بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم,
كان البحث حول الحكم الوضعي لبيع كتب الضلال ومختلف المعاملات الجارية على مسببات الفساد، وذكرنا انهم استدلوا على بطلان هذه المعاملات بعدة أدلة خاصة، ووصلنا الى الدليل الرابع وهو ما ذكره صاحب الفقه في المكاسب المحرمة، حيث استظهر انه هناك تنافي بين أن يحرم الشارع بيع كتب الضلال تكليفا وبين ان يصحح المعاملة وضعا، أي انه يوجد تنافي عرفي بين الأمرين .
الإشكال بعدم الملازمة بين الحكم التكليفي والوضعي
فان قلت: انه لا ملازمة بين الأحكام التكليفية وبين الأحكام الوضعية؛ إذ التفكيك بينهما ليس بعزيز وعليه فكيف يدعي صاحب الفقه – بما يفهم من كلامه – التنافي فانها مبنية على التلازم.
جواب السيد الوالد: لا منافاة ذاتاً بل إثباتاً
وقد أجاب السيد الوالد عن إشكال التلازم حيث قال: "إذ ان عدم المنافاة في نفسه لا يلازم الصحة كلما تحقق ذلك بعد رؤية العرف المنافاة في أمثاله" ويمكن ان نستدل له بإضافة منا ثم نوضح كلامه بما يبرهنه فنقول: لابد من تحديد المبنى الذي نرتضيه في الأحكام الوضعية منسوبةً ومقيمةً للأحكام التكليفية
مبنيان في الأحكام الوضعية
ويوجد مبنيان في المقام لتوضيح العلاقة بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية:
المبنى الأول: وهو مبنى الشيخ الأنصاري حيث يرى بان الحكم الوضعي منتزع من الحكم التكليفي وعلى هذا المبنى فان التلازم بين الأحكام الوضعية والتكليفية هو على مقتضى القاعدة فكما ان هناك انتزاعيات خارجية أي انتزاعيات من الخارج كالزوجية من الأربعة، فهنالك أيضا انتزاعيات اعتبارية أي انتزاعيات من الاعتبار، فان الأحكام التكليفية اعتبار وينتزع منها اعتبار آخر وهي الاحكام الوضعية ، نعم الشارع له ان يرفع بعض اللوازم ولايةً وتنزيلا لهذا اللازم – مع وجود الملزوم – منزلة العدم كما في الزوجة المظاهرة, فإنها لا تزال زوجة وضعا، ولكن تكليفا يحرم على الزوج الاقتراب منها، فالحكم الوضعي موجود دون الحكم التكليفي .
المبنى الثاني: وهو مبنى الاخوند في الأحكام الوضعية وهذا يقابل المبنى الأول للشيخ، حيث قسم الاخوند الأحكام الوضعية الى ثلاثة أقسام:
القسم الاول: وهو ما لا يمكن جعله بالمرة لا تكوينا ولا تشريعا، إلا بجعل منشأ انتزاعه التكويني، وحسب مثاله كالسببية والشرطية و المانعية و القاطعية للتكليف .
القسم الثاني: وهي تلك الأحكام الوضعية التي تجعل بجعل منشأ انتزاعها التشريعي – أي الحكم التكليفي –، وفي هذا القسم فان الاخوند يطابق رأي الشيخ حيث التلازم هو على مقتضى القاعدة، كما في السببية والشرطية و المانعية و القاطعية للمكلف به – لا للتكليف –فان الشارع أمر بالصلاة المقيدة بكونها عن طهارة مثلاً، فقد أمر بهذه الحصة الخاصة من الصلاة فانتزعت الشرطية من الطهارة، وهذا الكلام صحيح من الاخوند،
وهنا الملازمة موجودة وانتزاع الحكم الوضعي من التكليفي ثابت
القسم الثالث: وهي الأحكام الوضعية القابلة لان تجعل استقلالا، كما إنها قابلة لأن تجعل تبعا للتكليف، مثل الولاية والقضاوة والزوجية والرقية وغيرها، فجعل الأب وليا هو حكم وضعي، يستتبع حكما تكليفيا، وهو جواز تأديب الأب ولده بالمقدار الشرعي، كما ان هذه الأحكام قابلة للجعل تبعا، نعم ظاهر الأدلة هو الأول – أي جعلها استقلالاً لا تبعاً-
وعليه: فان الإشكال ينحصر في هذا القسم من أقسام الاخوند الثلاثة، حيث ينفك التلازم بين الحكمين الوضعي والتكليفي، إذ يمكن ان يجعل الشارع الزوجية وجواز الاستمتاع بها، وله ان يفكك كما هو الحال في الزوجة المظاهرة وما أشبه ذلك . وكما هو الحال في الميتة فان الشارع يمكن ان يفكك بين طهارتها – وضعا – من جهة، وبين ان يحكم بحرمة أكلها - تكليفا- من جهة أخرى ، كما هو الحال في مشكوك التذكية، فمقتضى الاستصحاب الأول هو الطهارة، ولكن مقتضى الأصل الآخر هو الحرمة ، فالإشكال خاص بهذا القسم وبهذه الصورة
جواب الإشكال: ليس المدار هو التنافي الذاتي
وهنا نقول:
ان المدعى ليس هو التنافي الذاتي – كما هو صريح كلام الفقه – بين الحكم التكليفي وبين ما لا يسانخه من الحكم الوضعي، وبتعبير آخر: ليس المدعى هو التلازم الذاتي الثبوتي بين الحكم التكليفي وبين ما يسانخه من الحكم الوضعي، وإنما المدعى في عالم الإثبات هو ان المستظهر من لسان الأدلة في مثل هذه الموارد هو تبعية الحكم الوضعي للحكم التكليفي، أي ان لسان الدليل حيث حرّم هذا الأمر فقد أبطله، لا للتلازم الثبوتي بينهما، فان المستكشف عرفا من مثل قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) ونظير هذه الآية الشريفة من تحريم نكاح الأمهات ان الشارع قد كره ذلك الى حد التحريم، والمستظهر من هذه الكراهة وبهذا الحد – عرفا – إبطاله لهذا النكاح، فان هذا الخطاب عندما يلقى الى العرف من ان نكاح الأمهات حرام، يفهم منه ان العقد على الأمهات باطل، وانه لا يقع به النكاح ولا تكون به زوجة فانه من الواضح في لسان الدليل تبعية الحكم الوضعي ههنا للتكليفي، ولو قيل بعكس ذلك (أي بأن العقد عليها حرام لكنها به تكون زوجة) لرأى العرف – وهم الملقى إليهم الكلام - ذلك مستغربا ومستنكرا ومستبعدا،
وكذا الحال في السرقة فان الشارع عندما يحرمها فان هذا التحريم يكشف عن انه يكره السرقة الى حدّ لا مجال معه للترخيص بها، وهذا واضح، وظاهر هذا ان الشارع لا يعتبر حدوث نقل وانتقال للشيء المسروق بالسرقة أي بسببها، ولو قيل بعكس ذلك لكان المورد مثار استغراب العرف , وعليه فان الشارع عندما يحرم السرقة والغصب وبيع السلاح من اعداء الدين فان تحريمه التكليفي ناطق عرفاً بالبطلان الوضعي .
تطبيق الدليل على مسألتنا:
ومقامنا من قبيل ما بيناه، فلو الدليل الشرعي على ان بيع كتب الضلال الذاتي الموجب للإضلال محرم، المستظهر منه عرفاً انه لا نقل ولا انتقال حينئذٍ وضعا، ولو قيل بعكس ذلك لكان مثاراً للاستغراب عرفاً.
توضيح أكثر للدليل الرابع: بناء العقلاء وسيرتهم على ذلك
وللتوضيح أكثر نقول: ان بناء العقلاء وسيرتهم في كل الدول والأعراف على انهم لو حرموا شيئا - كالدولة لو حرمت بيع بضاعة الى دولة أخرى-, فإنهم يرون ان الحكم الوضعي مستتبع للحكم التكليفي والحرمة، وان ظاهر التحريم ذلك، وكذا نجد انهم عندما يحرمون بيع المتفجرات والمخدرات مثلاً فان الظاهر من ذلك عرفاً – وعليه بناؤهم – دلالة ذلك على البطلان وضعا إضافة للحرمة تكليفا، المستتبعة للعقوبة.
تقوية الدليل الرابع: الحكمة والغرض يقتضي الاستتباع
وتقوية للدليل الرابع نقول: ان مقتضى الأصل الأولي هو الاستتباع والملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي المسانخ له؛ فان هذا هو مقتضى الحكمة – إلا مع المزاحمة لمصلحةٍ أقوى - فان مقتضى حكمة الشارع، تحقيقاً لغرضه، هو إيجاد الباعثية في المكلف في صورة الإيجاب وإيجاد الرادعية في صورة السلب، فلو حرم السرقة، ثم رتب عليها الحكم الوضعي المسانخ من عدم الملكية فانه يعدّ نوع رادع، اما لو ملّكه الشارع بعد تحريمه فانه يعد نوع تحريض منه على السرقة، ونقضا منه لحكمته وهو قبيح.
الاستثناء إنما هو لدليلٍ
ونزيد الأمر إيضاحا فنقول: ان ما بيناه هو مقتضى الأصل وان كان يمكن ان يخرج الشارع او العقلاء عن هذا الأصل لجهة ما، كما في بعض الأمثلة السابقة كمثال بيع المخمصة، فان الأكل من ملك الغير في هذا الظرف قد أوجبه الشرع حفظاً للنفس عن التهلكة فأباح الاكل تكليفا بما يسد الرمق في عام المخمصة، ولكنه من جهة ثانية ضمّن الأكل ذلك، ففكك بين الإيجاب وبين اللاضمان، مع ان مقتضى القاعدة – على ما قلتم - انه حيث اوجب الشارع الأكل تكليفا فلا ضمان وضعا, والجواب: ان ذلك خروج عن الأصل بالدليل ولسبب، فان السبب في التفكيك هو الجمع بين الحقين: حق الآكل وحق المأخوذ منه، فحق الأول هو في حفظ حياته ولذا أباح واوجب عليه الأكل، وأما حق الثاني فبان يضمن له ما اخذ منه بان يعوض عنه، وهذا الأمر عقلائي فيخرج المورد عن القاعدة الكلية بدليل خاص ولمصلحة خاصة اقتضت التفكيك رعايةً للحقين. وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد وال محمد الطاهرين |