بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين سيما بقية الله في الأرضين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول التنقيح الموضوعي للرشوة, وقلنا انه لابد أن نحدد العناوين الموضوعية المتصلة بالبحث, وذكرنا سبعة عناوين, ثم بينا لكل عنوان صوراً وتقسيمات, وقلنا انه لابد من تنقيح وتحقيق إن مفهوم الرشوة يشمل هذه الصور موضوعا آو لا؟ ثم انه لو فرض أن الرشوة لا تشملها مفهوما، فهل حكم الرشوة شامل لها او لا؟ ووصنا الى العنوان السابع وهو (المبذول له)، وذكرنا انه قد يكون المبذول له هو القاضي، وقد يكون الحاكم العرفي، او غيرهما، وبينا ان هذه هي نقطة خلاف بين الأعلام؛ فان البعض قد أرتأى ان الرشوة خاصة بالقاضي مفهوما، ولكن البعض الآخر عمم مفهومها فرأى أن ما يدفع للوزير او مدير الدائرة مثلا فهي رشوة موضوعا لانطباق المفهوم عليها عرفاً، وأما البعض الآخر فقد عمم إلى أكثر من ذلك فقال إن المفهوم يشمل غيرهما أيضاً.
إذن: هذه مسألة مهمة و خلافية، فلابد من النظر فيها بتأمل .
كلام صاحب الجواهر :
ولمعرفة آراء العلماء حول المسألة المذكورة فإننا ننقل كلام صاحب الجواهر حيث يقول: (إن المحرم هو الرشا في خصوص الحكم او يعمه وغيره؟) أي غير الحكم مما أسلفنا بيانه سابقا، (وعلى الأول فهل هو خصوص الحكم الشرعي او يعمه والعرفي من احكام العرف) ومقصوده من الحكم الشرعي حكم القاضي الشرعي ولعله يقصد ما يشمل حكم الفقيه بناء على ولاية الفقيه, وأما الحكم العرفي فيقصد به الحاكم العرفي والسلاطين، (بل وغيرهم من الأمرين بالمعروف؟) .
تقسيم آخر : هل (الرتبة) شرط في الصدق؟
ويوجد تقسيم آخر لهذا العنوان أي (المبذول له) وهو : هل ان الرشوة خاصة لما يعطى لمن هو أعلى رتبة؟ او يشمل من هو في رتبة مساوية؟ او انه يشمل حتى البذل لمن هو في رتبة أدنى كالأب لابنه او الزوج لزوجته، فهل الرشوة تشمل كل هذه الصور والتقسيمات موضوعا او لا؟
تقسيم آخر بلحاظ المبذول له: هل المدار في صدق الرشوة هو العلم ؟
وأما التقسيم الآخر في (المبذول له) فهو: ان القاضي قد يعلم بالرشوة وقد لا يعلم بها، فانه تارة تَعطى الأموال له كرشوة لكي يحكم في القضية، سواء كان البذل للحكم بالحق او بالباطل، وقد سلف تفصيله بالصور التي ذكرناها، وهذا المورد هو رشوة وحرام ولا كلام فيه،
ولكن تارة أخرى يوصل الباذل إلى القاضي شيئاً والقاضي لا يعلم ببذله له، فهل هذا رشوة موضوعا؟ وهنا لدينا صورتان: فانه تارة يكون هذا المبذول (الرشوة ) مما يؤثر بنحو الأثر الوضعي اللاشعوري في ميل القاضي للراشي، وتارة أخرى لا يكون كذلك.
توضيحه : ان العلوم الحديثة كعلم النفس فتحت نافذة واسعة على هذا البحث كثير الابتلاء، كما وجدنا في الواقع الخارجي، في بعض الدول ان البعض من أهل الخبرة يستخدمون هذا المنهج لتطويع القاضي الذي لا يستجيب للرشوة، لا شعورياً، فهل تصدق الرشوة على ما يوصَل للقاضي من غير علمه مع كونه مؤثرا نفسيا وتكوينيا عليه؟ فإننا نجد أن بعض القضاة او شرطة المرور او غيرهم لو كان بحالة مزاجية سيئة فانه قد يشدد في الحكم او الغرامة، ولكن لو كان القاضي او الشرطي بحالة مزاجية حسنة فانه قد يتسامح فيعفو أو لا يتشدد ويخفف,وهذه القضية مشهودة في واقعنا,
وتطبيق ذلك بمثال : انه لو كان لقاض معين معاملة في السوق، فقد يتوسط الراشي لتسهيل تلك المعاملة من غير ان يعلم القاضي بذلك، مما يولد الانشراح والارتياح للقاضي نفسيا فيؤثر على ذهن القاضي لا شعورياً فيحكم لصالحه بعد ذلك (ولو في دائرة صلاحياته بان كان له قانوناً مساحة من الحرية في تحديد كمية أو كيفية العقوبة).
ومثال آخر: هو ان يقوم شخص بنشر رائحة عطرة متميزة وذات اثر فعال تؤدي الى السرور والارتياح والاسترخاء - ولو كان من خلال تعطره هو أو اصطحابه لذلك العطر إلى مجلس القاضي أو المحامي - فان ذلك قد يؤثر على نفسية بعض القضاة، ولهذا الكلي شواهد عديدة أخرى, فهل هذه الموارد هي رشوة موضوعا؟ وهل هي محرمة؟ ولو لم يصدق عليها موضوع الرشوة فهل يشملها حكما؟
تقسيم آخر: هل يشترط علم القاضي بفعلية تلبسه بالمنصب، لصدق الرشوة؟
التقسيم الآخر: تارة يعلم القاضي بأنه قاضي فان أخذ المال فانه رشوة وحرام والأمر واضح هنا، ولكن تارة أخرى لا يعلم القاضي بذلك (كما لو عُيِّن ونُصب للتو ولمـّا يبلغه الخبر بعد), ولكن الراشي كان يعلم بالأمر فيعطيه مبلغا من المال او غيره، ولو لكونه جاراً له أو صديقاً لكن كان ذلك في جوهره لان قضيته ستؤول وتحول الى القاضي الجديد، فهل هذه رشوة موضوعا؟ او هي هدية ملحقة بالرشوة حكما؟ او غير ذلك؟
تقسيم آخر : في (الاحتمال) هل يتحقق موضوع الرشوة ؟
وأما التقسيم الآخر فهو ما لو احتمل الشخص بان الآخر سوف ينصب قاضيا مستقبلا – احتمالا – فدفع له شيئا من اجل تيسير معاملته فيما لو عُيِّن من غير أن يصرح له بذلك أو مع تصريحه، فهل هذه رشوة موضوعا او ليست كذلك؟ هذه صورة، كما ان صاحب الجواهر يذكر صورة أخرى حيث يقول : " ... وهل هو خاص بالخصومة الخاصة او يعمه وما يبذل توطئة لاحتمال وقوعها ونحوه؟ " انتهى, حيث يحتمل ان تقع واقعة له مستقبلا فيعطي للقاضي مبلغا الآن تحسباً لها، فهل هذه رشوة؟ وهل هي حرام او لا؟
التقسيم الاخر: الجهل بحكم الرشوة
وأما التقسيم الآخر فهو ان الراشي والمرتشي قد يعلم كلاهما حكم الرشوة وهي الحرمة وهذا لا شك في حرمته ، ولكن لو فرض ان كليهما لا يعلم الحكم، كما هو الحال في كثير من الناس فإنهم يعطون مثلاً شرطي المرور مالا في قبال رفع العقوبة من غير تصور لاحتمال حرمته، ومعه فلو جهل كلاهما الحكم ودفع احدهما للآخر شيئا فهل هذه رشوة موضوعا؟ ولو علم المرتشي بعد ذلك بالحكم فهل عليه ان يرد المبلغ؟ فان الرشوة لا تملك، ولا تدخل في ملك المرتشي وضعا .
تقسيم آخر : هل الرشوة تدور مدار تأثر القاضي وعدمه؟
وأما التقسيم الآخر فقد شار اليه الشيخ كاشف الغطاء وهو : هل ان الرشوة خاصة بما لو تأثّر القاضي بها؟ أم انها تشمل حتى ما لو لم يتأثر بان كان محصَّنا وقويا تجاه المغريات والأموال؟ فهو - أي : القاضي – قد يأخذ المال ومع ذلك يحكم على الراشي، فهل هذه رشوة موضوعا وهل هي محرمة او لا؟ وذلك في كلتا صورتي كون الراشي على حق – أي يريد انتزاع حق له مضيَّع - او على باطل؟
وعبارته في شرح قواعد العلامة :
" ويحرم اخذ الرشا في الحكم بسببه وان حكم على باذله فلم يؤثر بذله " انتهى، وكما هو واضح فان رأي الشيخ كاشف الغطاء هو الحرمة وكونها رشوة، فهل الأمر كذلك؟ سيأتي ذلك ان شاء الله تعالى، هذه بعض التقسيمات والصور في (المبذول له).
صورة اخرى: وساطة الوجهاء لدى الفرقاء
ونذكر صورة أخرى، وهي مسألة ابتلائية، فان الرشوة ما انفكت تنخر في المجتمع حيث بنيت عليها حياتنا بشكل او بآخر، حتى أصبح الجو العام ملوثا بمال الرشوة الحرام، كما أصبح الجو العام موبوءاً بالربا ومشحوناً بالغيبة. أعاذنا الله منها ومن نظائرها، ومثاله ما نجده من ان كثيرا من الناس عندما تحدث عندهم مشكلة ما، بين عشيرتين او عائلتين او شخصين، فان احد الطرفين يصطحب معه جمعا من الوجهاء، ولعل بينهم سادة من النسب الطاهر؛ وذلك لكي يؤثر في الطرف المقابل كي يتنازل عن حقه؛ لاحترام القادمين، فهل هذه رشوة او لا؟ وهنا يجري ما ذكرناه من خلاف سابق بين من ضيّق الدائرة لتشمل الحكم فقط فلا يقول بشمول موضوع الرشوة لهذا المورد ، وبين من وسّع الدائرة كصاحب الجواهر والسيد الخوئي والسيد الوالد – وكما نرتضيه – فهل هذه الصورة مشمولة للتوسعة؟، ولذا فلابد من تحقيق الموارد المختلفة موضوعا وحكما؛ إذ قد يدعى بان في بعض أنواع الرشا الأدلة منصرفة عنها، وهذا موطن كلام أيضا، سيأتي بإذن الله تعالى.
وعليه: فان الرشوة وكما بينا هي موضوع عام الابتلاء وذو مديات واسعة وخطيرة ولعل الأغلب – ان لم يكن الكل - قد ابتلى بها، نعم قد يكون الإنسان مضطرا لها حقاً، وهذا مورد استثناء؛ ولكن حتى في هذا المورد فانه يوجد خلاف بين الأعلام؛ فان كاشف الغطاء يرفض جواز الرشوة بعنوانها ولو اضطر - ولكن صاحب الجواهر يجوّز – وسيأتي بحثه - فلو انحصر استنقاذ الحق المسلّم على بذل الرشوة فهي برأي الجواهر، حلال للباذل المضطر ولكنها حرام على الآخذ، وحكمه الوضعي انه لا يملكها ويجب عليه إرجاعها، كما هو الحال في الربا والاضطرار اليه بين طرفين، وسيأتي بحث كل ذلك ان شاء الله تعالى.
العنوان الثامن والأخير : (المبذول عليه): الواجب، المباح، والحرام
ذكرنا عدة عناوين لتنقيح موضوع الرشوة، واما العنوان الأخير فهو (المبذول عليه)، وهذا له عدة صور :
الصورة الأولى :ان يكون المبذول عليه هو الواجب ,وهذا موضع نزاع شديد.
الصورة الثانية : أن يكون المبذول عليه هو المباح .
الصورة الثالثة : وهو أن يكون المبذول عليه هو الحرام .
أما الصورة الأولى: وهي ان يكون المبذول عليه هو الواجب ففيها صورتان أيضا، وتختلف الأحكام بحسبها، فتارة يكون الواجب المبذول عليه هو الواجب العيني وأخرى يكون الواجب كفائيا، فهل البذل في كلتا الصورتين يعد رشوة او لا؟ ومثال الواجب العيني الصلاة، كما لو أعطى الأب ولده مالا كي يصلي، فهل هذا المورد رشوة موضوعا او لا؟ البعض أنعمَ وقال انها محرمة، ولكن البعض الآخر ارتأى انها ليست رشوة لكنها محرمة لحرمة أخذ المال على الواجبات العينية
والمثال الآخر: ان البعض قد يدفع الهدية للآخر كي يستميل قلبه لكي يخمس او غيرها فهل هي رشوة؟ أو هي هدية ملحقة بالرشوة؟ أو لا هذا ولا ذاك؟
وأما المثال على الواجب الكفائي فكبذله مالاً للآخر كي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولنذكر أيضاً مثالا عرفيا مبتلى به وهو: ان الخطيب إذا كان معروفا ومرغوبا به بشدة، فقد تتنازع عليه جهتان في دعوته لمناسبة خاصة, فتقوم إحداهما باصطحاب مجموعة من الشيوخ والوجهاء كي يقبل الخطيب دعوتهم ويرجحهم على الجهة الأخرى ,. فهل هذه رشوة؟ وهي محرمة او لا ؟
صورة ملحقة:
وهي: فيما اذا دفع مالاً او غيره لدفع حرام، وهذه الصورة هي صورة شديدة الابتلاء وكثيرة الوقوع كما في الرجل الذي يضرب زوجته او يؤذيها كي تهبه مهرها ، فلو وهبته فهل هذا مصداق للرشوة او لا؟ وهل هو حرام او لا؟ السيد الوالد مثلاً يرى الحرمة والبطلان في ذلك حيث يقول :
" وقد يدفع المال له كي لا يفعل المنكر كمن يضرب زوجته أو يضارها كي تهب له مهرها فلو وهبته فان هذه الهبة باطلة لأنه من أكل المال بالباطل" وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين |