بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لازال الحديث حول قاعدة الالزام، ومدىتمامية الاستدلال عليها ببعض الآيات الشريفة، ووصلنا الى قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ)، والمحتملات في المراد من العدل.
المعنى التاسع: العدل الشخصي
ونذكر الان احتمالاً اخر غير ما ذكرناه سابقا، ولو تملنقضما سبق ذكره حول العدل الواقعي المنكشف بالعرف، والاحتمال هو:
ان يكون المراد من العدل هو العدل الشخصي، و يؤيده ويقربه -وقد يستدل عليه – بما ذكر في بحث اخر، وهو بحث قاعدة (لا ضرر) و(لا حرج)، وهل ان الضرر او الحرج المنفي هو الشخصي او النوعي؟
لا شك عند المحققين ان المنفي هو الضرر والحرج الشخصي ؛ حيث ان الحكم يتبع موضوعه, فلو لم يكن الشخص متضررا من الوضوء مثلا فلا يصح رفع الحكم بالنسبة اليه بالنظر الى حكمة التشريع، وكذا الامر فيما لو لم يكن الشخص متضررا من صيام يوم معين، فلا رفع للحكم في حقه، وان كان عامة الناس في ضرر منه، هذا هو رأي المشهور، من غير تفصيل بين العبادات والمعاملات عند المحققين من المتأخرين، وهذا بخلافه عند الشيخ الاعظم وبعض اخر من السابقين، حيث ذهبوا الى ان الضرر المرفوع في العبادات هو الضرر الشخصي، واما في المعاملات فهو الضرر النوعي، مستدلا – الشيخ - على ذلك بخيار الغبن، إلا ان المحققين من المتأخرين – كما ذكرنا – يرفضون رأيه ويردون ادلته.
وهذا البحث قد يستند اليه في مبحثنا، فكما ان المدار هناك على الضرر والحرج الشخصي – وهو على القاعدة لان الحكم يدور مدار موضوعه الحقيقي لا المجازي –، فكذا في مقامنا إذ قد يقال ان المراد من (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ) هو العدل الشخصي لا النوعي، وعليه سوف ينتفي ما ذكرناه من الاحتمالات السابقة للعدل، وسيكون المراد هو العدل الواقعي المنكشف برأي الشخص. فتأمل .
محذور تبني هذا الرأي:
ويترتب على تبني هذا الاحتمال بالنسبة لقاعدة الالزاممحذور، وهو ان القاعدة - بناء على هذا - ستكون شخصية وليست تابعة للالتزام بملة او نحلة او دين او مذهب، بل كلما التزم شخص بأمر، ترتبت عليه أحكامه وألزم به وإن كان على خلاف مذهبه.
ولكن نقول هناوبإيجاز- وسيأتي تحقيق ذلك لاحقاً ان شاء الله –:
ان قاعدة الالزام نوعية وليست شخصية، فالزام الغير إنما يكون بما طابق مذهبه، لا بما يراه في نظره، فلو ان مسيحيا الزم نفسه بخلاف مذهبه فانه لا يعتنى به,والذي يترتب عليه بمقتضى الالزام هو ما يقتضيهالمذهب الذي يدين به.
ردّ هذا الاحتمال:
وأما هذا الاحتمال مردود ومرفوض لوقوع الخلط في المقام ؛ حيث ان هناك فرقا بين بحثنا و المراد من العدل في (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ)، وبحث (لا ضرر ولا حرج)، فانهفي الاخير نلتزم بالضرر والحرج الشخصي، واما في العدل فإننا نلتزم بالعدل النوعي، ولكن لماذا؟
تفريق دقيق:
ونقول في الجواب:
ينبغي ان يفرق بين شيئين وهما (العدل في حقه) و(العدل في نظره) -ومن هنا نشأ الخلط -.
وبتعبير اخر:انه تارةيكون الكلام عن المرجع في مفهوم العدل، وتحديد ذلك المفهوم، وهنا يكون العرف هو المقياس والمرجع في ذلك، والأمر بنفسه جار في الضرر فان العرف هو الذي يشخص الضرر، باعتباره مرآة للواقع, وليس الشخص والفرد هو المرجع، إذ (بلسان قومه) وهم العرف، لا بلسان كل فرد فرد.
وتارة اخرى، يكون الكلام في محل ثبوت الحكم ومعروضه ومصداقه، وهنا المحور هو الشخص، وعليه فالعدل في حقههو الشخصي ، ولكن العدل في نظره هو النوعي، فلو ان شخصا رأى ان هذه المعاملة غبنية – كشخص –، لكن العرف لم يرَ ذلك، فإن رأي العرف هو الساري في المقام، نعم العرف قد يراها غبناً للنوع لا لهذا الشخص أو بالعكس.
وعليه فان البحث في مستويين ودائرتين، والحال نفسه في مورد الضرر فان البحث في الضرر الواقعي المنكشف بالعرف، إلا ان التطبيق ومحور وموضوع الحكم هو الشخص.
والتحقيق:
والحق: ان هنا أموراً ثلاثة: نظر الفرد ونظر النوع ونظر المذهب، والأخير منتفي حيث لا حقيقة شرعية في (العدل). والمرجع في تحديد المفاهيم (أي مفاهيم موضوعات الأحكام) هو العرف لا الفرد إذ (بلسان قومه) وهم النوع لا الفرد كما سبق، فإذا أريد بالعدل الشخصي، هذا المعنى فهو مردود.
واما متعلَّق العدل ومصداقه، فالمحور فيه والمعيار هو (الشخص) لا (النوع)، أي ما كان عدلاً في حقه كشخصٍ فالنبي مأمور بفعله وإن كان نفس هذا التصرف ظلماً لشخص آخر، فإذا أريد بالعدل الشخصي هذا المعنى كان نظير ما أريد من كون (لا ضرر ولا حرج) شخصيين، لكنه لا ارتباط له بكون قاعدة الإلزام شخصية بمعنى ان ما رآه الشخص والتزم به بما هو شخص، يلزم به، وإن خالف مذهبه، بل لا بد لهذا من دليل آخر فإن ظاهر (الزموهم من ذلك ما ألزمو انفسهم) هو ما الزموه أنفسهم باعتبارهم متدينين بدين أو مذهب، لا باعتبارهم أشخاصاً التزموا بأمر وإن كان على خلاف دينهم، كما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.
الاستدلال بقاعدة المقاصة النوعية:
ويمكن ان يستدل بقاعدة المقاصة النوعية على اثبات ما ذكرناه سابقا ، أي:انه يمكن ان يستدل لتنقيح صغرى العدل وانطباقه على قاعدة الالزام بروايات المقاصة النوعية؛ حيث انها شخصت المصداق وان الالزام عدل، ونذكر رواية واحدة نكتفي بها:
وهي ما رواه الثقة الكليني عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير عن عمر ابن اذينة عن عبد الله ابن محرز عن الامام الصادق(عليه السلام) , وموطن الشاهد ان عبد الله ابن محرز سأل الامام عن شخص مات وخلف بنتا مخالفة واختا عارفة- أي امامية - ؟ فكان جواب الامام (عليه السلام): "فخذ لها النصف"، ثم علل (عليه السلام) ذلك قائلا: " خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنتهم وقضاياهم"، وعليه فان الامام (عليه السلام) قد حدد المصداق، إذ الظاهر أن (خذوا منهم كما ...) إنما هو لكونه عدلاً.
ويترتب على ذلك:
لو شك في ان الالزام مصداق من مصاديق العدل في آية:(وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ)، فان هذه الرواية تبين ان الالزام مصداق وصغرى للعدل. فتأمل
تنبيهان:
1- انه لو استدللنا لإثبات دلالة الآية على قاعدة الالزام، برواية المقاصة النوعية فسيختص بإثبات قاعدة الالزام دون الامضاء؛ حيث ان المقاصة في الالزام دون قرينتها، اللهم ان يقال بتنقيح المناط فانهرواية الامام (عليه السلام) " خذوا منهم كما يأخذون منكم .. " دالة على قاعدة عقلائية، وهي كما تجري في الالزام كذلك تجري في الامضاء لوجود التقابل في كليهما (أي بيننا وبين المخالف)، لكن تنقيح المناط عهدته على مدعيه والظاهر انه قياس ؟
2- ان الاستدلال بمعونة الرواية يختلف عن استدلالنا السابق ؛ لان الاستدلال هنا انما هو بمعونة المقابلة بينا وبينهم وهذا النوع من المقابلة لم يطرح سابقا، فاننا كنا نقول ان الزامنا اياه بمقتضى احكام دينه عدل ؛ لأنه وضع للشيء بموضعه من غير لحاظ المقابلة ودون الحاجة إليها.
تتمة هامة:
بناء على ما سبق ذكره من ان الكاشف النوعي عن (العدل الواقعي) هو العرف، فانه أيالعدل سيختلف باختلاف الاعراف ، و الاحكام الشرعيةستترتب على ضوء تحقق العدل في عرفهم، اللهم إلا فيما تصرف الشارع فيه.
والحاصل: ان كون العدل عرفيا سواء أقلنا بان العرف هو الذي يكشف عن الواقع مع كون الواقع هو الموضوع أم قلنا بأن العرف هو المحور يستلزم تعددمصاديق العدل لكن لا ضير في ذلك، وفي الشرع امثلة لذلك، كما في باب المزارعة والمساقاة والوصية والمضاربة والجزية وغيرها، فان الشارع قد رتب الاحكام على الموضوع العرفي رغم اختلاف الاعراف، فإنه في باب المضاربة مثلا المالك عليه المال والاخر عليه العمل والربح بينهما اما مناصفة او بنسبة معينة كأن تكون الربع لاحدهما والباقي للاخر او غيرها، فلو كان العدل في عرف ما هو التنصيف وفي عرف اخر كان العدل هو التثليث وهكذا لكان الحكم تابعا لذلك العرف ، وكذا الحال في الجزية، فلو ان اهل مدينة مثلا جرى عرفهم على ان اخذ الربع من المال هو عدل فحاكم الشرع له وضع الربع عليهم، وان كان اهل بلدة اخرى يرون بخلاف ذلك كأن استقر عرفهم على ان اخذ العشر هو العدل، فحاكم الشرع لا يضع عليهم أكثر من العشر. فتأمل
اذن:كلما لم يتصرف الشارع في المصداق النوعي توسعة او تضييقا فالأمر موكول الى العرف في تحديد المصداق، وتبعا لذلك قد تتعدد المصاديق.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين |