بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول الآية الشريفة (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) والاستدلال بها على حرمة حفظ كتب الضلال ومختلف التقلبات في مسببات الفساد، وقلنا: إن ذلك يتوقف على تحقيق معنى (تعاونوا) من حيث الهيئة، وما هو المراد بباب التفاعل وقد مضى الحديث عن ذلك،
العنوان والمسالة الثانية
وأما العنوان الثاني والذي ينبغي تحقيقه في بحثنا فهو:عنوان (الإثم) الوارد في الآية الشريفة، والمعنى المرادمنه؟ فانه و على ضوء تحقيق معنى الإثم سنستنتج ان حفظ كتب الضلال مشمول بالآية أو لا؟ وسيتضح ذلك في مطاوي فقه هذه الكلمة إن شاء الله تعالى.
معان متعددة لكلمة (إثم):
ان التتبع حول كلمة الإثم في كلمات اللغويين والمفسرين يكشف لنا إنهم قد ذكروا معاني متعددة لها, لعلها تصل إلى ثمانية او تسعة معاني, ومن أوضحها وأكثرها شهرة هو تفسير الإثم بالذنب والمعصية،ولكن – لعله- سيظهرإن هذا التفسير هو تفسير سطحي، والتحقيق قد يقتضي غير ذلك,
وعلى ضوء هذا التفسير أو التفاسير الأخرى للكلمة فان النتيجة الفقهية للاستدلال بهذه الآية الشريفة ستختلف, ولذا ينبغي التدقيق في فقه كلمة (الإثم) وما هو المراد منها .
معاني عديدة لكلمة الإثم :
وكما قلنا، فانه ذكرت عدة معان لـ(الاثم)، وهذه المعاني لم تحللبدقة بحسب التتبعالموسع نسبياً،وسنستعرض هذه المعاني والأقوال الآن,ثم نشير بعض الإشارات المبدئية للمحاكمة بينها، ثم بعد ذلك نستخلص النتيجة الكليةمنهاان شاء الله تعالى.
فمن التعريفات للاثم:انه يراد بهالقمار,والمعنى الآخر هوالخمر، والآخر هو الفجور، فالآثم هو الفاجر، وهذه التعريفات الثلاث لا نتوقف عندها طويلا لان وجه محاكمتها واضح، وهو أنها تفسير بالمصداق، فلا مشكلة لدينامع هذه التعريفات .
تعريفات اخرى:
ولكن التعريفات الأخرىهي منشأ الإشكال، ومنها إن الإثم يعني المعصية او الذنب، ولو قلنا بذلك لاشكل الاستدلال بآيتنا على حرمة حفظ كتب الضلال؛ إذ من أين ثبت لناأن حفظ كتب الضلال معصية؟، فانه لم يتحقق الموضوع بعد، وعليه فلا يمكن أن يستند إلى النهي في الآية الشريفة، نعم لو ثبت خارجا إن حفظ كتب الضلال معصية، فانه يمكن الاستدلال بآيتنا على المراد, ولكننا لا زلنا في مقام التحقيق في أن حفظكتب الضلال حرام أو لا؟ وهل هذا الحفظ معصية أو لا؟ ولا يمكن التمسك بعموم الحكم لاثبات موضوعه،ولذا فان هذا المعنى, أي المعصية يعاني من هذا الإشكال.
وقد ذكر صاحب لسان العرب عدداً من معاني الإثم السابقة حيث يقول: ( الإثم: الذنب.. والإثم: القمار، والإثم عند بعضهم الخمر....) .
معنى آخر: الإبطاء عن الخير
وأما المعنى الأخر للاثم، فقد ذهب إليه بعض المدققين، وهو ان الإثم يعني الإبطاء او البطء عن الخير والثواب، - وبتوضيح وإضافة منا - ان المعصية هي مصداق لهذا المعنى الأكثر شمولا ، لان المعصية سميت إثما لأنها تبطئ صاحبهاعن الخير، فإذا انتخبنا هذا المعنى، فان الأمر في الاستدلال سيكون سهلا.
أقوال ابن فارس والراغب واللسان والميزان و...
وفي هذا المعنى قال ابن فارس (إثم: تدل على معنى واحد هو البط ء والتأخر,يقال ناقة آثمة: أي متأخرة، والإثم مشتق من ذلك ؛ لان ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه )،
وأما الراغب الأصفهاني في مفرداته فيؤكد هذا المعنى ويقول: (الإثم اسم للافعال المبطِّئة عن الثواب، وقوله تعالى: ( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ), أي الخمر والميسر، أي :انه في تناولهما إبطاء عن الخيرات)، والآية الأخرى( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً)، والضمير يعود الى الشاهدين على الميّت الموصي وهو في مكان بعيد عن أهله, ثم شهدا بكذا وكذا، فـ(عثر على أنهما استحقا ما يوجب إبطاء الخير عنهما)حسب هذا القول، وعليه فان الإثم بهذا المعنى سيشمل الكسل والنوم الكثير,فانه وان كان ليس بمعصية، ولكنه مبطئ عن الصالحات و الخير من الدرس أو البحث أو الجهاد وما أشبه،
وصاحب لسانكلام العرب يذكر هذا المعنىأيضا كواحد من المعاني المتعددةحيث يقول: (أثمت الناقة المشي تأثمهُ إثما أبطات) ،
وإما فيكتاب الفروق اللغوية -وهو كتاب مهم جدا – فان ابن هلال العسكري يذكر فيه معنى قريبا من ذلك حيث يقول: " والفرق بين الإثم والذنبإن الإثم في أصل اللغة هو التقصير "والظاهر انه يريد نفس معنى الإبطاء لا التقصير الذي هو في مقابل القصور، ولو أرادهذا المعنى الأخير فان ذلك سيكون معنى جديداً يضاف إلى المعاني المتعددة السابقة.
وأما المعنى الأخر للاثم وهو المعنى المتداول أي (المعصية),فقد انتخبه جمع منهم صاحب تفسير الصافي حيث يقول الإثم:المعصية .
أما صاحب تفسير الميزان فقد جمع بين المعنيين ففسر الإثم بالمعصيةالتي تبطئ بالإنسان عن الخير , حيث يقول: ويقابله – أي التقوى – التعاون على الاثم الذي هو العمل السيء المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة...) وذلك في آية (تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، فهو يدعي إن التقابل ليس تاما بين طرفي الآية الشريفة، فان الإثم لا يقع في مقابل البر والعدوان لا يقع في قبال التقوى،وإنما الإثم والعدوان يقع كلاهما في قبال قسيم واحد وهو التقوى .
ميزانٌ لمعرفة المعنى المرادف للآخر:
وهنا نذكر: انه ينبغي فيما ينبغي في المرجعية لمحاكمة بين الأقوال والمعاني المختلفة: إن نرى مدى صحة استخدام إحدى الكلمتين موضع الكلمة الأخرى،كما في قوله تعالى مثلا (تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)هل يصح وضع (المعصية) موضع (الاثم)؟ وأوضح قوله تعالى: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) ,فهل يصح أن نضع كلمة (إثم) في مكان كلمة معصية في الآية الشريفة؟ فانه لو كان المعنيان مترادفين-على حسب بعض التفاسير - لكان ينبغي ان يصح الإبدال فيمابينهما, فيصح قول: (وإثم الرسول)، ولكن وكما هو واضحذلك خطأ، وكذا يقال:فلان مأثوم على فعله، فهنا لا يصح كذلك ان نضع كلمة المعصية مكان مأثوم فنقول:فلان معصي على فعلهبل هذا التعبير خطأ، نعم لو قلنا معصي أمرُه فصحيح لكنه لا يفيد معنى مأثوم على فعله، وعلى كلا التقديرين فلا تطابق بين المعنيين،
وبتعبير أخر، ولعله جذر تحليل هذا المطلب إن أثم – بمشتقاته - لازم، ولكن العصيان – بمشتقاته متعد، فهل يصح تفسير اللازم بالمتعدي؟ نقول: (أثم زيد)فهو لازم و(عصى زيد عمروا)فهو متعد، فان عصى في جوهره التعدي و إما إثمفبجوهره اللزوم .
