بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول قاعدة الالزام وانها واردة مورد الامتنان او لا؟ ,وانتهينا بالحديث الى رواية ابن بزيع؛ استدراك على الاستظهار السابق
استدراكاً على ما ذكرناه سابقا من استظهار الصورة الاولى من الصور الثلاثة لهذه الرواية –اي رواية ابن بزيع - و ان الام قد تشيعت قبل القسمة الاولى، نقول: وبعد التأمل في هذه الصورة فانها تبقى في دائرة الاحتمال دون الاستظهار , و على اي حال: لو كانت الرواية قد جاءت في مورد هذه الصورة او الاعم من الصور الثلاث، فالجواب ما اسلفناه من التعليل بقاعدة الإمضاء والإلزام ,وقد اشرنا الى ان فتوى بعض الفقهاء على ذلك – اي حتى في الصورة الاولى- ولكننا لم نستقرئ فتوى بقية الاعلام .
وننتقل إلى رواية أخرى في هذا المقام لوجود نكات مفيدة فيها , وان كانت بعض العناوين الواردة فيها قد مرت سابقا ,هي: رواية محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام قال " سألته عن الاحكام قال : تجوز على اهل كل ذوي دين ما يستحلون " 1
وهناك بحوث كثيرة حول هذه الرواية سنذكرها مستقبلا ان شاء الله تعالى ولكننا في ما يرتبط بالمقام نذكر بحثين :
الأول : هل ان المراد من الجواز في الرواية المذكورة هو الجواز التكليفي في مقابل الحرمة ، او الجواز الوضعي اي المضي والنفوذ ؟ سيأتي تفصيل ذلك ان شاء الله تعالى . وظاهر الرواية ان كل ما يستحلونه في عقد وقضاء ونكاح وارث وشهادات وديات وعبادات وغيرها فهي تجوز عليهم اي تجوز على نحو الحكم التكليفي او الوضعي , و لكن موطن الشاهد في هذه الرواية ان المحتملات في وجه تشريع جواز ما استحلوه، خمسة :
الوجه الاول في تعليل هذا التشريع وصدوره, ان يكون ذلك من باب المنة عليهم، وذلك لان رحمة الشارع قد وسعت كل شيء ,ومن هنا فالمجوسي مثلاً يمضى زواجه بالام ( والعياذ بالله ) والتشريع لا يمنعه من ذلك بل يورثه منها بعنوانين؛ كابن وكزوج لها. ولكن يبقى – وهذه اضافة مهمة – ان هذا التشريع ان كان من باب المنة عليهم فهل المراد من هذه المنة الظاهرية او الواقعية ؟ و هنا نبين اننا لا زلنا في سياق تتبع اصل البحث الاول حول روايتنا المعهودة وهي ( من كان يدين بدين قوم لزمته احكامهم ) ,حيث تساء لنا في ان ( احكامهم ) هل تشمل كافة انواع الاحكام التكليفية ؟ وقد خصصنا بالذكر العبادات والحدود والتعزيرات ,هذا هو موطن شاهد بحثنا الاصلي , فلو قلنا ان هذه الرواية واردة مورد الامتنان عليهم وان المنة هي الظاهرية فسيشملهم مورد الرواية حتى في العبادات والتعزيرات وما اشبه ,ولكننا لو قلنا ان المنة المراد منها المنة الواقعية فلا تشمل هذه الموارد والنتيجة معاكسة تماما للقول الاول .
