بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة على اعدائهم اجمعين ولا حولة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
لا زال الحديث حول رواية ( من دان بدين قوم لزمته احكامهم ) والكلام في فقهها ,ووصلنا الى كلمة (دين) وقلنا ان المتبادر منها هو معنى الشريعة , لكننا نتساءل ماهو حال سائر المعاني الاخرى ؟
والجواب : هناك مراحل: المرحلة الاولى: هي ما لو احرزنا تبادر سائر المعاني الاثني عشر أو بعضها على الاقل من كلمة ( دين ) من خلال التبادر او بالرجوع الى اهل اللغة، وهنا لا توجد مشكلة في البين إذ يتبين ان هذا اللفظ أي ( الدين ) حقيقة في كل هذه المعاني وينتفي احتمال المجازية فيها ,إلا انه يبقى كلا احتمالي الاشتراك اللفظي او المعنوي , ولفظ ( دين ) يبقى دائرا بين هذين النوعين من الاشتراك وهذه هي الحالة الاولى , وفيها يكون احراز المعاني من خلال التبادر ارتكازا من غير فرق ان يكون هذا التبادر حاقيا او إطلاقيا على إلّا يكون تبادرا بقرينة .
توضيح ذلك : ان التبادر له ثلاثة اقسام :
اولا : التبادر المعهود وهو الحاقي أي المستند الى حاق اللفظ فلو استظهرنا ان القضاء او العادة مثلاً هما المعنى المتبادر من حاق اللفظ ايضاً فلا يبقى اشكال في مسألتنا .
ثانيا : التبادر الإطلاقي وهو الذي لا يستند الى حاق اللفظ فيه وانما يستند الى تجريد اللفظ من القرائن المقامية والمقالية وهنا لابد من التدقيق وذلك لان المورد مورد خلاف شديد في الاصول وفي علم فقه اللغة ومثاله الالفاظ الدالة على الطبيعة مثل حجر وشجر وما اشبه , فهذه الالفاظ نتساءل عنها ونقول : هل تدل على العموم الاستغراقي ؟ هذا احتمال اول , او انها تدل على العموم البدلي ؟ وهذا احتمال ثاني , او انها تدل على خصوص فرد وهذا احتمال ثالث ( ولا نتعرض الى تنقيح هذه الآراء في مقامنا ) .
هذا الكلام كله على رأي سلطان العلماء، حيث يرى: بان العموم سواء قلنا بانه عموم استغراقي او بدلي، او لا بل بخصوص فرد فانه مستفاد من تجريد اللفظ , أي ان تبادر العموم من كلمة معينة كـ ( رجل ) مثلا نشأ من تجريد تلك الكلمة من القرائن الحالية والمقامية , لا انه نشأ من كلمة رجل نفسها , أي بلا معونة التجرد عن تلك القرائن, والفرق: ان في التبادر الحاقي، لوحظت الطبيعة لا بشرط، وفي التبادر الاطلاقي لوحظت بشرط شيء، (او باعتبارٍ بشرط لا) ونحن قد استظهرنا ان لفظ (دين) يدل على معنى الشريعة بالنحو الاول من التبادر دون الثاني , اي من حاق لفظه ومن دون حاجة الى لحاظ وجود قرائن ثم بعد ذلك تجريده منها .
ثالثا : وهو التبادر بمعونة القرينة فاذا كان كذلك فهو علامة المجاز, ولنطبق ما ذكرناه في مبحثنا عن كلمة ( دين ) فإننا استعرضنا لها معان عديدة ومنها الجزاء والحساب والحكم وقد استندنا كما استند اللغويون في هذه المعاني الى الآيات الشريفة التي ذكرناها سابقا ومنها : (وان الدين لواقع ) ومعناها ان الجزاء والحساب لواقع وكذلك (مالك يوم الدين )اي مالك يوم الجزاء والحساب والفصل وهنا نسال :عندما نستظهر من (يوم الدين) ان المراد يوم الحساب اوالجزاء اوالفصل، فهل هذه المعاني استنبطت واستخرجت وانسبقت الى الذهن من حاق اللفظ ؟او لكونها متعلقة لكلمة (مالك)؟ والجواب واضح فان المعنى قد تبادر منها بسبب متعلقة لتلك الكلمة أي (مالك )وليس لا يصح تفسيرها بـ( مالك يوم الشريعة)، والاقتران في المقام هو منشأ التبادر المذكور, ونفس تلك القرينة هي التي صرفته عن المعنى الحقيقي اي الشريعة الى المجازي و لم يتعرض لذلك اللغوي لان ليس من شانيته التعرض للوضع وان كان من اهل الخبرة فيه لان ساحته هي الاستعمال دون الوضع . والحاصل:ان التبادر الحاصل هنا هو من النوع الثالث وهو التبادر بالقرينة . والآية الاخرى (ان الدين لواقع) لا يمكن ان يراد منها معنى الشريعة، والكلام نفس الكلام، والتبادرفيها من النوع الثالث ايضا ,واما بالنسبة لكون معنى الدين هو العادة، فقد ذكر اللغويون (كما في لسان العرب وغيره) المثال الذي سقناه وهو ( لا زال هذا ديني وديدني ) وهذا المعنى للدين هو بسبب قرينة في المقام ايضا وهي كلمة (ديدني) لكون العطف تفسيرياً، وكذلك قرينة( لازال ) فيكون المراد بتوسط هاتين القرينتين من الدين هو العادة ويكون التبادر من النوع الثالث ايضا لانهم يقولون لازالت هذه عادتي ولايقولون في مثل المقام لازال هذا ديني و شريعتي .
ومن خلال كل ما ذكر فاننا قد اقتربنا بصورة اكثر من تحديد النتيجة النهائية من مبحثنا. واما الآيات الاخرى فالكثير منها كانت محتملة الوجوه المذكورة كما في قوله تعالى (ماكان ليأخذ اخاه في دين الملك)فقد قلنا ان كلمة( دين) فسرت بشريعة الملك وقضاء الملك وعادة الملك ولكن كل هذه المعاني هي معان محتملة وقد ذكرها بعض المفسرين، وحتى على فرض التفسير لمعنى معين فلا يعلم انه تفسير للموضوع له بل لعله تفسير بالمستعمل فيه لا اكثر من ذلك، فلا يفيدنا في التحديد وبتعبير ادق ان تلك الآيات ذات المعاني المحتملة هي مجملة من حيث دلالتها على احدى تلك المعاني .
هذه هي المرحلة الاولى لتمييز المراد من معنى الحديث في كلمتنا مورد البحث وان التبادر الحاقي او الاطلاقي لو حصل فيها فبها والا فاننا ننتقل الى:
المرحلة الثانية: والتي فيها نرجع الى سائر العلامات الاخرى اي الاطراد وصحة الحمل لكي نعرف في موردنا ان كلمة دين حقيقة في سائر المعاني او لا ,فان حصل احراز كونها كذلك اي حقيقية بأحد هاتين الامارتين فبها والا انتقلنا الى:
المرحلة الثالثة: وفيها يكون اللجوء الى الامارات الاخرى غير الاربعة الاولى (والتي هي المشهورة بين الاصوليين ) للعجز عنى تحصيل واحدة منها وهنا نتساءل ونقول :هل توجد امارات اخرى ؟هنا خلاف بين الاصوليين فان البعض كصاحب القوانين على المنقول عنه يرى: الترجيح بمطلق المرجحات في مبحث تعارض الاحوال ( وبحثنا مصداق لهذا التعارض ) هذا راي , والاخر يرى :الترجيح بخصوص الغلبة بين المشترك اللفظي والمعنوي والحقيقة والمجاز وسائر الاحوال العشرة, فهل توجد هكذا غلبة ؟ والبعض الاخر يرى: التوقف في الامر ,فان عجزنا في هذه المرحلة عن تحصيل امارة او اننا حصلنا عليها ولكننا لم نقل بحجيتها (رغم احراز الصغرى فرضاً وهي ان المشترك اللفظي هو اقل من المعنوي والذي هو بدوره اقل من الحقيقة والمجاز) فاننا ننتقل الى :
المرحلة الرابعة: وفيها يكون الرجوع الى الاصول العملية اللفظية والتي سنوضحها لاحقا ان شاء الله تعالى فإن وجدناها وسلمنا بحجيتها فبها والا انتقلنا الى :
المرحلة الخامسة: وفيها يجري البحث عن الاصول العملية التي تحدد الوظيفة العملية للشاك ,هذا هو تسلسل البحث، وسنتوقف قليلاً مع بحث تعارض الاحوال بقدر ضرورة تنقيح مقامنا وفي هذا البحث نقاش طويل وخلاف شديد، ونحن نرى ان مسيرة الاخوند معه في كفايته ليس بوجيه، فقد اغلق باب هذا البحث تقريبا ، معتبراً عدم حجية هذه الامارات بل هي مجرد استحسانات ، نقول: ان الحق مع بعض القدماء من الاصوليين كصاحب القوانين ( قدس سره) وغيره، والذين توغلوا في هكذا مبحث، ونعم ما فعلوا، لمزيد الفائدة في هذا البحث حتى لو قلنا ان تلك الامارات لا توجب الظن النوعي كما سيجيء بيانه، ولنضرب مثالا هنا حتى يكون الذهن اكثر استئناسا مع مبحثنا , قال تعالى (واسال القرية ) في هذه الاية يوجد تعارض بين حالي الاضمار والمجاز، فايهما يقدم ؟ فلو لم تكن هناك ادلة محرزة لاحد هذين الحالين فلدينا عدة احتمالات هنا :الاول ان يكون المعنى من باب المجاز في الكلمة اي اطلقت القرية واريد منها اهلها لعلاقة الحال والمحل، والاحتمال الثاني: ان يكون هناك مجاز في الاسناد والقرية اريد منها معناها الحقيقي والتجوز في الاسناد اي في امر عقلي، والاحتمال الثالث: هو الاضمار اي ان كلمة (اهل) اضمرت في المقام واعتمد على فهم السامع فيها (والبعض عبر عنه بالمجاز في الحذف ولكن الصحيح هو الاضمار)، وكما نرى لن لهذا البحث ثمرات كثيرة في التفسير وفي فقه الروايات وحري ان يتوقف عنده طويلا لجني تلك الثمار .
والاحوال المذكوة هي عشرة احوال في مبحث التعارض لكننا نقتصر على ذكر بعضها والتي هي محل الاشكال ,وفي بحثنا التعارض حاصل بين حال المشترك اللفظي والمعنوي والنقل فهل هناك امارة تحدد لنا المقدم منها والمراد عند التعارض ؟
المحقق المشكيني ( قدس سره) اجاب: بنعم توجد هكذا امارة - وجوابه ككبرى كلية لا في خصوص صغرانا (وهي كلمة دين)،- ويقول: ان الامارة المحددة لذلك هو الظهور التعليقي وعبارته في التعليقة (فلانه و ان كان لاظهور فعلا للفظ فيه الا ان الظهور التعليقي فهو موجود وهو حجة في المقام لبناء العقلاء عليه ) ,وتوضيح كلامه: انه لو دار الامر بين الحقيقة والاشتراك والنقل وهذا موطن كلامه ( وكما في كلمة الدين فهذا الدوران موجود )فكيف نتمسك بالظهور التعليقي فيه ؟
وسنتكلم تارة: حول النقل ،وتارة: حول الاشتراك، ولتصوير كلامه نقول : اما في النقل؛ ( فان هذا الللفظ - اي الدين مثلا - لو لم ينقل لكان ظاهرا في الشريعة - اي انه لو لم ينقل الى معاني اخرى كالعادة والقضاء وغيرها- ولكننا نشك الان في انه هل نقل او لم ينقل ؟ وفي هذا المورد فاننا نستصحب الظهور ( اللّوي ) أي التعليقي فاللفظ لو لم ينقل لكان ظاهرا، وحيث قد شككنا فنستصحب الظهور التعليقي وبالتالي نقول انه ظاهر, ونحن نستطيع ان نربط هذا البحث اللغوي الاصولي ببحث الاستصحاب التعليقي والذي فيه ثمرات كبيرة ونشير الى مثال فيه :
فلو ان الزوجة كانت مطيعة وليست ناشزا فتجب نفقتها على الزوج ولكننا لو شككنا في الزوجة المطيعة التي ينفق عليها ابواها وهي في بيتهم مثلاً بعد ان عقد عليها ( فان الاحكام الشريعة تترتب على نفس العقد ) فلو شككنا ان الزوجة المنفق عليها من قبل ابيها فهل هي واجبة النفقة على الزوج فيكون المال دينا في ذمته او لا ؟ فان الاستصحاب التعليقي ( لو قلنا به وانه حجة) ينفع في المقام , فنقول : ان الزوجة المطيعة لو لم يكن ابوها منفقا عليها لكان على الزوج ان ينفق عليها ونشك الان مع انفاق الاب هل يجب كعلى الزوج الانفاق؟ فنستصحب وجوب الانفاق , والتطبيقات لهذا البحث كثيرة، ولذا في تصورنا فان كلام المشكيني لابد من الوقوف عنده كثيرا، ولنرجع الى بحثنا فبعد ان بينا الظهور التعليقي في اصالة عدم النقل فلنبين الظهور التعليقي في الاشتراك ونقول توضيحا :
هذا اللفظ الذي هو ( دين ) لو لم يوضع لمعاني بديلة اخرى لكان ظاهرا في المعنى الاول الذي هو ( الشريعة فقط ) والان نشك هل وضع لمعاني بديلة او لا ؟ فنستصحب هذا الظهور التعليقي ( اللّوي ) فيثبت الظهور في الشريعة لا غير .
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ... |