تفسير المشهدي في كنز الدقائق
وقد ذكر العلامة المشهدي في تفسير الدقائق -وهو تفسير جدير بالتأمل - معنى جديدا للإثم، حيث يقول: (الإثم: الفعل القبيح الذي يُستحق به اللوم)، وهو معنى أوسع من المعصية كما هو واضح،فان كثيرا من الأفعال القبيحة يستحق بها اللوم لكنها ليست بمعصية ،كما هو الحال في منافيات المروءة - على المشهور -، كمن مد رجله أمام الناس، فانه فعل قبيح، ويلام صاحبه عليه، لكنه ليس بمعصية.
قول آخر للمشهدي في تفسيره :وذكر المشهدي في تفسيره قولا آخر لمعنى كلمة (أثم ) وهو:
"ما تنفر منه النفس ولم يطمئن إليه القلب "، وقد اعتبر منه قول النبي الأعظم ص عندما سأله نواس بن سمعان عن البر والإثم في الآية الشريفة ؟" فقال ص: البر ما اطمأنت به نفسك و والإثم ما حك في صدرك " ، ونحن نمثل لذلك بمثل الموسيقى فلعل مشهور الفقهاء قالوا بجوازها، إذا لم تكن بأدوات اللهو؛ حيث ان المحرم هو الغناء بعنوانه وأدوات اللهو بعنوانها، فلو فرض ان الموسيقى تجردت عنهما كما في الموسيقى العسكرية أو الجنائزية لو لم تكن بأدوات اللهو مثلا،فان البعض الأقل من الفقهاء قد حرمها،ولكن المشهور من المتأخرين لعله يقول: لا دليل على حرمتها،إلا إن الضابط الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) في الرواية – لو صح السند – يشمل المقام فان المتدين يحس بنوع من الحرج في نفسه من سماعها،
وأما المثال الآخر فهو النظر إلى الأجنبية لا بشهوة، كما في المورد المذكور في الرواية وهي المتكشفة من أهل البوادي فالمشهور يقول بجواز النظر إلى ما اعتادت اظهاره من رأسها وأعلى رقبتها وبعض يدها,ولكن مع ذلك فان الإنسان يحس بنوع من الحرج من النظر الى هذه الأجنبية وعليه فلو كانت الرواية صحيحة فهي تؤسس لضابط عام في عدم جواز النظر إلا ما خرج بالدليل في الرواية ، وهذا التفريق الذي ذكرناه وجدنا انه يطابق الرواية الأخرى التي ذكرها النبي ص حيث تقوي الأولى مضمونا وان لم تثبت فرضاً سندا حيث يقول (صلى الله عليه وآله) :" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، ومن الواضح إن كثيرا من الأشياء تريب الإنسان فيتركها والموسيقى وكذا النظر نجد فيها هذا النوع من الريب والحرج.
مناقشة كلام المشهدي: وهنا نحاكم القول الذي ذكره المشهدي في تفسيره فنقول:
ان هذه الرواية التي ذكرت عن النبي (صلى الله عليه وآله) على فرض ثبوتها بعضدها بنظير الرواية الأخرى (دع ما يريبك الى ما لا يريبك )، لا تدل على المدعى، توضيحه: هل ان النبي بين المعنى الموضوع له الإثم؟ وبتعبير آخر: هل كان النبي بصدد ذكر التعريف المفهومي للاثم ؟فانه لو كان الأمر كذلك فسيكون النافع في المقام، ولكن الكلام من النبي (صلى الله عليه وآله) كان استنادا الى ذكر البرهان الأنّي ولعل المستظهر ذلك حيث انتقل النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) في جوابه من التعريف المفهومي الى البرهان الإني، فأعطى مؤشرا خارجيا وعلامة على الإثم وهو انه اذا حك في الصدر شيء فاعرف انه اثم، وهذا نقاش لهوجاهة، وللكلام تتمة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين |