بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم,
كان البحث حول الحكم الوضعي لمختلف المعاملات ومنها البيع الذي يقع على كتب الضلال أو سائر مسببات الفساد من مخمر او مبغى او ملهى او مدرسة أسست للإضلال او غير ذلك، وقد ذكرنا ان ما يستدل به بعد القاعدة الأصولية الشهيرة العامة، هو عدة وجوه، الوجه الأول: ان يدعى ان كتب الضلال الذاتي، بل والعرضي ومطلق مسببات الفساد، ليست بملك ولم يعتبرها الشارع مملوكة، و لا بيع إلا في ملك - على المشهور –، ومضى بعض الكلام عن ذلك الوجه،
الوجه الثاني هو ان يقال: سلمنا إنها ملك، إلا إنها لا مالية لها، وما لا مالية له لا يصح بيعه، وقد مضى النقاش في هذا الوجه حيث ذكرنا ان دعوى كونه مما لا مالية له عرفا ليست صحيحة؛ فان كتب السحر او الكفر او الإلحاد او غيرها ذات مالية عرفا، ولكن المدار هو : هل ان الشارع قد ألغى ماليتها او لم يلغها؟ هذا كصغرى، وأما الكبرى فقد ناقشنا بان صحة البيع لا تدور مدار المالية بل انها تدور مدار النفع وعدمه .
الفرق بين المالية والفائدة في البيع
ونضيف توضيحاً للفرق بين المالية والفائدة (وان الفائدة دون المالية هي المصححة البيع) معنى ان الشيء ذو مالية هو انه يقابل بالمال وله ثمن، فان بعض الأشياء لها نفع ولكنها لا تقابل بالمال عرفا ولا ثمن لها كالخنافس والديدان وما أشبه، وكذا فضلات الإنسان فانها في كثير من الأماكن لا مالية لها ولا تقابل بالمال، وإن كان لها النفع كسمادٍ مثلاً.
نقاش آخر: الدليل اخص من المدعى
ولقد ناقشنا الكبرى المذكورة سابقا، وقلنا بان المالية ليست هي المقومة للبيع، ونضيف الآن نقاشاً آخر:
انه حتى لو سلمنا بان البيع قوامه بالمالية, أي بمالية العوضين اللذين يقع عليهما البيع وان ما لا مالية له لا يصح بيعه فلابد من كونهما ذوي مالية ليصدق عنوان البيع، ولكن هذا الدليل هو اخص من المدعى؛ لان كلامنا هو عن مطلق المعاملات الجارية على مسببات الفساد، ومنها كتب الضلال، وليس الكلام عن خصوص البيع، فان البحث يشمل من يؤجر كتاب سحر ويشمل من يقوم بعقد المزارعة على ارض بقصد ان يعصر حاصلها من العنب والكروم خمرا أو باشتراطه، أو من يساقي على ارض كي يكون حاصل ذلك خمرا وباشتراطه وما أشبه، وهذا النقاش هو نقاش عام مع الشيخ وغيره .
إذن : الكلام ليس في خصوص البيع حتى يناقش الشيخ وغيره بان البيع قوامه بالمالية، وكتب الضلال الذاتي لا مالية لها، بل دائرة البحث أوسع فانها عن كل المعاملات وكما هو واضح فان سائر المعاملات- غير البيع - لا تشترط المالية فيها وإنما تشترط المنفعة العقلائية المحللة، فالصلح - وهو قدر متيقن في هذا البحث و لا يشك فيه احد – وهو عقد قسيم لسائر العقود ومغاير لها على رأي المشهور قد يقع على العين وقد يقع على المنفعة وقد يفيد إسقاط حق او إسقاط دين، وهذه الصور لا فرق فيها بين ان تكون في مقابل شيء أي ثمن او لا يكون ذلك
والخلاصة : نقاشنا الآخر انه لو سلمنا بان قوام البيع بالمالية للعوضين وان كتب الضلال لا مالية لها، فان الدليل يبقى اخص من المدعى فانه وان كان البيع باطلا ولكن الصلح والهبة وهكذا سائر المعاملات ستكون صحيحة؛ إذ انها ليست مشروطة بكون الشيء ذا مالية، هذا هو الوجه والدليل الثاني مع جوابيه
الوجه الثالث : عدم صحة بيع ما لا فائدة فيه
وأما الوجه الثالث لإبطال المعاملات الجارية على مسببات الفساد فهو إنها ليست بذات فائدة وقد اشرنا الى هذا الوجه سابقا صغرى، واما الكبرى هي ان ما لا فائدة فيه لا يصح بيعه وشراؤه، فهي صحيحة.
الشارع حكم ونزّل أو كشف وأوضح؟
ونأتي مرة اخرى الى الصغرى فنضيف:
ان كتب الضلال الذاتي او العرضي ومسببات الفساد، لا فائدة فيها، و قد أوردنا على ذلك بانها مفيدة بحسب العرف، وأجبنا عن ذلك بوجه هو: ان الشارع قد (حكم) بان هذه الفائدة العرفية ليست بفائدة بنظره فلا تكون مصححة للبيع، أي ان الشارع نزّل الفائدة العرفية منزلة العدم، والاعتبار بيد الشارع فانه الحاكم على اعتبارات العرف، فله أن يمضي وله أن يلغي هذا وجه،
ولكن يوجد وجه آخر لجواب الإشكال وهو ان نقول– وهذه هي الإضافة- :
ان الشارع قد (كشف) انه لا فائدة في كتب السحر او الإلحاد او ما أشبه، فان قلت : ان العرف يرى الفائدة فيها؟, قلنا: ان الشارع يخطِّئ العرف في ذلك فانه الابصر بالواقع والاعرف بالحقائق، فيكشف لنا بأنها ذات ضرر وليست بذات فائدة، وبتعبير آخر ان الشارع يكشف للعرف ان الفائدة في المقام متوهمة وليست بفائدة حقيقة - والشرع أصوب من العرف واعرف وأخبر كما هو واضح -؛ وبعبارة أخرى: ان الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية والواقعية، وعليه فان الفائدة تطلق على الفائدة الثبوتية لا المتوهمة، وعليه فان العرف وان رأى فرضاً ان كتاب السحر أو الشرك والالحاد ذو فائدة، ولكن الشارع يخطئه ويكشف له: ان ما قطع بكونه ذا فائدة ليس كذلك في مرحلة الثبوت.
دليلا إثبات الصغرى : دليل موضوعي ودليل حكمي
لكن: حتى الآن فان كل الكلام الذي مضى كان ادعاء للصغرى، ولكن لابد لنا من إثبات تلك الصغرى وهي: ان الشارع يقول – إما حكومة او كشفا – ان كتب الضلال الذاتي لا فائدة فيها، او انه نزّل فائدتها منزلة العدم، واثبات هذه الصغرى يمكن عبر احد دليلين: الأول موضوعي والآخر حكمي،
أما الدليل الموضوعي فهو قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، فان الشارع يكشف بذلك عن ان كتب الشرك والإلحاد وغيرها هي لهو حديث واللهو هو ما لا فائدة فيه واقعاً ,
وأما الدليل الحكمي فهو ان نتمسك بآية (اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) فان من (اعتبر) صحة ونفوذ هذه المعاملات على كتب الضلال الذاتي أو العرضي، وبنى عليها فانه لم يجتنب قول الزور,
اذن: هذان وجهان ودليلان لإثبات صغرى البحث , والظاهر ان الوجه والدليل الثالث تام للدلالة على المراد
الوجه الرابع : الانصراف
وفيه: اننا لو تنزلنا وقلنا بان كتب الضلال الذاتي او العرضي ومسببات الفساد هي ملك اولاً، وان لها المالية ولم يلغها الشارع ثانيا، وان لها فائدة لم يلغها الشارع أو لم يكشف عن عدمها ثالثا، لو سلمنا كل ذلك فإننا نلجأ لدليل رابع قد ذكره السيد الوالد وهو دليل حري بالتأمل، فانه قد استدل لإبطال مختلف المعاملات الجارية على مسببات الفساد بدليل الانصراف وعبارته ، " نعم لا يبعد بطلانه اذا بيع مهن يَضِل او يُضَل به، حاله حال البهيمة اذا باعها من يريد وطيها فانه لا يبعد القول ببطلان البيع؛ لان (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) منصرف عنه، فان تحليله البيع مع انه ينتهي الى المنكر المكروه عند الشارع متنافيان عرفا " انتهى، فلو ان المولى كره مثلاً ان يبيع ابنه الخاتم الذي ورثه من أبيه فان كراهته لذلك إذا بلغت حد التحريم فانها لا تنسجم مع إمضائه للبيع، وبتعبير آخر: ان من بيده اعتبار الملكية والنقل والانتقال كيف يجتمع ان يسوِّغ ويجّوز وضعا النقل والانتقال مع تحريمه له؟.
مناقشة دليل الوالد: لا تلازم بين الحكمين التكليفي والوضعي
ثم ان الوالد أشار إلى إشكال قد يورد على هذا الدليل وهو: انه لا تلازم بين الحكمين التكليفي والوضعي، - وببيان وصياغة منا لكلامه -: انه قد ينقض ما ذكر من متنافيان عرفاً، بان الشارع قد فكك بين الحكم التكليفي وبين الحكم الوضعي، فأحيانا قد جعل الشارع الحكم التكليفي ثم اتبعه بحكم وضعي مسانخ له، ولكنه في أحيان أخرى اتبعه بحكم تكليفي مضاد له، وثالثة فصل الشارع.
وقد ذكر ثلاثة أمثلة على ذلك، فان الإنسان في عام المخمصة، جوّز بل اوجب له الشارع ان يأكل من ملك الغير ولكن تجويزه التكليفي لم يستلزم اللاضمان، بل العبد ضامن لذلك الطعام.
وأما المثال الاخر فانه بعكس الأول فان من اضطر لإنقاذ غريق إلى غصب حبل للغير فان الشارع يوجب عليه هذا الغصب ولا ضمان،
وأما المثال الآخر فان الشارع قد فصل فيه فجعل الضمان على الغير كما في الكفار الذين تترسوا بمسلمين قلة فان قتل هذه القلة لو توقف الفتح عليهم وكان ذلك باذن الإمام، فان قتلهم سيكون جائزاً وأما الدية فمن بيت المال، وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين |