بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان البحث حول رواية عبد الله بن طاووس عن الامام الرضا عليه السلام والتي ورد فيها (( انه من دان بدين قوم لزمته احكامهم )) ,ونذكر الان تتمة مهمة لما اشرنا اليه في البحث الماضي 1 .
تتمة:ذكرنا ان ابن طاووس قد حسّنه العلامة المجلسي في الوجيزة ,وهذه قرينة من القرائن على اعتباره ,واشرنا الى كبرى المقام وهي انه لا فرق في الحجية والاعتبار وعدمه بين توثيقات او تحسينات او طعون المتقدمين وبينها عند المتأخرين , وكنا لا نريد التوقف عند هذا المطلب ولكن حيث قد اوردت بعض الاشكالات على ذلك فلا بأس من التعرض لها وردها ,
والاشكال في المقام هو : ان الاختلاف بين توثيقات المتقدمين والمتأخرين يكمن في درجة الوضوح بينهما ؛ لان المتقدمين كالنجاشي والكشي ومن قبلهم كالفضل بن شاذان مثلا وغيرهم , هؤلاء كانوا اقرب لزمن الرواة ؛ولذا فان الرؤيا لديهم في الجرح والتعديل كانت على درجة كبيرة من الوضوح , وهذا بخلافه بالنسبة للعلامة المجلسي المتأخر عنهم بعدة قرون وكذا الشيخ البهائي وكذا من سبقهما كابن طاووس و العلامة الحلي ,فان تباعد الزمان كتباعد المكان كلاهما يوجبان ضبابية الرؤية وعدم الوضوح ,
هذا هو اجمال الاشكال , ولزيادة توضيحه نقول : ان درجة الوضوح عند المتقدمين هي اكثر و الوضوح اجلى ؛نظرا لخفاء بعض القرائن بمرور الزمن وكذا ضياع بعض الكتب .
وفي مقام الجواب عن هذا الاشكال : نذكر وجوها ستة بعضها كجواب صغروي وبعضها كبروي .
1) اما الجواب الاول -وهو جواب صغروي - فهو :
ان الاختلاف بين المتقدم والمتأخر ليس منحصرا في صورة احتمال خفاء قرينة او كتاب لم يصل , انما كثيرا ما يكون الاختلاف بين المتقدم والمتأخر نظرا للاختلاف في (المبنى) , وفي هذا لا يختلف قرب الزمن ( للمتقدم ) عن بعده ( للمتأخر ) , فمثلا الالتزام بوثاقة المشايخ غير المباشرين لابن قولويه ,في هذا لا يفرق الامر بين قرب وبعد الزمن لان المستند فيه هو عبارة ابن قولويه نفسه في مقدمة كتابه كامل الزيارات , فقد يستفيد فقيه من ذلك توثيق مشايخه المباشرين , بينما فقيه اخر قد يستظهر من نفس العبارة توثيق كافة المشايخ المباشرين وغير المباشرين ,وكل ذلك من تلك العبارة الموجودة والتي هي بعينها امام الشيخ المجلسي والعلامة الحلي واي رجالي اخر سواء تقدم او تأخر فلا فرق في ذلك ,
وفي مثال اخر: هل كون الراوي من اصحاب الامام الصادق عليه السلام او الامام الكاظم عليه السلام هل هذه امارة على التوثيق ؟ وهذا رأي اجتهادي لا يرتبط بالزمن , والبعض قد ذهبوا الى ذلك - كونه امارة على التوثيق -,ولكن الاكثر استشكلوا عليه ,وقد ذكرنا سابقا بعض الادلة على ان اطلاق الرجالي كالكشي على شخص انه كان من اصحاب الامام الرضا عليه السلام او الصادق عليه السلام – مع عدم وجود جارح – هي امارة نوعية على وثاقته ,وهذا رأي اجتهادي اخر لا يتأثر بوجود الشخص المجتهد في زمان معين , والكلام نفسه في سائر المباحث المبنائية الاخرى في الجرح والتعديل، وذلك كما لو ترحم الامام عليه السلام على شخص فهل يدل ذلك على وثاقته؟ , وفي مبحث اخر وهو هل ان تولية الامام المعصوم ونصبه لشخص قيّما وواليا هو دليل على وثاقته ؟ وفي مبحث اخر هل اجازة الامام لشخص للافتاء دليل على وثاقة لهجته بقول مطلق ؟ وهل مضمون الروايات التي استند اليها النجاشي في تضعيف عدد من الرجال؛ نظراً لرايه المبنائي في مقياس الغلو تام او لا ؟ وكل هذه مباحث مبنائية .
والحاصل : ان سبب الكثير من الاختلاف في التوثيقات والطعونات هو الاختلافات المبنائية التي لا يؤثر فيها قرب الزمن او بعده على الاطلاق ولا يؤثر وضوح الرؤية الزمني وعدمه بهذا الاستنباط الحدسي وذلك ان هذا الوضوح انما يؤثر في نوع القرائن الحسية وهذه البحوث هي بحوث حدسية اجتهادية , هذا اولا 2 .
2)واما الجواب الثاني فهو : انكار اصل الصغرى ,حيث لا نسلم بكون وضوح الرؤية للنجاشي او الكشي او الطوسي بدرجة اكبر من وضوحها لدى ابن طاووس او العلامة او المجلسي او غيرهم من المتأخرين ؛ وذلك لانه من الصحيح ان قرب الزمن يقتضي وجود قرائن قد تكون خفيت علينا – وهذا مقبول – ولكن هذا معارض او مزاحم بان ذلك الفاصل الزمني الكبير عن الرواة المعدلَّين او المجروحين معوَّض ويقابله ما يعرف ( بالتراكم المعرفي)؛ حيث انه بمرور الزمن قد تظهر قرائن اخرى لعلها خفيت على المتقدمين من النجاشي وغيره ولكنها قد ظهرت للمتأخرين؛وذلك ان المجاميع الحديثة - وهي المحصلة لذلك التراكم - قد توفرت بايدينا وبايدي المتأخرين كالوسائل ومستدركه وجامع احاديث الشيعة والبحار 3 وغيرها – ككتب التواريخ وتاريخ المدن والموسوعات الفقهية وغيرها-، فكل هذه لم تكن عند المتقدمين وكثير من القرائن يمكن ان يعثر عليها مما تفيد توثيق الرواة او طعنهم من خلال هذه المجاميع 4 . ونذكر مثالين لذلك :
(اولاً ) ان من المؤيدات او القرائن لتوثيق الراوي هي كثرة رواية الاصحاب عنه فمثلا ان الشيخ الكليني او الطوسي او الكشي قد اكثر الرواية عنه او غيره ,ان هذا الاكثار سيكون له صلاحية التأييد او الدليلية , ومع وجود نلك المجاميع الحديثية فانه يكون من السهل الوصول الى مختلف روايات هذا الشخص قليلة كانت او كثيرة , كان ذلك من الصعوبة بمكان في ذلك الزمان , وتلك الاحاطة بروايات الراوي لعلها كانت متعسرة الى حد كبير عند القدماء , هذا من جهة , (ثانيًا) ومن جهة اخرى: فان الاحاطة برواياته و التعرف على مضامينها قد يكون دليلا وشاهدا على تضعيف الراوي او توثيقه ,النتيجة :وعليه يكون البعد الزمني قد عُوِّض بالتراكم المعرفي لدى المتأخرين ولا اقل من التساوي بينهما او التردد في مقام المعارضة بينهما .
واما ان يقال بضرس قاطع ان الرؤية- من حيث المجموع- كانت اوضح لدى المتقدمين, فاننا نشكك في ذلك وهذا جواب ثانٍ وهو صغروي ايضاً.
تتمة : وهنا تتمة لهذا الجواب وهي تتمة لطيفة حيث نقول : بانه لو كانت هنالك قرائن تفيد توثيق الراوي او جرحه لكن مقتضى القاعدة ان ينقلها الرجالي ؛لانه في مقام الجرح والتعديل للرواة من خلال ذكر الشواهد والقرائن على ذلك، ولذا فلابد من ذكر القرائن الدالة على ذلك ؛لان الرجالي ليس في مقام الافتاء بالنسبة للمتأخرين , بل ان عليه ان يحاول ان يعضد اجتهاده بدليل او قرينة ,ولو وجدت وكانت لذكرت5
3)واما الجواب الثالث – وهو جواب كبروي – فهو :
لما كانت درجة الوضوح ليست من المرجحات المنصوصة ,فانه على مبنى من لا يقول بتنقيح المناط 6 مثل السيد الوالد والسيد الخوئي ( قدس سرهما) واخرين فانه لا يجوز التعدي في المقام الى غير المنصوصة ؛لان المرجحات المذكورة هي الأفقهية والأعدلية والأورعية وشبهها وهذه منصوصة ومحدودة وليس منها (درجة الوضوح) .
4) واما الجواب الرابع فهو : لو فرض اننا قلنا بالتعدي من المرجحات المنصوصة الى غيرها فنقول : انه يردعلى ذلك ان الترجيح بالمرجحات وغيرها – بناءا على التعدي – انما هو في صورة التعارض ,ونحن كلامنا ليس في هذا الباب وانما نقول ان توثيقات المتأخرين حالها حال توثيقات المتقدمين وكلاهما حجة , فعبد الله بن طاووس – وهو صغرى كلامنا – قد حسنه المجلسي ولم يقدح فيه اخر حتى يكون هناك تعارض ويكون المقام من باب الترجيح بتلك المرجحات كي نرجع اليها 7 .
5) واما الجواب الخامس فهو: انه لو كانت حجية قول الرجالي هي من باب بناء العقلاء , فان المرجع عندهم هو الخبروية واهل الخبرة ,وليس في درجة الوضوح , ومثاله اننا نرجع الى الطبيب لأنه من اهل الخبرة وقوله حجة علينا من هذا الباب وليس المقياس هو درجة الوضوح لديه .
وبتعبير اخر : اننا لو قلنا ان الاعلم رأيه حجة ,فلو كانت درجة الوضوح لدى المفضول اكثر منها عنده , فأن المشهور- ولعله المجمع عليه – لا يقول بترجيح قول المفضول بدرجة الاوضحية الاكثر لديه فرضاً على قول الاعلم 8.
6) واما الجواب السادس – وهو جواب تنزلي – فهو : اننا لولا لاحظنا (الوضوح ) وقلنا انه مما يعول عليه العقلاء في بنائهم فان ذلك الوضوح بكل درجاته حاله حال الوثاقة بدرجاتها كلها , فخبر الثقة حجة والخبر الموثوق بصدوره حجة ايضا , ولكن هذه الحجية ثابتة لكل الدرجات وهي باجمعها حجة , أي ان خبر الثقة حجة سواء كانت وثاقته من الدرجة العالية او المتوسطة او الدانية , والامر نفسه في الوضوح ؛ حيث انه من اتضحت لديه الرؤية فان رأيه حجة سواء كانت درجة الاتضاح عالية او متوسطة او دانية9, وهذه اجوبة ستة على ذلك الاشكال وقد اشرنا اليها باجمال، وتفصيل الاخذ والرد فيها يترك الى محله ، البحثان القادمان: 1- هل قاعدة الالزام تشمل المستحب والمكروه والمباح.؟ 2- هل قاعدة الالزام ملزمة لنا تعييناً ام تخييراً.؟ وصلى الله على محمد واله الطاهرين ...
الهوامش...............................................................................
1) بناءا على اشكال قد ذكره عدد من الفضلاء فكان التوقف عنده مما ينبغي
2) وهذا جواب تنزلي في الواقع ومرجعه الى ان الدليل اخص من المدعى
3) كما ان من سبق الكليني زمناً كفضل بن شاذان لم يتوفر لديه مثل الكافي
4) فضلا عن جهاز الحاسوب ( الكمبيوتر ) الذي قد سهل الكثير من الامور لعلى الباحثين الرجاليين من خلال الاطلاع على كل المصادر او اغلبها والتي ذكرت راويا معيناً
5) وهذه القرينة قد يتأمل فيها ولكنها في الجملة صحيحة
6) في مقابل مبنى الشيخ الانصاري والذي يقول بتنقيح المناط
7) والحاصل: ان مثل القهبائي او السيد الخوئي مثلا هو اكثر اطلاعاً و ادق من النجاشي لاطلاعه على الاقوال والاراء بل والقرائن بنحو اوسع وذلك للتراكم المعرفي الذي ذكرناه
8) ونحن قد استثنينا صورة خاصة في مبحث الاحتياط فيما مضى وهي ما لو كان الاعلم في استظهاره ضعيفا وكالمتردد وكان استظهار المفضول قوياً.
9) نعم في صورة التعارض يرجح (الاوضح) – على القول بالترجيح به -
|