توضيح ذلك : حيث اننا لو قلنا ان المراد في الرواية من المنة هي المنة الظاهرية ،اي: المنة على حسب ما يعتقدونه في الحدود والتعزيرات وعلى حسب المصالح الكامنة – اي في نظرهم- في عباداتهم – والباطلة لدينا قطعا – مثل صوم الوصال, و حيث ان مقتضى المنة الظاهرية ان يكون كل ما التزموا به من احكام فهي ممضاة من قبلنا عليهم حتى في عباداتهم و في الحدود والتعزيرات ..ولكن كيف تكون منة في المقام وهي واردة بضررهم 2؟
والجواب : ان هذه الاحكام في نظرهم هي ملاك لحفظ النظام لديهم, فمثلا النصارى و اليهود والمجوس في دولة الاسلام , يكون في امضاء تلك الاحكام لهم قوام نظامهم, وهذه منة ظاهرية عليهم, و نجد نظير هذه المسألة عند بعض الفقهاء الذين يحكمون بوجوب حفظ النظام وان كانت الدولة غير شرعية , هذا لو قلنا بالمنة الظاهرية وانها هي المدار للتشريع . واما لو قلنا: بالمنة الواقعية وانها المحور وعليها المدار فلا تجوز عليهم عباداتهم ولا حدودهم ولا تعزيراتهم ؛وذلك لان المنة الواقعية تدور مدار المصالح والمفاسد الثبوتية ,والفرض اننا – ونحن الدين الحق – نعتبر كل احكامهم ليست ذات مصالح واقعية ,بل هي مصالح متوهمة لديهم , ومقتضى المنة الحقيقية ان لا تجري عليهم احكامهم لانها ذات مفاسد عليهم ,وعلينا منعهم من عباداتهم لانها باطلة ومبغوضة للشارع تعالى, اذن البحث يدور حول كلي قاعدة الامتنان؛ وان المراد منها هل هو الامتنان الواقعي الثبوتي ام الامتنان الظاهري الاثباتي ؟ وبعبارة اخرى هل المراد الامتنان في نظرهم واعتقادهم ام ذلك الموجود في متن الواقع ونظرنا ؟
وجوابه : ان مقتضى الظاهر والاصل هو: في ان المراد من الامتنان هو الواقعي دون الظاهري, هذا مقتضى الاصل الاولي ولا ترفع اليد عنه إلا بدليل ,كظهور لسان الدليل في ان المراد من المنة المنة الظاهرية , او دلالة مورد الرواية على ان الامتنان ظاهري3.
توضيح ذلك : هناك قاعدة قد اشرنا لها سابقا وهي: ان الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية ,واطلاق اللفظ على مسمياته الاثباتية خلاف الظاهر, وهو مجاز ولا يصار له إلا بمعونة القرينة, فمثلاً في قوله تعالى (( لقد منّ الله على المؤمنين ...))4 الظاهر في المنة الواردة في الآية ؛ ان المراد منها هو المسمى الحقيقي الواقعي الثبوتي كاصل وظاهر هذا اولا .
واما ثانيا: بانه لو حدث تعارض بين المنة الظاهرية والمنة الواقعية , والتفت الى ذلك المكلف لرجح الواقعية على الظاهرية ,و الكافر والمخالف في مقام المنة في امضاء احكامهم يرى ان تلك المنة الظاهرية عنوانا للمنة الواقعية وان المصلحة او المفسدة في المنة الظاهرية هي عنوان لتلك الاخرى , ولكن ذلك الكافر او المخالف لو علم كما نعلم: ان المصلحة الواقعية الثبوتية هي بخلاف تشريعاته – مع عدم عناده طبعا - فالمنة التي عليه منا هي ان نلزمه بالواقعية لا بتلك المتوهمة لديه ؛ولذا ففي مقام ترجيحه سيرجح الواقعية على الظاهرية المتوهمة مع التفاته الى ذلك , ومثاله الطفل ان عرف ان شيئا ما بالفعل ضار عليه واراد ان يحكم بعقله لا بشهوته فانه يعرف ان منع الوالد عن ذلك الشيء هو المنة لوالده عليه .
والخلاصة : ان ظاهر الالفاظ من جهة وهذه القرينة العقلية – في التعارض بين المنة الظاهرية والواقعية وان المخالف لو التفت الى ذلك فانه يقدم الواقعية على الظاهرية – من جهة اخرى؛ كلاهما يدل على الاصل , فاذا ثبت ان الاصل هو المنة الواقعية , فاننا لا نرفع اليد عن هذا الاصل إلا بدليل, و الدليل هو قاعدة الالزام فان هذا هو مجال ومورد تطبيق قاعدة الالزام , فهي تقول برغم ان المنة الواقعية الثبوتية هي في ان لا يلزم باحكامه الباطلة واقعا , لكن الشارع – بحسب قاعدة الالزام – يقول ان المنة الظاهرية تقتضي ان نسمح لهم بذلك الباطل وبتلك الاحكام , والناتج من ذلك: اننا نقتصر على مقدار الدليل الحاكم او المخصص لذلك الاصل الاولي ,
والخلاصة: ان الاحتمال الاول في الرواية انها واردة مورد المنة وهي اما الواقعية او الظاهرية ,وتبعا لذلك تختلف الاثار والنتائج5 .
الثاني : ان يكون تشريع المنة في الرواية من باب المنة علينا ,ولكن اي منة علينا في ذلك من خلال إمضاء احكامهم عليهم ؟ ! لقد اجبنا سابقا عن ذلك وان المنة في ذلك هو التأسيس علاقة حسن الجوار معهم وفي حفظ النظام العام مع الاطراف الاخرى؛ لاننا لو لم نمض تلك الاحكام لما انتظمت العلاقات معهم ,ولما استتبت المصالح النوعية- على نحو الاقتضاء -، والحاصل: ان حفظ النظام والاستقرار هو في عدم تدخل البعض في شؤون البعض الاخر وهذا منة علينا فتامل, وهناك بحث طويل ونقاش عميق حول ذلك، ولكننا نكتفي بهذا المقدار بهذا المقام .
الثالث :ان يكون ذلك التشريع من باب المنة علينا وعليهم اي الملاك هو مجمع المنتين , فلو كانت المنة علينا دونهم او عليهم دوننا لما كان مورد لقاعدة الالزام او الامضاء ,ولما تمّتا في المقام 6.
الرابع :ان لا يكون ذلك التشريع من باب الامتنان وانما من باب دفع الفاسد او الافسد ,ولقد مضى نظير ذلك.
الخامس: ان يكون هذا التشريع ليس من باب الامتنان باحتمالاته الثلاثة ,ولا من باب دفع الفاسد ,وانما هو من باب الارشاد الى مؤثرية استحلال الاديان والمذاهب الاخرى لشيء في بناء العقلاء على ترتيب اثاره ونفوذه وجوازه، اي: في المؤثرية من خلال الزامهم لانفسهم . وبعبارة اخرى: ان الشارع كشف عن حقيقة خارجية، وعن اعتبار للعقلاء, حيث انه كلما كان هناك اعتبار نفسي مع مبرز ومظهر فانه يؤثر في العقود والايقاعات مطلقا, ومن هنا تكون الراوية من باب الارشاد الى العلية والمعلولية في عالم الاعتبار , ولكن هذا الاحتمال قد يورد عليه: بانه خلاف الاصل في مقام تشريع الشارع؛ حيث انه في هذا المقام الاصل فيه ان يكون بصدد الانشاء والمولوية لا الارشاد والاخبار عن العلاقة بين شيئين .
وننتقل الى رواية اخرى - وقد استند اليها البعض ورآها ظاهرة في امتنانية قاعدة الالزام -: فقد قال عليه السلام: " الزموهم من ذلك ما الزموه انفسهم " وموطن الاستشهاد في هذه الرواية هو كلمة الالزام، وبها يستدل على امتنانية قاعدة االزام معتضدة برواية جعفر بن سماعة السابقة، فوزان الزموهم على هذا هو نفس وزان حديث الرفع ولاضرر وهو ورودها مورد الامتنان . واما توضيح ذلك فانما يتم بثلاث مقدمات :
الاولى / وهذه المقدمة مهمة جدا ( سلبا وايجابا ؛ان ظاهر الزموهم هو: تحديد العلاقة بيننا وبين الاخرين، وليس بين بعضهم والبعض الاخر , فان صريح الزموهم هو وجود طرفين؛ ملزَم وملزِم؛ وهنا نتوقف عند هذه المقدمة ونقول : ان ما ورد فيها غير تام لانه يوجد في ( الزموهم ) ثلاث اركان وليس بركنين فقط , والاركان الثلاث هي : 1) الملزِم 2)الملزَم 3) الملزم به ، وهذا الركن الثالث مغفول عنه, اي: (القضية الملزم بها)، واطلاق الالزام من جهتها دليل التعميم؛ توضيحه : ان الرواية بصدد الزامنا اياهم بما الزموا به انفسهم، ولكن السؤال هو ان ذلك الالزام يتم في اية قضية ؟ هل يتم ويجري ذلك في القضايا التي انحصرت علاقتنا بهم (فنحن احد طرفي القضية والطرف الثاني هم) , ام بين طرفين الاول منهم وكذا الاخر ,ولو راجعنا الرواية لوجدناها ساكتة من هذه الجهة , وبتعبير ادق هي مطلقة من حيث هذه الناحية فتشمل الصورتين. والوهم قد نشأ من عدم لحاظ اطراف القضية التي جرى عليها الحكم ولو لاحظنا ثلاثية الاركان، وان القضية مطلقة فيها، فسيظهر ان مورد قاعدة الالزام هو عام وشامل .وصلى الله على محمد واله الاطهار...
الهوامش ................................
1) هناك نسخة اخرى ورد فيها ما يستحلفون وستاتي المناقشة على كلا التقديرين واللفظين
2) اذ الزامهم بعباداتهم او بتعزيراتهم ضرر على من يلزمون بها.
3) كما في امضاء زواج المجوسي بمحارمه، وارثه منهن بعنوانين.
4) سورة ال عمران/ 164
5) فالمنة الظاهرية عليهم تقتضى الزامهم بعباداتهم او تعزيراتهم، الا ان يقال: بالانصراف، ولو لما سبق من السيرة القطعية على عدم الزامهم بها، او يقال: بتزاحم المنتين فتامل.
6) هذا بناءاً على كونها على الحكم.
|