بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان الحديث حول تحليل الرشوة مفهوما ومن خلال بحث ما هو الموضوع له للفظ الرشوة، وقد ذكرنا الاحتمال الأول، وهو ان تكون كلمة الرشوة قد وضعت للأصول المادية أولا، كالحبل والرسن وما أشبه, ثم بعد ذلك وضعت للأمر المعنوي، اي الرشوة المعهودة، وقد مضى الحديث عن ذلك.
الاحتمال الثاني :الرشوة موضوعة للجامع
وأما الاحتمال الثاني فهو: ان تكون الرشوة موضوعة للجامع العام المشترك بين كافة تلك المعاني الأنفة الذكر، وهذا الاحتمال قد صار إليه ابن الفارس في كتابه معجم مقاييس اللغة، فهل ان كلامه هناك هو على مقتضى القاعدة؟ او يمكن ان يناقش فيه ؟
وأما عبارته هناك فيقول :" رشي " الراء والشين والحرف المعتل أصل يدل على سبب او تسبب لشيء برفق وملاينة "، ثم بعد ذلك يقول : فالرشاء هو الحبل الممدود، ويقال للحنظل إذا امتدت أغصانه أرشى اي صار كالأرْشِية وهي الحبال، ومن الباب رشاه يرشوه رشواً، وتقول ترشيت الرجل اي لا ينته وراشيت الرجل اذا عاونته وظاهرته " انتهى، فظاهر كلام ابن الفارس أن هناك جامعا عاما هو الموضوع له, وان كل الأمور المذكورة في كتب اللغة هي عبارة عن مصاديق لهذا ألجامع لا أكثر، ولو كان الأمر كذلك فان الرشوة المعهودة عندنا سيكون المستظهر منها إنها تدل على الأعم في المعاني السابقة أي سواء كان الحكم بحق أم بباطل، بل سواء كان حكما أم غيره فان كل ذلك تشمله الرشوة وتنطبق عليه.
إذن : نتيجة هذا الرأي هو ان الرشوة عامة لكل التشقيقات التي صدرنا بها البحث، علما ان (أو) التي ذكرها ابن الفارس في كلامه ليست للشك وللترديد واقعاً، وإنما هي للتقسيم بين السبب والتسبب للشيء، فالسبب هو للامر المادي، والتسبب هو للأمر المعنوي.
مناقشة دعوى الوضع للجامع: أين الدليل على المدعى؟
ولكن يوجد نقاش في كلام ابن الفارس وهو :
من اين يثبت هذا الادعاء الذي ذكره وهو ان الوضع كان للجامع الأعم؟، أي ما الدليل على ان اللفظ وضع لذلك، ثم استعمل في هذه المصاديق المختلفة؟، نعم لو ثبت ما ادعاه ابن الفارس فهو حسن، ولكن ماهو الدليل على ذلك؟ فان ما ذكره من رأي هو مجرد استنباط واجتهاد منه، وان شئت فقل هو استحسان من قبله ؛ فانه و بتتبعه لموارد الاستعمال للفظ اكتشف أن لها جامعا فاستظهر انه هو الأصل الموضوع له او استحسنه، ولكن- وكما هو واضح - ان كلامه هذا لا يكون حجة علينا بناء على المسلك المشهور من كون كلام المجتهد في حقله لا يكون حجة على المجتهد الآخر .
الجواب: الوضع للجامع الاعم هو مقتضى الحكمة
ولكن يمكن الدفاع عن رأي ابن الفارس بالوضع للأعم:
ان الوضع للاعم هو على مقتضى الحكمة وبحسب القاعدة، وذلك بناءاً على ان واضع لغة العرب هو الحكيم - او مجموعة من الحكماء -، ومعه فان مقتضى الحكمة هو وضع اللفظ للجامع الأعم بدلا من ان يوضع لكل مفردة على حده ؛ فان ذلك يحتاج إلى المؤونة و الجهد والوقت، وهو لغو ولذا فان مقتضى حكمة الحكيم: الوضع للجامع كما ان الأسلوب العام في اللغة العربية هو أسلوب هرمي وطولي ,
وعليه : فلو كان هذا الوجه تاما فإننا سنكتفي في البحث اللغوي بذلك كدليل على المراد إذ من خلاله نحرز ان الرشوة قد وضعت للمعنى الأعم، وإلا فان ذلك يصلح مؤيدا، فالفائدة موجودة على كل حال، أي : لو اعتبرنا (الحكمة) إمارة نوعية على الوضع للأعم فهي دليل وحجة، وإلا فسيكون من جملة القرائن والمؤيدات, والتي لو احتشدت وتأيدت بقرائن أخرى لأفادت الاطمئنان للفقيه .
الاحتمال الثالث: الوضع هو بنحو الاشتراك اللفظي
الاحتمال الثالث:
ان لفظ الرشوة قد وضع بنحو الاشتراك اللفظي، أي انه وضع بوضع مستقل للحبل وللرسن وللرشوة وغيرها،
وتقريب ذلك – بما يشكّل جواباً عن الإشكال على هذا الاحتمال من لغويته ظاهرا – هو :
ان الاشتراك اللفظي قد يكون بسبب تعدد الواضعين وليس لتعدد الوضع من واضع واحد، وهذا يظهر من دراسة علم تاريخ اللغة العربية ، فانه عند مراجعة لغة العرب نجد ان الاشتراك اللفظي قد نشا بسبب تعدد الواضعين نتيجة تعدد القبائل، إذ تكرر ان تضع قبيلة اللفظة لمعنى وتضعه القبيلة الثانية لمعنى آخر، وهكذا، وذلك كما في لفظ (عين) ، ثم بعد ذلك عندما قامت المجامع اللغوية بجمع هذه الكلمات - كلسان العرب و العين وتاج العروس وغيرها إذ جمعت هذه الألفاظ - نشا من ذلك الاشتراك اللفظي،
النتيجة : لو قلنا بالاشتراك اللفظي فهو على القاعدة نظراً لتعدد الواضعين، هذا هو الاحتمال الثالث.
اشكال على الاشتراك اللفظي :
ولكن قد يشكل على ما قدمناه في هذا الاحتمال حيث انه قد يضعف وذلك ببيان :
ان هذا الاحتمال وان كان صحيحا بالتتبع التاريخي ولكن يرد عليه بان نسبة الاشتراك اللفظي - باستقراء لغوي - إلى غيره من المشترك المعنوي وغيره، نسبة ضئيلة وقليلة جداً، ولعل النسبة لا تصل الى واحد في المائة ، إذ يوجد عدد محدود من هذه المشتركات اللفظية كالعين والقرء وغيرها,
مقتضى حساب الاحتمالات
وبتعبير علمي انه في حساب الاحتمالات يكون احتمال كون هذه اللفظة موضوعة بنحو – المشترك الفظي - مرجوحا مرجوحية شديدة،
وبتعبير آخر : ان الظن الغالب ولعله بنسبة 99 بالمائة هو ان يكون الوضع على نحو المشترك المعنوي في الجامع،
والحاصل: انه لو استظهر الفقيه من الناحية اللغوية ان ذلك يشكل أمارة نوعية محرِزة للوضع في المعنى الجامع، وان خلافها هو خلاف الأصل ولذا يحتاج إلى الدليل فيها، فبها، والا فان ذلك سيكون قرينة جديدة مؤيدة، اجتماعها مع القرائن الأخرى قد يولد الاطمئنان للفقيه على الوضع للأعم وستكون النتيجة ان الرشوة تشمل كافة المصاديق الكثيرة والمتعددة التي صدّرنا بها البحث قبل أيام. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطيبين الظاهرين |