بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ذكرنا - بتأطير سابق - أن طوائف الروايات الواردة في موضوع الرشوة هن ثلاث، وكان البحث حول استدلال صاحب المستند بالخبر الصحيح في موضوع الرشوة، وانه يمكن ان يستدل بها على ان الرشوة موضوعة للأعم؛ فان الراوي سأل الإمام (عن الرجل يرشو الرجل على ان يتحول من منزله فيسكنه؟ فقال (عليه السلام): لا باس به)، فقد أطلقت الرشوة هنا على ما يبذل بإزاء حق؛ إذ إن التحول عن المنزل وتركه، هو من حقوق الساكن فيه؛ فان له ان ينتقل او لا ينتقل, فالرشوة قد استعملت بمعنى اعم، وقد استشكل فقه الصادق (عليه السلام) على ذلك بان الاستعمال اعم من الحقيقة؛ وذلك إن أصالة الحقيقة إنما يرجع لها فيما لو كان الوضع محرَزا ومعلوما والمراد هو المجهول، ولكن لو انعكس الأمر بان كان المراد معلوما والوضع مجهولا، فان أصالة الحقيقة غير جارية في هذه الحال، هذا ما مضى.
دفاعا عن فقه الصادق (عليه السلام) والمشهور: بيان آخر
ذكرنا ان فقه الصادق (عليه السلام) تبعاً للمشهور ذهب إلى انه لا يمكن الرجوع إلى أصالة الحقيقة مع العلم بالمراد والجهل بالوضع، وروايتنا من هذا القبيل؛ لأن المراد معلوم وهو الأمر المباح من التحول من سكن داره إلى أخرى وهو حق من حقوقه، ولكن الجهل في المقام هو في ان (يرشو) هل وضعت لخصوص ما كانت في مقابل الباطل أي: الأخص ؟ أو إنها وضعت بنحو اعم ليشمل ما كان لإحقاق الحق كذلك؟
وتوضيحا ودفاعا عن المشهور نقول: ان وجه عدم امكان الرجوع لأصالة الحقيقة في هذه الحالة هو ان كلا من المعنى الحقيقي والمجازي صحيح وعقلائي، أي ان إرادة المعاني الحقيقة وكذا المجازية كلاهما هي طريقة للعقلاء وسبيل لتفهيم الآخر، وعليه: فالأعم لا يكون دليلا على الأخص، فان استعمال اللفظ في معنى لا يدل على انه المعنى الحقيقي أو المجازي؛ إذ كلاهما صحيح، وهذا بيان آخر لما سبق دفاعا عن المشهور وعن فقه الصادق (عليه السلام).
إشكال على رأي المشهور: الأصل هوعدم القرينة
لكن لنا ان نشكل على رأي المشهور فنقول:
ان الذي ذكره المشهور من ان الاستعمال اعم من الحقيقة صحيح، فان استعمال اللفظ في كل من الحقيقة والمجاز سبيل العقلاء وطريقتهم في التفاهم العرفي، ولكننا في المقام: لا نكتفي بهذا الاستعمال كدليل على الوضع حتى يقال ان الاستعمال اعم من الحقيقة, بل اننا نضم إلى ذلك أصالة عدم القرينة، إذ حيث نشك في المقام في وجود قرينة على المجاز والأصل عدمها، وعليه يبتني القول بان المتكلم الحكيم والسالك لطريق العقلاء ومنهجهم لا بد ان يكون مريدا للمعنى الحقيقي حصرا، ومن هنا نفهم ان السيد المرتضى لم يقل ان الاستعمال بمفرده دليل الحقيقة حتى يشكل عليه بانه أعم، وإنما ذكر ان الاستعمال بضميمة أصالة عدم القرينة هو دليل الحقيقة، وهذا الكلام له وجه وجيه.
الدفاع مرة أخرى عن رأي المشهور (وردّ اشكال ان الاصل عدم القرينة) :
ومرة أخرى ندافع عن رأي المشهور وندفع الإشكال عنهم فنقول
ان الاعتماد على أصالة عدم القرينة، غير تام، وهذا الأصل ليس بمجدٍ لتصحيح ان الاستعمال بالضميمة دليل الوضع؛ إذ إننا نسأل من يلتزم بذلك – كالسيد المرتضى وصاحب المستند – فنقول:
ما هو المراد بأصالة عدم القرينة؟ فان المراد بالأصل إما ان يكون هو الاستصحاب، وهذا احتمال أول, واما ان يكون المراد من الأصل هو ظاهر الحال، وهذا احتمال ثاني.
رد كلا الاحتمالين:
ولكننا وعلى كلا التقديرين نستشكل ونقول :
لو كان المراد من الأصل هو الاستصحاب فانه أصل مثبت, وهو بحسب المشهور ليس بحجة[1]؛ لان الفرض في المقام هو ان الشارع هو من تعبدنا بالاستصحاب, وتعبّده لا يكون إلا بلحاظ أثره الشرعي لأنه مجال حيطة تصرف الشارع بما هو شارع، وأما بقية الآثار العرفية والعقلية فليست هي في حيطة للشارع من هذه الجهة[2]، فان التعبد الخاص والاستصحاب هو لإبقاء ما كان على ما كان, وهذا الابقاء لا بد ان يكون لأمر شرعي أو بلحاظ أثر شرعي – هذه كبرى - وما نحن فيه - صغرى - ليس من ذلك في شيء.
بيان الشقين:
أما الشق الأول فلأن استصحاب عدم القرينة هو لإثبات ان مراد الشارع هو المعنى الحقيقي دون المجازي، وهذا اللازم كما هو واضح يرتبط بمراد الشارع لا بأثره الشرعي ومراده أمر تكويني فهذا أصل مثبت، نعم لو إننا استصحبنا عدم القرينة لإثبات الوجوب, فالأمر صحيح لأن الوجوب هو فعل للشارع بما هو هو، ولكن إرادة الشارع (لهذا المعنى) هو من الأمور التكوينية، والاستصحاب لا ينالها ولا يطالها.
والخلاصة: ان الاستصحاب التعبدي لا يمكن ان يثبت الإرادة التكوينية للشارع؛ لأنه سيكون من الأصل المثبت، وهو ليس بحجة
وأما الشق والاحتمال الثاني :
واما لو كان المراد من أصالة الحقيقة هو ظاهر الحال[3]، وظاهر الحال حجة عقلائية, فالمدعى هو ان ظاهر حال من استخدم لفظا في معناه وشك في انه استعان بقرينة للدلالة على المجاز، فان الظاهر من حاله انه لم يستعملها ولم يستعن بها، كما هو الأمر في ظهور حال الإنسان المؤمن في انه لو صلى فصلاته صحيحة، مع انه يمكن ان تكون بلا وضوء وباطلة، فظاهر حاله كمؤمن يفيد الصحة – وان كان الاستصحاب يفيد البطلان –، فان قيل ذلك,فنقول في جوابه:
اولا: ان ظاهر الحال المدعى للمتكلم غير محرز, فمن أين ادعيتم ان ظاهر حال من استخدم لفظا في معناه وشك في استخدام القرينة من عدمها انه لم يستخدمها ؟ !، خاصة وانه يحتمل ان المتكلم قد اعتمد على قرينة مقامية وحالية[4], قد خفيت علينا فانه ليس من الضرورة ان تكون القرينة لفظية، هذا أولا.
وثانيا: يحتمل ان يكون المتكلم المتجوّز قد اعتمد على فهم السامع لمراده المجازي فلم يحتج بعد ذلك الى ان ينصب قرينة، فعدم نصب القرينة مع هذا الاعتماد ليس هو خلاف الحكمة[5].
والمتحصل مما بيناه: ان أصالة الحقيقة لا وجه للاستناد إليها لا من باب الاستصحاب ولا من باب ظهور الحال.
