بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلنا في المبحث السابق عن الادلة الروائية على قاعدة الالزام إلى القرائن العامة الدالة على اعتبار هذه الروايات وتمامية مضامينها، وذكرنا قرينة الترجيح مخالفة العامة
تفصيل وزيادة:
ونذكر الان تفصيلا لما بيناه سابقا حول هذا المرجح، وهذه القرينة وهي المخالفة للعامة، وذلك للأسباب التالية:
1)لان العديد من الصور التي سنذكرها ترتبط بقاعدة الالزام وتنفعنا كقرينة عامة في مقام البحث.
2) لان هذا البحث يعد بحثا تطبيقيا مهما لمسألة اصولية على قاعدة من القواعد الفقهية ؛ ولذا فهو تمرين عملي تطبيقي،
واضافة الى هذين الامرين، فان لنا افادة جديدة في تنقيح مسألتنا في هذا البحث.
الصور المحتملة في مخالفة العامة:
ان قرينة المخالفة او الموافقة للعامة لها اربعة صور محتملة:
الصورة الاولى:
وهذه الصورة لم نذكرها سابقا لكونها عديمة الفائدة بالنسبة لمبحثنا في قاعدة الالزام، ولكن ندرجهاتتميما للفائدة في المقام وهي:
ان تكون الروايةالمنسوبة للمعصوم (عليه السلام) مخالفة لروايات العامة.
الصورة الثانية: ان تكون المخالفة هي لفتاوى فقهاء العامة.
الصورة الثالثة: ان تكون المخالفة لحكامهم سواء قصدنا القضاة او السلاطين والولاة.
الصورة الرابعة: ان تكون المخالفة هي لعوام العامة.
وهذا البحث هو كثير الفائدة في الاصول والفقه، ويحتاج في كل مورد مورد الى تتبع تاريخي لروايات العامة وفتاوى فقهائهم واحكامهم في محاكمهم وقانونهم الوضعي وما يحكم به سلاطينهم، وكذا الجو العام لعوام أهل العامة؛ فان الائمة (عليهم السلام) كانوا في تقية من حيث هذه الصور الاربعة ولم تكن التقية خاصة بأحدها، ولذا فان هذا البحث ينفعنا في تنقيح صغريات التقية، وكذا ينفع في تشخيص المرجح الجهوي (السندي) كما سيتضح.
دلالة الروايات على الأنواع الأربعة من مخالفة العامة
ان الصورة الاولى التي ذكرناها وهي مخالفة روايات العامة، حيث انه لم نجد في روايات العامة رداً لقاعدة الإلزام لذا فليس لها فائدة عملية في اثبات قاعدة الالزام، نعم هي مرجح بلا شك، وعليها تدل صحيحة الراوندي بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام): "فان لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوها على اخبار العامة، فما وافق اخبارهم فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه ".
اما الصورة الثانية، (وهي مرجحية مخالفة فتاوى العامة وآرائهم) فقد تطرق لها السيد الصدر رحمه الله, ولكنلم يجد رواية لإثباتها، إلا انه اثبتها بطريق اخر ,
فحيث ان صريح هذه الرواية في الترجيح بموافقة او مخالفة العامة هو (ما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه)، لذا فإن جمعاً من الاعلام توصلوا الى التعميم من خلال إستظهارالطريقية – لا التعبدية – في صحيحة الراوندي ؛ وذلك للكاشفية النوعية، فان ما وافق اخبار العامةفانه كاشف نوعا عن خلل فيه (جهوي)، وما خالف اخبارهم فانه يكشف عن صحته نوعا كذلك، وحيث ان ملاك الرواية موجود ايضا في اراء العامة لذا جرى التعمم.
أقول: اننا في غنىعن الاستناد الى ماذهبوا اليه من الطريقية والتعميم ؛ وذلك لوجود روايات عديدة يمكن ان يستدل بها على ذلك ومنها : رواية على بن اسباط في عيون الاخبار عن الامام الرضا(عليه السلام) : " قلت للرضا (عليه السلام): يحدث الامر لا اجد بدا لمعرفته وليس في البلد الذي انا فيه احد استفتيه من مواليك ؟ فقال (عليه السلام): ائتِ فقيه البلد فاستفته من امرك فاذا افتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحق فيه ". والرواية صريحة على قرينة الموافقة والمخالفة لآراء العامة وفتاواهم، وبغض النظر عن الروايات.
ان قلت: ان العامي يستند الى الروايات ؟ قلنا: لعله استند الى قياس او استحسان او غير ذلك. ان هذا العنوان، أي الاخذ بما يخالف فتوى العامة له منفعة كبيرة لأننا نعلم انهم في محاكمهم وفتاواهم لم يكونوا يفتون الشيعة بقاعدة الالزام، بما هي قاعدة وإن التزموا بنتائجها فإن ذلك لكونها فتوى لهم لا لكونها مصداق إلزامنا لهم .
