استدل كذلك بقول اللغويين.
[13] تهذيب الأحكام: ج6ص375.
[14] أي يدل على الحقيقة.
[15] مستند الشيعة : ج17ص 71.
[16] انظر: فقه الصادق ج14ص271، وفيه: أن أصالة الحقيقة إنما يرجع إليها لتشخيص المراد لا لتعيين الموضوع له بعد معلومية المراد.
[17] إذ هو لأجل أن يتحول الساكن من هذا المنزل إلى منزل آخر، وهذا أمر مباح وحلال دون ريب .
[18] فقه الرشوة :ص 104 باختصار.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2803
  • تاريخ إضافة الموضوع : 28 ذي الحجه 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28