بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حولة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لا زال الحديث حول روايتنا المعهودة في قاعدة الالزام , وذكرنا البحث في كلمة ( دين ) وما هي المرجعية في تحديد الوضع والمراد , ثم وصلنا الى الاصول العملية اللفظية واقمنا دليلين على وجودها مع بعض المناقشة فيهما , ثم ذكرنا في آخر البحث اشكالا على الاصل العملي فانه يرجع اليه في مقام العمل لتحديد الوظيفة العملية, ولكننا في عالم الدلالات والالفاظ والمفاهيم وعالم الوضع والمراد لا تجد عملا ولا وظيفة عملية ما دمنا ضمن حدود هكذا سنخ عالم وقد مضى كل ذلك, هذا من جهة , ومن جهة اخرى ( و لتتميم الاشكال ) فاننا لو انتقلنا بعد ذلك الى مرحلة العمل والانقياد لكفت الاصول العملية الشهيرة(1), فلا يعود هناك مجال لوجود اصول عملية لفظية , وبعبارة اخرى ما ذكرناه من وجود هذه الاصول مما لا يتصور ولا يتعقل , هذا هو الاشكال .
واما جوابه : فيتضح من خلال ملاحظة ان العمل في كل شيء بحسبه , فتارة تكون الاعمال جوارحية وتارة اخرى جوانحية , ولذا ورد عن النبي الاكرم (ص) :" نية المؤمن خير من عمله " , بناءا على ان (من ) تبعيضية والنية عمل . ولكن هل هي عمل اختياري مطلقا او في الجملة ؟هناك تفصيل مذكور في محله .هذه هي الكبرى, وعليها فالعمل متحقق حتى في النوايا والجوانح ولكنه عمل خفيف المؤونة وسهل التحصيل . وبعد وضوح الكبرى لابد لنا من تصوير الصغرى في المقام فنقول : ان تصويرها ليس بالامر الصعب ويمكن ان تبين بـ( العمل في دائرة الالفاظ يكون بالبناء على نسبة هذا المعنى للناطق بتلك الالفاظ لا من باب الكاشفية عن مراده ثبوتا حتى تكون امارة بل لاجل مصلحة اخرى كمصلحة التسهيل ومصلحة عدم اختلال النظام في دائرة التفهم والتفهيم , وهكذا مصالح لا ترتبط بالكوشف الثبوتية عن مرادات قائليها والناطقين بها ولكنها اشبه بالمصلحة السلوكية في المقام ) . وهذا جواب الاشكال بإيجاز .
وهناك اشكال اخر في المقام(2) : اننا بالتتبع في احوال العقلاء من المتكلمين بمختلف اللغات نجدهم في البداية يعتمدون على الظهورات النوعية او الظنون النوعية مثل التبادر وغيره , فان فقدت فانهم يرجعون-على رأي- للاخذ بالظنون الشخصية مثل الغلبة فان فقدت توقفوا في المراد, هذا هو التسلسل الطبيعي لهم وينتهي بالتوقف ,ولا يوجد في قاموسهم الرجوع الى اصول عملية لغوية , وعلى ذلك جرى السيد الوالد في الاصول وعبارته : (فاذا دار الامر بين الاصل واحدها(3) قدم الاول لانه السابق الى الذهن الذي هو معيار الظهور المعتمد عن العقلاء واذا علم بخلاف الاصل ودار الامر بين احدها كان المعيار الاظهر اذا كان هناك ظاهرا واظهر(4) وإلا فالمعتمد الاصول العملية)الاصول ج1 ص 71 من هنا يتبن ان هناك مرجعيتان او محوران مبحثان ملغيان في رأي الوالد ومشهور الاصوليين , فان البعض قبل الاصول العملية قالوا المعتمد هو الظنون الشخصية وهو رأي صاحب القوانين وجمع من الاعلام , وعلى رأي مثل الوالد هذه الواسطة والحلقة ملغاة . وايضا هناك حلقة اخرى ملغاة على مثل رأيه وهي تلك التي أرتيناها فيما سبق فيكون السير في الاصول حسب ما نره ( كان المعيار الاظهر ان كان ظاهر واظهر وإلا فالظنون الشخصية وإلا فالاصول العملية اللفظية وإلا فالمعتمد هو الاصول العملية الشرعية ) .
وهذا المقدار من البحث الموجز يكفي في هذا المقام كاشارة , لكنه بحث مبنائي يحتاج الى مزيد تنقيح في مكانه. وقد بينّا كذلك ان هذا الرأي هو خلاف المشهور ولكن من الجدير ان يبحث بغض النظر عن النتيجة قبولا او رفضا , حيث من خلال احاطته بمزيد عناية واستحقاق ستنفتح منه ابواب اخرى لحل مشكلات سوء الفهم ولنرجئ بقية الكلام لمظانه .
وننتقل الى مفردة اخرى من مفردات روايتنا وهي كلمة ( قوم ) , فما هو المراد منها ؟ وقبل ان نحقق الكلام فيها نذكر بعض الفروع التي قد تترتب على تحقيق هذا المعنى ولو في الجملة وهي بعض الاستنتاجات من قاعدة الالزام والتي يمكن ان تبتنى على تحقيق المراد من كلمة ( قوم ) , احدها لو دان الانسان بدين جماعة قليلة معدودة بعدد اصابع اليد فهل يُشمل بمضمون روايتنا ؟ اذ قد يدعى بان المتبادر او المنصرف من ( دين قوم ) هو امثال , اليهودية و المسيحية و غيرها من الاديان العالمية, ولكن لو ان خمسة او اكثر اسسوا دينا جديدا , فهل قاعدة الالزام تشملهم ؟ وتحقيق ذلك في الجملة يتوقف على المراد من ( قوم ) , واما الفرع الاخر فهو لو كان هناك جمع من النساء دِنّ بدين فهل تشملهم روايتنا ؟ فقد يقال كلا , بحسب تحقيق معنى ( القوم ) لغة , واما الفرع الثالث فهو : لو ان شخصا اسس دينا فهل تشمله الرواية ؟
هذه الفروع واشباهها يمكن ان تترتب على تحقيق الحال في المراد من كلمة قوم في الرواية , ونقول بإيجاز ان اقوال اللغويين في كلمة ( قوم ) مختلفة , فالبعض يرى انها مختصة بالرجال دون النساء ويصرحون بذلك وهم يستندون في ذلك الى آية واحدة هي ( لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى ان يكن خيرا منهن )(5), اذ يوردونه كدليل على اختصاص القوم بالرجال بقرينة مقابلة النساء فيكون المراد من ( دين قوم ) أي بدين مجموعة من الرجال واما النساء لو التزمن بدين معين فانه سيكون خارجا عن معنى روايتنا ولا دلالة فيها عليهن إلا من خلال التشبث بموؤنة من خلال تنقيح المناط في المقام .
ولكن الظاهر ان هذا الرأي ضعيف وذلك : لان جمعا من اعلام اللغة صرحوا بان ( قوم ) يراد منها الاعم وعبروا بان معناها ( الجماعة من الرجال والنساء جميعا او (قوم يدل علي جماعة ...) واما الاستدلال بالآية على المعنى الاخص وهو الرجال فجوابه واضح وذلك لان الاستعمال اعم من الحقيقة , هذا اولا , واما ثانيا فلان سائر الاستعمالات القرآنية الاخرى في كلمة ( قوم ) نجدها ظاهرة في المعنى الاعم سوى ما استشهدوا به من آية للدلالة على المعنى الاخص . ومن الايات الدالة على المعنى الاعم ( فكذب به قومك وهو الحق )(6) , ولاشك ان المراد منها الاعم من الرجال والنساء , والكلام نفسه في ( ويستبدل قوما غيركم )(7) .وثالثا الظاهر ان هذه الآية من قبيل عطف الخاص على العام وقد أُفرد الخاص فيها بالذكر لمزيد عناية فيه ولاهميته , حيث الالفات الى شأن النزول(8) ,هذا وجه وقد يقال كوجه اخر في المقام ان السخرية في النساء هي اكثر منها في الرجال وذلك لاتساع وقت فراغ النساء فلعل وجه افراد النساء هو انهن مبتليات بهذا الداء اكثر من الرجال, ومن هنا يظهر ان استشهاد الراغب في مفرداته واخرين من علماء اللغة بتلك الاية لا وجه له في المقام ,ونحن نستظهر تبعا لجمع من اللغويين وكذلك تبعا لجميع استعمالات القران الكريم - باستثناء هذه الاية الدالة -على رأي- على الاخص لكلمة ( قوم )- ان المراد منها هو الاعم وتكون اللفظة مطلقة في روايتنا المذكورة . وهذا الكلام كله بالنسبة للجهة الاولى من الفرع الاول من الفروع المترتبة على تحقيق كلمتنا , واما الجهة الثانية منه فننظر فيها الى الجانب الكمي في كلمة ( قوم ) فما هو المراد منها لغة ؟ أي ما هي سعة دائرتها لكي نرى حدود العدد الذي هو مصداق لكلمة ( قوم ) ؟ والظاهر ان التحقيق اللغوي يقودنا الى الاعم لان اللغويين يصرحون بان كلمة ( قوم ) تطلق على ( النفر ) ويطلق على ( الرهْط ) فما هو الفرق بينهما ؟
والجواب المراد من النفر هو العدد بين ( 3 و10 ) ولا تطلق على الاكثر من ذلك , والمراد من الرهْط في قول ارجح العدد (10- 40 ) , ففي روايتنا : فان كلمة قوم تشمل ثلاثة اشخاص فصاعدا فلو كان هناك 3 اشخاص يدينون بدين لكانوا مصداقا للرواية ويلزمون بأحكامهم , ولذا لا تنحصر القاعدة بكون الدين ذا صبغة عالمية .
واما الفرع الاخير فما هو الحال بالنسبة لمؤسس(9) الدين فهل تشمله الرواية ؟ أي هل كلمة ( دين قوم ) خاصة للتابعين او شاملة حتى للمتبوعين ؟ فقد يقال ان غلبة الوجود او كثرته وان كانت غلبة ساحقة – بالنسبة للتابعين –لا توجب عدم انعقاد الاطلاق للمطلق , وبتعبير اخر ان القدر المتيقن الثالم للاطلاق هو ما كان في مقام التخاطب فانه مخل بالاطلاق على رأي (9) , لكن القدر المتيقن الناشيءمن خصوصية للمتعلق – كما هو الحال في مقامنا – لا يخل بالاطلاق , كما في قوله تعالى ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن )(11) فلا يشترط في محرمية ان تكون الربيبة في حجر الانسان بل القيد المذكور هو قيد موردي لان العادة هي ان الربائب في الحجور , وبتعبير آخر الاية في مقام الاشارة الى الواقع الخارجي وقد يقال ان مقامنا من هذا القبيل , ففي ( بدين قوم ) قد يقال صحيح ان الغالبية المطلقة ومن الذين يدينون بدين هم اتباع وليسوا بمتبوعين إلا ان هذه الغالبية لا تخل بالاطلاق , ولكن قد يستشكل على ذلك بان المشكلة ليست من حيث الاطلاق والتقييد لكي يجاب بما ذكر , وانما المشكلة هي عدم صدق (من كان يدين بدين قوم ) على من أسس الدين فهو صانع ومؤسس له ولا يصدق عليه انه دان بدين قوم لا ان اللفظة صادقة على كلا القسمين إلا ان احدهما اكثر وجودا كما سبق هذا
بالاضافة الى مشكلة اخرى هي ان مرجع الضمير في الرواية هو القوم في ( لزمته احكامهم ) ولا الدين ( لزمته احكامه ) فالضمير يعود عليهم لا على الدين , وللكلام تتمة ان شاء الله . وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ....
الهوامش .........................................
1) وهي البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير
2) وهو في المقام تقرير لمدعى الطرف الاخر لا اكثر
3) أي احد تلك المعاني العشرة المبحوثة في تعارض الاحوال كالاشتراك والنقل وغيرها
4) اشارة للظنون النوعية
5) سورة الحجرات , آية 11
6) سورة الانعام آية 66
7) سورة محمد آية 38
8) حيث ان عائشة وحفصة استهزأتا بأم سلمة لانها كانت اثيرة عند النبي (ص) فكن يحسدنها فنزلت الاية كما في بعض التفاسير
9) لان المؤسس متبوع وظاهر الرواية لا تشمله
10) على رأي صاحب الكفاية
11) سورة النساء آية 23 |