واما الصورة الثالثة، وهي مخالفة حكام العامة وقضاتهم وسلاطينهم,فانه كذلك تدل عليها رواية معروفة وهيمقبولة عمر بن حنظلة حيث يمكن ان يستند اليها في المقام فقد قال الامام (عليه السلام): ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعا؟ قال (عليه السلام): ينظر الى ما هم أميل اليه، حكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر".
تشابه البحثين: ان البحث الذي بيناه سابقا يجري – مع نوع اختلاف - في المقام؛ لورود كلمة حكامهم: (حكامهم وقضاتهم)، في هذه المقبولة، وهي مشتركة في المادة مع (احكامهم) فالمادة هي نفسها إلا ان احدهما جمع لمصدرها والآخر جمع لاسم الفاعل منها
ولو قلنا بان (الحكام) المراد به المعنى العرفي وكذا قضاتهم سيكون المورد من باب عطف المباين على المباين ؛ لان لكل منهما معنى عرفي مغاير للآخر،
واما لو قلنا – كما استظهره البعض – من ان (الحكام في حكامهم)لكثرة الاستعمال تنصرف الى القضاة، فيكون المعنى واحد والعطف تفسيري، إلا ان الاظهر هو الوجه الاول .
استدراك أنواع كثرة الاستعمال: وبمناسبة ورود كلمة (حكامهم) في المقبولة و(احكام) في الرواية السابقةفي سؤال السائل (هل نأخذ في احكام المخالفين...) ووجود معاني متعددة للكلمتين، ومحاولة تعيين احداها، باللجوء الى (كثرة الاستعمال) لا بد من الإشارة إلى الضابط الكلي، فنقول بإيجاز وبدون ذكر ما قد يورد على ما سنذكره في الحالة الثالثة.
ان اللفظ الموضوع لمعنى لو كثر استعماله فيصنف من اصناف ذلك المعنى فلدينا ثلاث حالات – وقد ذكرنا اثنين فيما سبق – وهي:
1)الحالة الاولى: ان تكون كثرةاستعمال الموضوع للنوع، في الصنف بدرجة يهجر فيها المعنى الاصلي، وينقل اللفظ الى المعنى الثاني بالوضع التعيني، حيث يصبح حقيقة في المعنى الثاني الاخص دون الاول، ومعه فالاستعمال في الاول يحتاج الى قرينة المجاز.
2) الحالة الثانية: ان لا تصل كثرة الاستعمال الى درجة هجران المعنى الاول والنقل الى الثاني، بل بدرجة اقل مع كونها تفيد ظهورا جديدا بالإضافة الى الظهور الاول في المعنى الاول، والحال سيكون كما في المشترك اللفظي وسيكون المعنى المراد مجملا.
3) الحالة الثالثة: ان تكون كثرة الاستعمال بدرجة اقل من ذلك مع كون هذه الدرجة تصلح كقرينة توجب إنصراف الذهن عن المعنى العام إلى الأخص – وهو أحد أصنافه - من غير ان تطيح بالظهور القديم في الأعم – كما في الحالة الاولى -، ومن غير توجد ظهورا جديدا في الأخص – كما في الحالة الثانية –،
وهذه الحالة (الثالثة) هي موطن الانصراف الذي يناقش فيه، وفي هذا الاحتمال (الحالة الثالثة) هناك صلاحية للانصراف إلى المعنى الثاني؛ولذا ترجع القضية الى ذهنية الفقيه، فان كانت مناسبات الحكم والموضوع مثلاً لديه بدرجة قوية، فانه سيحكم بالانصراف للمعنى الثاني ,
وهذا بحث اصولي مهم يوكل تحقيقه وتفصيله إلى محله.
الصورة الرابعة: وأما الصورة الرابعة وهي ان تكون المخالفة مخالفة لعامة العامة أي: عوامهم، وهذه الصورة توجد عليها روايات ايضا مثل:
ما رواه الشيخ الصدوق في العيون والعلل قال ابو عبد الله (عليه السلام): أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ ، فقلت: لا ادري، فقال (عليه السلام): ان عليا(عليه السلام) لم يكن يدين الله بدين إلا خالفت عليه الامة الى غيره ارادةً لإبطال امره، وكانوا يسألون امير المؤمنين (عليه السلام) عن الشيء الذي لا يعلمونه,فاذا افتاهم جعلوا لهم ضدا من عندهمليلبسوا على الناس"، وبهذاالمضمون او قريب منه روايات اخرى منها، ما جاء في كتاب(صفات الشيعة) عن الامام الرضا (عليه السلام): "شيعتنا المسلّمون لأمرنا، الآخذون بقولنا,المخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منا " ولا بد من التنبيه ههنا على أن هاتين الروايتين تصلحان دليلاً للجواب عن الإشكال السابق في آخر الدرس السابق من أن الترجيح بمخالفة العامة، خاص بباب التعارض.
وفي روايةأخرى: " قلت للعبد الصالح – أي الامام الكاظم (عليه السلام) – يروى عن ابي عبد الله شيء ويروى عنه خلافه فأيهما نأخذ؟
فقال (عليه السلام): خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه "
وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد وواله الطاهرين
|