انتصارا لصاحب المستند والسيد المرتضى: القول بالتفصيل بوجه لطيف[6]
ذكرنا ان فقه الصادق (عليه السلام) قد استند إلى الكبرى الكلية والتي عليها المشهور – في مقابل السيد المرتضى – وطبق ذلك على الصغرى في رده على صاحب المستند ونحن في المقام نقول بالتفصيل، حيث نوجه الكبرى الكلية للسيد المرتضى بوجه لطيف[7]، ولكن مع ذلك نقول ان كلام فقه الصادق (عليه السلام) صغرويا صحيح، أي اننا نفكك هنا فانه في عين قبولنا صحة كبرى صاحب المستند والسيد المرتضى، فإننا ننفي صحة صغرى صاحب المستند، وهذا تفريق دقيق
وأما كبرويا فنقول: انه من الممكن أن نستند إلى أصالة عدم القرينة لإثبات الوضع، و بكلا الوجهين السابقين اللذين رددناهما:
الوجه الاول: والوجه الأول هو الاستصحاب وقد استشكلنا عليه بانه أصل مثبت فليس بحجة, ونرد ذلك بثلاثة وجوه[8]:
1-إما مبنائيا: فإننا لا نسلّم ان الأصل المثبت ليس بحجة, وذلك اننا نرى ان الاستصحاب حجة من باب بناء العقلاء وسيرتهم وإن عَضَدَته الاطلاقات الروائية، وبناء العقلاء على ان اللوازم الشرعية والعرفية والعقلائية مما تثبت بالاستصحاب، كما ان قاعدة (لا تنقض اليقين بالشك) هي قاعدة عقلائية، تفيد مفادها سعةً.
2- سلمنا ان الأصل المثبت ليس بحجة، ولكن قد يقال: ان الواسطة بين المستصحَب واللازم الشرعي لو كانت عادية أو عقلية ولكنها خفية و مما لا يلتفت لها العرف وتحتاج إلى إعمال دقة ونظر حتى تستكشف، فان الكثير من الأصوليين بنوا على انه في مثل هذه الحال تثبت اللوازم الشرعية، وقد يقال في المقام ان الواسطة خفية؛ فإننا عندما نستصحب عدم وجود القرينة فالمراد إثباته هي ان الحرمة للرشوة عامة، والواسطة خفية هنا و هي إرادة الشارع[9] و التي منها ينشأ الوجوب والأثر الشرعي[10] فتأمل.
3- وفي الجواب الثالث نقول :
سلمنا ان الواسطة ليست خفية، ولكن ندعي ان الجعل كالمجعول عرفا هو شرعي – وهو وجه دقيق – وهذا الوجه هو غير الوجه الثاني، فإننا في ذلك كنا نقول ان إرادة الجعل هي أمر تكويني لازمه اثر شرعي، ولكن هذا الامر التكويني خفي، وأما في هذا الوجه فإننا نقول ان تلك الإرادة تعد أمرا شرعيا وان كان واقعها تكوينياً. فتأمل
هذه هي أجوبة ووجوه ثلاثة، فان قبلت فبها وإلا نرجع إلى جواب آخر:
جواب اخر: الاعتماد على ظاهر الحال تام
وفي هذا الجواب نقول:
ان ظاهر حال المتكلم انه كلما استخدم لفظا في معنى قد وضح لنا مراده منه، وشككنا في ان هناك قرينة أو لا، فظاهر الحال هو عدم القرينة، وهذا هو المدعى.
واما دليله فهو: ان كل من استخدم لفظا في معنى ثم أراد إيصاله إلينا, فان من مسؤوليته العقلائية والشرعية ان الكلام لو كان محتفا بقرينة فعليه إيصالها أيضاً لنا؛ لان ذلك يقع على عاتقه، ولو لم يوصلها, لدل ظاهر ذلك – مع عنايته بحكمه – على انه لم يستخدم تلك القرينة فعدم الإيصال إثباتاً دليل عدم الوجود وعدم الاستخدام ثبوتاً، ويوجد للكلام ملحق وتتمة ستأتي باذنه تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
________________________________________
[1] - وان كان لنا نقاش معهم في ذلك ولكننا نجاري رأي المشهور الان
[2]- وان كانت حيطته بما هو خالق ومكوّن
[3] - حيث توجد في معنى (الأصل) أربعة احتمالات منها الاستصحاب ومنها الغلبة ومنها ظاهر الحال ومنها القاعدة.
[4] - وما اكثر القرائن المقامية التي تفيد المجاز
[5] - أي يكتفي عن ذكر القرينة بفهم السامع للمراد كما في الرواية فان المتعلق لـ(يرشو) قرينة على إرادة المعنى الأعم.
[6] - والكلام هنا دقيق فتأمل
[7] - وهو وجه خطَر في البال فلو ثبت فانه يكفي رداً لكلام المشهور
[8] - ولا نتوقف هنا كثيرا والبحث يترك لمحله
[9] - أو الوضع، وحسب الدقة: فاننا نستصحب عدم القرينة لنثبت ان المعنى المراد هو الموضوع له بنظره.
[10]- وهو كلام قابل للنقاش |