بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الرشوة وإنها هل هي موضوعة للمعنى الأخص او للمعنى الأعم؟ وبدأنا البحث اللغوي، وذلك بمحاولة استكشاف نوعية الوضع لهذه الكلمة عن طريق دراسة الجذر اللغوي لهذه المفردة، أي الرشوة، وذكرنا ما يمكن ان يستظهر من كلمات عدد من اللغويين، هذا ما مضى.
مصب النفي والإثبات في تحرير موضوع الرشوة
وهنا وقبل ان نكمل البحث لابد أن نطرح عنوانا مهما لكي يتحدد محور البحث بشكل أفضل, وليتضح مصب النفي والإثبات في هذه المسألة فنقول:
انه وعند مراجعة كلمات الفقهاء نجد ان مصب البحث مختلف، ولذا لابد من تأطير المصب وتشخيصه وتحديده حتى يكون مورد الإثبات والنفي واحداً، وصفوة القول انه لدينا من حيث التخصيص والتعميم لمفهوم الرشوة مصبان :
المصب الاول: وهو تعميم الحكم للحكم بالحق أيضا وعدمه، وهذا بالذات مورد خلاف شديد بين الأعلام؛ فانه على القول بتخصيص الرشوة بدائرة الحكم أي القول بانه بذل مال كي يحكم القاضي او الحاكم بحكم، فهل الرشوة موضوعاً شاملة لما يبذل في قبال مطلق الحكم، أي بالحق كان او بالباطل؟ او تختص الرشوة بخصوص ما يدفع بإزاء الحكم بالباطل؟ هذا هو المصب الأول للبحث.
ملحق وإضافة: كلام صاحب المستند في الإرشاد
ويلحق بالمصب الأول ما أضافه صاحب المستند – وهو كلام لطيف ومفيد – قال (لا كلام في ان الرشوة للقاضي هي المال المأخوذ من أحد الخصمين أو منهما أومن غيرهما للحكم على الآخر واهدائه وإرشاده في الجملة)
وتوضيحه مع الإضافة: انه تارة يدفع المال او غيره كي يحكم القاضي بحق او بباطل، ولكن تارة أخرى يدفع المال من اجل أمر وغرض آخر وهو ان يرشد القاضي صاحب المال (الراشي) لطريقة يتغلب بها على الخصم، وهذه مسألة مستقلة، فان الإرشاد للوصول الى الحكم حقا كان او باطلا هو أمر آخر غير نفس الحكم بل ذلك يشمل حتى لو كان بذل المال ليعلمه مسألة شرعية يتغلب بها على خصمه، ومثاله لو ادعى شخص على آخر بان الأخير قد اخذ منه دفترا مثلاً ولم يرجعه له، وكان واقع الأمر ان الثاني كان قد اخذ الدفتر من الأول فعلا، ولكنه أرجعه بعد ذلك اليه، فهنا وعند الترافع لدى القاضي فان الأول يدعي ان الثاني لم يرجع الكتاب له، فلو اقر الثاني بأخذ الدفتر أولا ثم إرجاعه إياه ثانيا من دون ان تكون له بينة على الإرجاع فسيكون الثاني محكوما عليه ؛ وذلك لان إقرار العقلاء على أنفسهم حجة، وقد اقر بالأخذ فثبت عليه ولا بينة له على الإرجاع, وهذه مسألة شرعية، والتخلص منها هو ان لا يتطرق الثاني إلى التسلسل التاريخي لذلك فيقول للقاضي:
إن الأول ليست له عندي أمانة بعنوان الدفتر وكفى، من غير ان يتعرض لأخذه منه أولاً ثم إرجاعه له ثانياً مما يدفع عنه لزوم إعطاء دفتر آخر للأول بحكم القاضي، استناداً إلى إقراره الأول
الحاصل ان بذل المال للقاضي كي يعلمه المسألة وإرشاده لها أو نظائرها هو رشوة وحرام على رأي .
والخلاصة: ان المصب الاول هو تخصيص الرشوة بالحكم او الارشاد إليه والنقاش يكون في سعة (الحكم) ليشمل بالباطل او بالحق معا
المصب الثاني: وهو المصب الأعم حيث تعمم الرشوة لغير الحكم أيضا لتشمل الحقوق المختلفة وغيرها مما ذكرناه سابقا، ونحن لو لاحظنا كلمات الفقهاء سنجد ان نقاط تركيزهم في بحثهم تختلف من ناحية المصب فمثلا ان صاحب المستند تركيزه على المصب الاول دون الثاني وهكذا
عودا إلى أصل البحث:
من مراحل تطور علم الأصول
وبعد بيان ذلك نرجع إلى أصل بحثنا، فقد قلنا ان التسلسل التاريخي وشجرة الكلمة وجذرها – أي الرشوة - هو مما يمكن ان يستكشف منه حال الوضع كدليل او كمؤيد، وهنا فإننا قد اشرنا سابقا بإشارة عابرة ان هناك منهجاً مقترحاً أساسياً لتطوير علم الأصول والفقه وهي إضافة سلسلة من الأدوات والوسائل ومنها دراسة شجرة الألفاظ ومنها ما سيأتي وهذا البحث والمنهج في تصورنا لو شمر بعض الأعلام ممن له الكفاءة والقدرة عن ساعد الجد لتفعيله فسيشكل ذلك دفعة تجديدية قوية لعلم الأصول وان كان- وكما هو واضح - علم الأصول الذي لدينا، بالنسبة لما لدى الآخرين مما لا قياس بينهما حيث قد بلغ المدارج العليا من الكمال والرقي والتطور والدقة والتحقيق، وكذا الحال في فقهنا بالنسبة الى الآخرين، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة والمقارنة الموضوعية في المقام كاشفة عن ذلك،
ولكن ومع ذلك نقول: ان علم الأصول قد مر بمراحل تطور تدريجي ضمن حقبات التاريخ المختلفة، واقتراحنا المنهجي سيسهم بتطويره أكثر وهو: ان يؤسس علم جديد يقتطِع بعض مباحث علم الأصول ثم يطعم هذا البعض بمباحث أخرى لها علقة به ولنطلق على هذا العلم (علم فقه اللغة الأصولي) ، ومصب هذا العلم هو مباحث الألفاظ، والمقترح ان تفصل عن علم الأصول وتصاغ صياغة جديدة بهذا العنوان المذكورة مع تغيير في العديد من جوانب العلة المادية والصورية، ونحن الآن نشير الى ذلك إشارةسريعة:
وتوضيح ذلك: ان من الملاحظ ان علم الأصول كان يتميز بمادته عن الفقه , ولكن كانت القواعد الفقهية مندمجة في الأصول عادة، - وهذا ما نجده كذلك الآن الى حد ما في بعض الكتب الأصولية - ثم قام بعد ذلك الشهيد الثاني بفرز علم القواعد الفقهية عن الأصول، وطرحه كعلم مستقل ، ثم صار الأمر كما نرى، وجرى عليه الفقهاء فأصبح علم القواعد الفقهية علما مستقلا قائما بذاته.
ثم ان قد خطر ببال العبد الفقير إلى ربه الغني وكمحاولة لتطوير علم الأصول ضرورة تأسيس علم جديد أسميناه بـ(علم المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول ) وشرحنا ذلك في احد كتبنا ، كمحاولة أوّلية في هذا المجال,
تأسيس علم فقه اللغة الأصولي
وما نقترحه الآن - كمحاولة ثانية - في هذا المجال هو ان يُؤسس علم جديد هو (علم فقه اللغة الأصولي) و(فقه اللغة العام)، والمتصوّر انه لو جرى بحثه بصورة جدية فان الناتج سيكون ولادة علم جديد رديف لعلم الأصول يثريه و يغنيه ويتكامل معه،
وتتضح أهمية ذلك أكثر عندما نلاحظ حال القواعد الفقهية سابقاً فانه وكما هو واضح فان الأصولي اذا تعرض لقاعدة الفقهية ما في مبحثه الأصولي فانه حيث يعتبرها استطرادا فانه يضطره إلى ان لا يستوعب جوانب البحث فيها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانه في بحثه الأصولي هذا لا يستطيع ان يستوعب جميع القواعد الفقهية - هذا في حالة الدمج -، ولكن ومع فصل القواعد عن الأصول فان المجال سيتسع لبحث القاعدة بشكل أدق واشمل، وبالتالي سوف تعطى حقها من البحث كما يكون من المتيسر كذلك بحث القواعد الفقهية الأخرى الى جنبها ما دامت في نفس السياق البحثي،
والحال في مقترحنا كذلك فان مباحث الألفاظ لو فصلت وجعلت ضمن علم جديد فان الفائدة ستكون مزدوجة؛ حيث ان مجموعة من البحوث اللفظية لم توف حقها من البحث في علم الأصول مما كان ينبغي ان تعطى بعدا أعمق واشمل لو فصلت في العلم الجديد كفائدة أولى، وأما الفائدة الأخرى فان الكثير من المباحث غير المطروقة او التي كان ينبغي ان تطرق ستبحث في هذا العلم الوليد كما في مبحث شجرة المفردات السابقة الذكر
العلوم العشرة التي يتركب منها علم فقه اللغة الأصولي
وبعض تفصيل ذلك: ان علم فقه اللغة المستحدث ينبغي ان يتوافر على مسائل متعددة تقتبس ومن عشرة علوم، والعلوم التي تشكل علم فقه اللغة هي:
العلم الأول: الفلسفة ان مبحث الألفاظ يعتمد على بعض المسائل الفلسفية, كما هو الحال في مبحث الوضع كالوضع الخاص والموضوع له الخاص، وكمثال على ذلك: دعوى ان الوضع الخاص والموضوع له العام غير ممكن - بنظر الاخوند – ودليل ذلك فلسفي إ؛ ذ لا يمكن ان يكون الخاص مرآة ووجها للعام، وكذلك بحث المشترك وهو :هل يمكن ان يستعمل اللفظ في أكثر من معنى على ان يكون كل منها هو تمام المراد؟ وهذا بحث فلسفي أيضا يعتمد على ان اللفظ فان في المعنى، ولا يمكن ان يفنى الواحد في الاثنين وهكذا، وكذلك بحث الصحيح والأعم فهو من مباحث الفلسفة، كما في الصلاة فهل هذا اللفظ موضوع للصحيح او للأعم؟ ومن وجوه النقاش: ان الصلاة هل هي موضوعة للأركان والأجزاء ام هي موضوعة للأركان فقط؟ فان كان الثاني لزم ان تكون الأجزاء ليست بأجزاء, وهذا خلف، وان قلنا بالأول لزم ان تنتفي الصلاة على الصحيح بانتفاء التشهد سهوا مثلا, فكيف التوفيق في المقام؟
العلم الثاني: المنطق كما هو الحال في القضايا الحقيقة والخارجية، وقد اشرنا الى ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد.
العلم الثالث: الصرف كما في الفرق بين المصدر واسم المصدر، وهذا البحث هو بحث سيال لعل تطبيقه نجده من أول الفقه الى آخره، فانه وعلى ضوء الفرق يختلف الاستنباط بحسب الأدلة، وقد مثلنا لذلك في مبحث كتب الضلال.
العلم الرابع: النحو كما في بحث ( الباء ) في آية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، فهل هذه الباء سببية او للاستعانة او لغير ذلك – وقد فصلناه سابقاً فتحقيق الحال هنا يؤثر في الاستنباط بصورة مباشرة.
العلم الخامس: التاريخ فان علم فقه اللغة يبتني فيما يبتني عليه على علم التاريخ، وقد عبرنا عنه بشجرة الألفاظ وجذرها، ولم يفرد لذلك علم مستقل، ومن مسائل هذا العلم مبحث الحقيقة الشرعية أو المتشرعية أو ما قبل الشارعية، وهذا البحث هو تاريخي وبامتياز، ولكنه لازال فقيراً نسبيا.
العلم السادس: البلاغة كما في الحقيقة والمجاز، ويبحث في الأصول في مبحث الألفاظ ولكن محله هو علم فقه اللغة المقترح، ومن مسائله المطروحة هي: هل ان المجاز مستعمل في الموضوع له أم في غيره؟ والرأي المشهور هو ان المجاز مستعمل في غير الموضوع له، ولكن يوجد رأيان آخران، احدهما هو ان المجاز مستعمل في الموضوع له بنحو الحقيقة الادعائية، وهذا ما ذهب اليه السكاكي، وهناك رأي آخر ذهب إليه أبو المجد الاصفهاني هو أكثر تطورا من ذلك وتفصيله في محله
العلم السابع: وهو علم اللغة أي ما يرتبط بالأصول اللغوية ومفاهيم وفروق المفردات كما في قوله تعالى: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وقوله: (شَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) فهل هناك فرق بين الشورى والاستشارة؟
البعض ذهب الى عدم الفرق، وان الشورى هي نفس الاستشارة فلا تكون ملزمه، وأما البعض الآخر فقد ذهب الى ان الشورى هي غير الاستشارة، وهذا بحث لغوي بامتياز.
العلمان الثامن والتاسع : التفسير والحديث, كما سيأتي
ان كل هذه العلوم هي من مقومات علم فقه اللغة وهي موجودة بشكل او بآخر في مباحث الألفاظ، ولكنها قد ابتليت بالتهميش او الضمور او الإهمال بسبب كون مباحث الألفاظ تبحث كمقدمة اواستطراد كما قلنا، وللكلام تتمة. وصلى الله على محمد واله الطاهرين |